كلما رأيت صور مدينة بغداد على شاشات التلفزيون، تذكرت بيتا من قصيدة أوردها الطبري في "تاريخ"ه، وابن كثير في "البداية والنهاية"، يقول بيت فيها: من ذا أصابك يا بغداد بالعين ألم تكوني زمانا قرة العين وتذكرت أيضا، من الأدب الحديث، رواية "ثلاثة وجوه لبغداد" للكاتب الأردني غالب هلسا. تبدأ الذاكرة في العمل والبحث والتقصي، والنتيجة: بغداد مدينة كبرى نازلة من السماء. كان قديما يقال لمن لم ير بغداد إنه لم ير الدنيا، واليوم يمكن القول إن كل من لم ير بغداد فإنه لم ير الجحيم حين ينزل إلى الأرض ويبدأ يشرب من دماء الناس. فمن فعل هذا ببغداد؟ تتوالى الصور. القنابل في الأسواق، والموتى بلا عدد محدود. الدماء على الأرض، والأشلاء كأنها قطع غيار من لحم وعظم ودم. هذا ما آلت إليه بغداد اليوم بعد جلال القدر في الماضي، وفخامة الأمر، وكثرة العلماء والأعلام، وتميز الخواص والعوام. كل ذلك يحضر حين تظهر بغداد على الشاشة كأنها جحيم العالم الحديث. وناسها قرابين الحروب القديمة والحديثة. كتابها وشعراؤها فروا خارجها، كأن هولاكو عاد لإتمام تمزيقه لمدينتهم الخالدة. ولم يبق يتردد سوى صدى أبي العلاء المعري: معانيك شتّى، والعبارة واحد فطرفك مغتال، وزندك مغتال أو عبد الغفار الأخرس (1225-1290ه): عليك دموع العين لا زال تنهلُّ ووجدي بكم وجد المفارق لا يسلو وكذا أسئلة معروف الرصافي إلى مياه دجلة، تتردد كالزلزال. وطيف الجواهري يحوم كالتاج في أعالي المدينة. تظهر بغداد في أشلاء الإرهاب، والدماء والضحايا. في كذب الساسة وباعة القول. في متهافتي الطوائف. بغداد في كفن. تنادي كل شيء مر منها عبر التاريخ،وكل شاعر أو ناثر أو مؤرخ. بغداد حظيت باهتمام الملوك والشعراء والروائيين، لكن باهتمام المؤرخين أكثر. مرت بها شدائد، سقطت بها أمطار غزيرة كانت ستذهب ببيوتها وجدرانها وأسوارها، ونهضت مثل طروادة. مر بها هولاكو. لكن ما يمر بها اليوم سيعصف بها إن لم يتدخل أبناؤها. فمن تلك الأبواب الكثيرة التي بناها مشيدها ستدخل رياح كثيرة.