كطائرة ورقية، يحملك الحنين إلى الملعب الشرفي بوجدة، لا تعرف كم مرة سبق أن طاف بك، ثم حط بك في مدارجه، منذ ذلك الأحد البعيد في سبعينيات القرن الماضي، عندما تابعت بعينين دهشتين مباراة لا تحتفظ منها سوى بالميم الصاخب … على مدارج نفس الملعب ، وبكرة لا تشبه تلك التي في مخيلتك، وأشكال ملونة ، ترافق لاعبي الطاس، بقلب عبد الرحمان اليوسفي وحواسك الكهلة ..أنت هنا ، بحنين رجل آخر ، هو في قلبك أكثر منك! برجك اليوم، حفلة مشاعر تكنها للرجل والفرقة التي نبتت في عواطفه منذ قرن من الزمن.. لم يكن الحضور في مباراة كأس العرش، رفقة رئيس الجهة ، بين الاتحاد البيضاوي، وحسنية أكادير،يخلو من شاعرية ، كما أنه لم يكن يخلو من مسؤولية مادية، تثبت أنك في جهة الدارالبيضاء- سطات، مطلوب أن تمثل الرياضة فيها، ومن المؤكد أن ذلك الشيئ كان جزءا من أسباب حضورك، هنا في الملعب الشرفي، في يوم بارد للغاية، جدير بمدفأة أو بسرير، لا بملعب في العراء.. منذ مدة تعتريني فُجاءة الكرة الدائرية، تتقاذفها الأقدام، كما تتقاذف شمس المغيب سماوات عديدة، ويتقاذف الثلجَ هبوبٌ يسير. ذلك لأن الملعب أصبح يعني أكثر من مشاعر هائجة ونفارات وأعلام، صار يحفل بالمجتمع. آه نعم، الملعب ضاج بالمجتمع، السياسي والأدبي.. إلى حدود شهور،كانت الأغاني، تسافر من ملاعب البلاد إلى شوارع العالم، وتأكدنا أن التراس، يصدِّرون أغانيهم، مع مشاهدة المباراة وينسى الناس النتيجة ويدندنون بالأغنيات.. دو ري مي فا صول لا سي إنه صولفيج يؤدى بالأقدام لا بالأيادي دو ري مي فا صول لا سي هي أغنيات كل أدواتها .. حبال صوتية..كما في كورال الكنائس والغناء الغريغوري.. هنا يقيم شباب الرجاء أو شباب تطوان كنائس من عشب اصطناعي ومدرجات، لقُداس أيام الأحد، للمسيح المعذب على صليب واسع.. لابأس! تتسامح البلاد مع أغنيتها الغاضبة ولا أحد يغضبه غضبها.. وفجأة يدخل جورج أورويل .. لقد شرح اهل الرجاد المقصود بالغرفة اياها، ولخصوا ذلك في شعار «يامعذب الوداد»، وانتهى التأويل ، مايعجبني في الأمر هو استدعاءات خيالية ذاتية.. كنت منذ أسبوع أو عشرة أيام، أخرجت رواية 1984 من المكتبة الحائطية : قلت سأعيد قراءتها، لعلي أقيس، بصفحاتها كم اختلف العالم منذ أن قرأتها أول مرة، في زمن النقد القاسي لنظام الحكم وللحرية الفاتنة في ازار الظهيرة الحاسمة في محراب الجامعة.. لم أكن أفكر بأن السقف التخييلي سيصل إلى الملعب الشرفي بالدارالبيضاء… تبدأ الرواية هكذا: «كان يوما باردا من أيام نيسان بسمائه الصافية،وكانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر..»… تماما كما لو كان الأحد الماضي الذي جرت فيه المباراة، التي رفع فيها الشباب المشاهدون تيفو بالغرفة 101…. في صفحات الرواية تندفع الكلمات من بين شفتي البطل ونستون ويسأل: -ماذا يوجد في الغرفة 101؟ لا يتغير التعبير المرتسم على وجه أوبراين الذي يستجوبه ليطهره من الأفكار التي لا تليق بعالم الأخ الأكبر ويجيبه بجفاء: -إنك تعرف ماذا يوجد في الغرفة 101 يا ونستون، بل إن كل شخص يعرف ماذا يوجد في هذه الغرفة..» الغرفة المرقمة بذلك الرقمي التيفوزي، غرفة إشكالية في الرواية، في حياة بطل الرواية، كما يدل على ذلك الوصف الذي ثبت به أورويل غرابة الغرفة وقسوتها بالفقرة التالية: «لم يحدث سوى مرة واحدة أن استرق السمع لحديث هامس دار بين سجينتين من سجينات الحزب ولم يفهم منه سوى أنه يدور حول ما دعي بالغرفة (101) لكنه لم يدرك المغزى»..
والحال أن الذي يرتعب من الغرفة إياها، يوجد في …زنزانة! بمعنى أن أورويل يضاعف من قسوتها، بحيث إن الذي تهيبها، يوجد في أقبح منطقة من العالم ، تسلب الحرية وترخي بظلال اليأس على المعتقل..سواء »كانت معلقة في الهواء أو مدفونة في أعماق سحيقة«.. المتهمون لايعرفون التهمة، لكنهم بعد الغرفة يقرون بها: امبلفورث الشاعر يقول إن سبب اعتقاله هو تركه كلمة الله في قافية بيت شعري، وبارصون يقر بأنه اقترف جريمة فكر.. وهو يقول انين لا أظنهم سيعدمونني رميا بالرصاص لخروجي عن الطريق القويم مرة واحدة..لأنه ارتكب الجريمة أثناء … نومه!» المتهم يعرف أن التي وشت به هي ابنته الصغيرة، وهو ما يعطينا فكرة عن المجتمع الذي ينتقده اورويل، مجتمع الأخ الأكبر الذي يعرف كل شيء ويدين له الجميع بالولاء، لأنه زعيم الحزب الأكبر.… في الفقرة التي يذكر فيها الغرفة من جديد يقول اورويل :كثير من السجناء يجيئون ويذهبون دون أن يعلم أحد بما آل إليه مصيرهم، ومنهم امرأة ارتعدت فرائصها وامتقع لونها بمجرد أن سمعت الضابط يامرها بالذهاب إلى الغرفة 101.. الفزع الذي توحي به الغرفة، هو الذي عبرت عنه شخصية أورويل، الذي سماه بالرجل ذي الوجه الشبيه بالجمجمة، والذي خرّ راكعا عندما قال الضابط خذوه إلى الغرفة إياها وصرخ» اقتلوني، أطلقوا علي الرصاص،… هل من أحد تريدون أن أشي به شاوروا لي من يكون .. إن لي زوجة وثلاثة أطفال أكبرهم لا يتجاوزون السادسة،فلتذبحوهم أمام عيني وسأقف متفرجا على ذلك، ولكن لا تذهبوا بي إلى الغرفة 101«.. بعد حصص من التعذيب الذي لا يمكن احتماله، ياتي دور معرفة أدوار المكان /الغرفة: يسأل اوبراين:لماذا نأتي بالناس إلى هذا المكان حسب تصورك؟ -كي تجعلونهم يعترفون -كلا، ليس هذا هو السبب،حاول مرة ثانية. -كي تعاقبوهم « فصرخ فيه اوبراين :»كلا!« وتغيرت نبرة صوته تماما وارتسمت على وجهه علامات التهجم والشدة ثم قال :كلا، إننا لا نأتي بأحد إلى هنا كي ننزع منه اعترافا أو ننزل به عقابا، هل تود أن تعرف لماذا أتينا بك إلى هنا؟ لمداواة علتك! لنجعل منك سليم العقل، هلا فهمت يا ونستون، فما من أحد نأتي به إلى هنا ويخرج قبل أن يبرأ من علته؟إننا لا نكترث للجرائم الحمقاء التي اقترفتها، فالحزب لا يهمه ما تأتيه من أفعال مكشوفة، إنما يهمه أكثر ما يدور في رأسك من أفكار، نحن لا نحطم، أعداءنا فحسب، إنما نغير ما بأنفسهم، هل تفهم ما أقصد بذلك؟«…….. هل المصادفة التي دفعتني إلى العودة إلى رواية أورويل، أنا الذي لا أرتاد الملاعب، وأتابع في الغالب المباريات المتفردة فقط،نابعة من إحساس عام؟ هل النقد الذي وجهه أورويل لدول المعسكر الشيوعي، والحياة الحزبية المنغلقة والمبنية على الخضوع والمراقبة، تنسحب علي بلادنا في اللحظة التي نحن فيها؟ شيئ ما لا ينبغي أن نصدر فيه حكما بالسلب أو الإيجاب يسكن هذه التفاصيل، مع العلم أنه لا علاقة للأخ الأكبر ببلاد ك المغرب، ولا بعمليات غسل الدماغ بالجو العام، لكن هذا الشي الذي يسكن اللامسمى، يستوجب قراءة أخرى للملاعب كما عند ماوتسي تونغ الذي كتب ذات مرة : إذا دخل شعبك إلى الملعب فادخل معه!».. هناك بلاغة للتفاصيل التي يصعب أحيانا صياغتها في أفكار واضحة، كان الشاعر الفرنسي جان بيير سيمون يقول عنها، هو تفصيل كان ريلكه يخفيه تحت جناح ملاك ورامبو يخفيه في الحمى..». الذي كتب الأغنية، ولحنها كان يملك اللغة المباشرة، الصريحة المموسقة، والذي أخفى الرسالة في زوايا الغرفة 101 في المقابلة، كان أيضا يلحن استعارة من أدب آخر غير الأدب المغربي، لكنها لغة عالمية بفضل ما كتب وقيل عنها..تتحدث عن عالم حزبي مغلق يراد له أن يعبر عن عالم بلد مفتوح كثيرا ، لا يساور أورويل في شيء أبدا.. أعود إلى الحنين لكي استلني منه، وانتبه إلى أن اللغة الأدبية، دخلت الملاعب، كما ذهب بي التفكير إلي ملتقى روافد الروح والخيال. في قصائد اندري شديد، حديث عن الحركة الكثيفة للمدن، كما في «البحار القديمة»، التي نستغلها لكي ننعش خطواتنا المتآكلة، والتي بدأت تخذلها الشجاعة.. يطالبنا الشاعر بأن » نعيد ، هناك بعيدا ميلادنا«.. كثيرون منا سمعوا الأصوات في الصوت الذي يطلع من هناك نسمع الصوت المعاند الذي يرقص فوق السكاكين وعلى الطريق، كل شيء يرتجف والتهديد يعبر عن نفسه في الأغنية الحادة مثل سكين، مثل مياه في أعلى الجبل!