لم تمثل التجربة التونسية فى التحول من دولة الحكم الشمولي إلى دولة الحكم الديمقراطي حدث نوعى فحسب كونها تقع فى فضاء الثقافة العربية الإسلامية؛ ولكنها وعلى مدار ما يقارب قرنا من الزمن شهدت العديد من التحولات الاجتماعية والثقافية الجمعية، ويعود هذا لموقع تونس الجغرافى المطلة برأسها نحو الشمال الأوروبي وبأقدامها راسخة فى أفريقيا، وهو ما أهلها على مر التاريخ أن تكون حاضرة لاستقبال الاشعاع الحضارى والتفاعل معه وصبغه بالبصمة التونسية، فكانت تونسقرطاج؛ وحنا بعل وتونس الملكة ديهيا وتونس الزيتونة وابن خلدون وخير الدين التونسي وصولا إلى تونس الوطنية البورقيبة وتونس ثورة الياسمين التى كانت أول الغيث فى موجات الربيع العربي والتى ما انفكت تضرب العالم العربى منذ قرابة عقد من الزمن، ولا يبدو أنها فى طريقها للاضمحلال بقدر ما تبدو معالم تشكيل موجات أخرى جديدة له تلوح فى الأفق. تلك هى تونس التى أثمر فيها الربيع العربى ؛ فثمة عبق من الحداثة ورثته تونس خلال القرنين الماضيين حيث تأثرت بأفكار وتجربة التنوير الأوربية والتي تبناها فيما بعد مفكرين وسياسيين تونسيين مثل المفكر خير الدين التونسى واستطاعت تحويل تلك الأفكار إلى تجارب واقعية، وهو ما بلور الشخصية الوطنية التونسية على يد وطنيين مثقفين تقدمهم الحبيب بورقيبة؛ وانعكس فى حركة النضال ضد المستعمر الفرنسي والتى كانت ذات طابع سلمى احتجاجى فى جل مراحلها واستطاعت أن تحقق الاستقلال بأقل الخسائر وبحكمة قادة سياسيين مفكرين ومثقفين استطاعوا قراءة الخارطة السياسية الدولية فى خمسينات القرن الماضي بحكمة لكونهم جزء من مجتمع على تواصل ثقافي وجغرافي وثيق بمحيطه الأوروبى والعالمي وكذلك العربي والإسلامي. واليوم عبرت تونس مرحلة الربيع العربي بنجاح لنفس تلك الأسباب، فثمة مجتمع مثقف وثمة قادة سياسيين مفكرين ومنفتحين على العالم، وهذا ما وفر لتونس ميزة إحداث توزان قوة بين القوى الناعمة فيما بينها والمتمثلة فى القوى السياسية المتعددة الايديولوجيات والنقابات والاتحادات العمالية والتى يتصدرها الاتحاد التونسى للشغل الذى تحول إلى نموذج يحتذى به لكل الدول النامية فى خوض النضال النقابي المستقل بمعزل عن التأثر بالتيارات السياسية، وثمة توازن آخر أحدثه هذا المجتمع التعددى بطبيعته بين جميع التيارات السياسية بكافة مشاربها الحداثية والتقليدية، وهذا التوازن المتكامل أعطى كل تلك القوى الناعمة ثقل فى ميزان القوة مع القوى الصلبة للدولة ممثلة فى السلطة التنفيذية بقوى الجيش والأمن فى معادلة توازن قوى الوطن، وتلك هى معادلة الردع الوطني السحرية لكل من تسول له نفسه الاستبداد؛ وهى التى استطاعت تونس العبور من خلالها إلى ما نراه اليوم من عبور آمن إلى مصاف الدول الديمقراطية الحرة؛ والذى توج بانتخاب المرشح المستقل الدكتور قيس سعيد أستاذ القانون الدستورى بجامعة تونس رئيسا جديدا لتونس من بين أكثر من 26 متنافس على المنصب فى جولتين انتخابيتين كثير منهم كان ممثل لأحزاب كبيرة وقديمة كنداء تونس وحركة النهضة؛ وكلهم خسروا وانتخب الشعب الحر من رأى بوعيه السياسي وبثقافته الجمعية المتراكمة عبر التاريخ؛ ومن رأى فيه مرشحهم القادر على الحفاظ على معادلة الردع الوطنى. علينا نحن الفلسطينيين أن نتعلم الدرس من التجربة التونسية الرائدة في كيفية صياغة معادلة الحرية وإحداث توازن ما بين القوى الناعمة والصلبة في حالتنا الفلسطينية ونذهب باتجاه تجديد الشرعيات بعد فشلنا الذريع في تحقيق المصالحة وانهاء الانقسام لنصل إلى بر الأمان بشعبنا الفلسطيني الحر الذى يستحق إعادة إرادته الشعبية المسلوبة منه منذ سنوات طوال . *أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية