« الصمت خير لك من داء الكلام « الجاحظ تعد تجربة الراحل محمد غرناط، من التجارب الرائدة والعميقة التي تؤثث المشهد الروائي والقصصي الحديث بالمغرب ، بدءا من مجموعته « سفر في أودية ملغومة « سنة -1978" مرورا بمجاميع قصصية ونصوصا روائية شتى. وضمن هذا السفر الروائي والقصصي تلتمع رواية " متاع الأبكم " الصادرة عن دار الأمان 2O01 في حلة صغيرة وأنيقة ، تقع في 145صفحة ، وتحتوي على 26 فصلا بتراء من العناوين . و"متاع الأبكم " هو العنوان الذي اختاره الراحل غرناط لتدشينه الروائي ، وهو اختيار لم يكن معزولا عن نصه ، وإنها هو دلالة مأخوذة من صميمه، كما أن الكاتب عندما اختار عنواناً فإنه يقصد توجيه القارئ نحو المجال الدلالي لنصه، منيراً وكاشفاً كالثر يا كما يرى جاك ديريدا هكذا يتألف العنوان من كلمتين " متاع والأبكم" ، تحيلنا الأولى على " المَتَاعُ كلُّ ما يُنْتفع به" ، والثانية تحيل على الخرس وعدم الكلام . هكذا يسجّل الصّمت حضوره منذ فاتحة العنوان. ليتواصل في كامل الرواية متجلّيا ، حتى خاتمة الرواية لم تعدم من الصمت حظا أيضا نقرأ في ص : " فتح ساكوشه سحب منه حكايات من إفريقيا وعلبة سجائر ، ثم مد ساقيه حتى لامستا الأرض وأشعل سيجارة ، وراح تارة يقرأ، وأخرى يرفع بصره وينظر بعيدا …" ص145 ، فقد حرص على أن تكون النهاية فيه مفتوحة تتيح لمتلقّيها إكمال نقصها واستنطاق صمتها الكثيف . تحكي رواية «متاع الأبكم» عن مروان الذي يشتغل موظفا بإحدى شركات التأمين بالدارالبيضاء ، ولأن مدخوله الشهري لا يكفيه لمواجهة شراسة الزمن المغربي ، ليغوص وزوجته «دامية» في الحلم بالأرض الذي تركتها أمه ب» العامرية « ، وبعد فترة قضاها هنا ، تنتهي بجفاء الخال ومساوماته المالية التي لا تساوي شبرا من الأرض ، يقرر مروان اللجوء للقضاء ويؤوب إلى الدارالبيضاء، ليواجه بعد خيانة الخال للأمانة ، بخيانة دامية له مع بائع العطور ليتخلى عنها بهدوء وينطوي على خيباته ومعاناته وصمته ، في هذه الرواية يكتشف القارئ شخصية « مروان « التي تقول كلمتها في الصمت، دائمة الشرود والتأمل والشرود وتمشي إلى صمتها بسرعة، قصير حينا « صمت قليلا ، صمت قصير» وطويل حينا آخر « مكث لحظات جامدا « ، وللاقتراب من موضوعة الصمت عن كثب، نقرأ في لسان العرف :» صمت يصمت صمتا وصموتا وصماتا ، واصمت :طال السكوت ، والتصميت: التسكيت، والتصميت أيضا : السكوت وهو نقيض الكلام والنطق وهو عدم الكلام وغياب التصويت «. وفي الموروث القديم، يستوقفنا اهتمام العرب القدامى بالصمت الذي استأثر بنصيب وافر من العناية، لأنهم أدركوا أهميته وفضّلوه على النطق، لأنّه في نظرهم صفة يتحلّى بها الإنسان . فتمنحه مزايا عدة وتقيه من داء اللّسان ، والأكثر منه أنهم اعتبروا الصّامت ناطقا من جهة الدّلالة ، لأن الكلام، يقول الكثير ومع ذلك لا يقول ما ينبغي قوله. ومن القلّة الذين خاضوا في قضايا الصمت في الدرس النقدي الحديث ، نذكر « بيار فان دان هوفيل «الذي قسمه إلى قسمين، هما الصّمت الاختياري والصّمت الاضطراري. الأول قوامه الفراغات والفجوات والبياضات الموجودة في النّص،أما الصّمت الاضطراريّ فهو الذي يُحيل في النصّ على المسكوت عنه والضّمني، أو ما هو من الوعي الباطني أثناء فعل التّلفّظ. لقد عمد غرناط إلى هاتين التقنيتين من الصمت و التي تتجلى في توظيفه للبياض والغياب بشكل لافت للقراءة ، والتي تواجه عين المتلقي وهو يفكك شفرات النص ، حتى أن كل فصول الرواية لا تخلو منه ، من نماذجه نقرأ : « المهم … المهم تعشينا في بيت سي لكبير رحمه الله وقال لنا مبتهجا أخيرا نادى علي ولدي أبويا « هز رأسه وقال : هذا حال الدنيا … وحال الدارالبيضاء يامروان « ص 47 يتضمن الشاهد أعلاه نموذجين للبياض الذي يحتاج إلى ملء، ويبدو أن الكاتب تقصد هذا الفراغ حتى يتيح للقارئ فرصة التفاعل وإنتاج المعنى الذي يهتدي إليه القارئ – الناقد ، والذي من شأنه تنشيط فعل القراءة وإثراء النص، وكذلك يرى ايزر أن «ملء الفجوات يعني أن القارئ يقيم حالة من الاستمرارية أثناء عملية القراءة ، وهو مطالب بملء الفراغات كي يكمل الواضيع بالشكل الذي يرضيه ، وأيضا بالشكل الذي يتوافق مع مخططات النص، وبذلك يحولها إلى نتاج ملموس «. في الفصل الأول من الرواية نقف على الصمت في حالاته العاطفية بوجهين وبحسب أسباب النزول النفسية ، فهو أحيانا يأتي ليعبر عن الرضا والحب ، «وقبلته قبلة خفيفة فبرقت عيناه ، واهتز مثل حيوان اشتدت شهوته إلى فريسته ، وقال : اللي فرط يكرط وصمت قليلا …» ص8 ثم تعبيرا عن عواطف لا يمكن للسارد البوح والتصريح بها ، لأن الكلام قد لا يمنحها دلالاتها وكفايتها نقرأ « بدت مثل نخلة وارفة ، ممتلئة قوة وشهوة ، رمقها مثل خائف عاجز وبلع ريقه ، فتح فمه ليتكلم فأطبقه». ويتوالى إنتاج الصمت الناتج عن شعور بالقرف والتقزز واستراق السمع لما يستنكره» مروان» من زوجته « دامية « حتى لا تتحول الثرثرة إلى عدوى : « وهي تنتحب وتشكو وتشتم وتزفر ، وهو كالمطعون منحن على ركبتيه ينظر بقرف لا يعرف ماذا يقول ، دعاها بإشارة من يده إلى أن تصمت ، فصمتت» : ص 8 . وفي سياق تأسيس الراحل محمد غرناط ما أمكن من الصمت والمساحات الفارغة، يأتي الصمت صورة حقيقية للعجز الناتج عن غطرسة الخال وتعطيله للحوار :» ونادى على الشاب النحيف وقال له آمرا : _ هيء لي بسرعة لوازم الصيد وسار باتجاه الباب الكبير ، تبعه مروان وإبراهيم في صمت « ص 66 ويتصاعد ترمومتر هذا الصمت ليكون تخويفا من الموت :" إن الحاج الغزواني سيخرج بعد قليل وبيده بندقية الصيد ، ويمكنه إذا غضب أن يطلق النار عليهم ، فتبادلوا نظرات سريعة ومضوا صامتين "ص91 يتحول الصمت هنا إلى حقيقة ، حيث صمت مروان وإبراهيم عن البوح وعجزهما عن التحرر من والمسكوت عنه ، وعليه ، يتحول تسكيتهما إلى بوح لدى المخاطَب العارف بأسرار الصمت ولعبه الجمالي . ومن التقنيات التي استثمرها الكاتب في توظيف الصمت ،تقنية الإضمار ونستدل عليها بالمسكوت عنه وغير القابل للبوح الشفاف :" " .. واستطرد قائلا إن اثنين من أبنائه يشتغلان بشمال المغرب، ولكنهما لم ينسياه ، فمن حين يتوصل منهما ببعض المال ، وابنته ربيعة تعيش بمدينة الصويرة ، ولا يعرف ماذا تفعل هناك ، توقف وصعد مروان زفرة طويلة ، ربما استعاد ذكرى من ذكرياته معها " ص20 كلاهما يسرعان السرد بهدف حذف وإلغاء ما يمكن أن يزعج أو يفضح ، " مروان بتسكيته لذكرياته مع " ربيعة " ، و" با الطاهر بتوقيفه للكلام الذي يخفي خلفه شيئا غائبا ومحرجا . وأما الإضمار في علاقته بالزمن المحذوف نقرأ في ص50 " أخذ إبراهيم طريقه إلى دكانه ، ومضى مروان باتجاه مقهى النور . الصباح مازال في أوله ، لكن المدينة أفاقت بكاملها" هكذا يسبق صباح المدينة ، دون أن يصرح به،إذ لا يعلم المتلقّي من الخطاب الملفوظ حقيقة الزّمن الذي مضى من حياة البطلين قبل صباح المدينة ، إذ يلوح كأنّه ثغرة وقع إغفالها من الأحداث والتي لا يدكها غير السارد ويخرق " مروان " دائرة الصمت وتلويناته في الفندق وأمام المرآة على أساس أنها هي التجسيد للحقيقة وجوهرها ، والحقيقة ليس في الأخير سوى مرآة مصقولة، إنها "تملك بشكل عام المعرفة والحقيقة، إنها تكشف اللامرئي بداخل الروح" يقول فريد الزاهي . فهي وسيلة مروان لإظهار "مروان" الغائب والهارب بجرأته ومواجهته وصخبه :" ترك المرآة وأخذ يذرع أرض الغرفة ، ثم عاد إليها وأخذ يحدق في وجهه وهو يقول: ىالأرض من نصيبي ، ومن لا أرض له لا حياة له ولكن أبدو كما لو أنني مقبل على استجداء الحاج الغزواني الماكر القاسي. صمت دون أن يرفع عينيه عن وجهه " ص71 وعن الصمت المصحوب ببعض الحركات والإيماءات والصفات نقرأ : «حرك مروان رأسه ولم ينطق بكلمة _ حرك رأسه بالنفي _ وبدا هائما في مكانه _ جامدا مثل تمثال – « أمسك عن الكلام ، أطبق فمه ، لا يكلم أحدا ، جامدا مثل تمثال ، لم ينطق بكلمة ، كنت أبكم ، تسكت ، لم تقدر على الإجابة ، انقطع عن الكلام ….» الإضمارات نستدل عليها بالزمن المحذوف الذي يسبق صباح المدينة ، دون أن يصرح به،ونستدل على « اخذ إبراهيم طريقه إلى دكانه ، ومضى مروان باتجاه مقهى النور . الصباح مازال في أوله ، لكن المدينة أفاقت بكاملها» ص50 إذ لا يعلم المتلقّي من الخطاب الملفوظ حقيقة الزّمن الذي مضى من حياة البطلين قبل صباح المدينة ، إذ يلوح كأنّه ثغرة وقع إغفالها من الأحداث والتي لا يدركها غير السارد. تقدم الرواية هذه الصورة الدالة للصمت في تبنين مميز يتأسس على تقنيات جمالية متنوعة، وبالمناسبة ، نشير إلى بعضها : أول شيء يواجهنا في «متاع الأبكم « هو لغتها، هذه اللغة التي تتخذ لها أشكالا متباينة والتي تكسب النص قيمته وجماليته ، ذلك أن الرواية « لا يمكن أن تستحق اسمها إذا لم تكن خليطا من المحكي والنشيد وأشكال أخرى» حسب باختين، وبخصوص التعدد اللغوي في الرواية، نلاحظ تناسل مجموعة من اللغات والنصوص ، وفي سياق الباروديا الأسلوبية يعمد الكاتب الى التهجين اللغوي فيمزج في الجملة الواحدة بين الفصحى والدارجة كما في الشواهد التالية :» واهتز مثل حيوان اشتدت شهوته إلى فريسته وقال : «اللي فرط يكرط يادامية» 8 ، وهي صيغة ووسيلة للتعبير عن موقف بسيط من مجتمع ينبني على المكر والحيلة . وقد يعمد أيضا إلى تفصيح الدارجة :» بسم الله عليك أنت في عار الله « ، والذي تضفي على هذا الملفوظ لدامية نوعا من الألفة والعفوية كما تؤكد مدى ارتباطها ببيئتها المحلية . وفي سياق هذا التهجين تسترفد الرواية من اللسان الأجنبي « الكونطوار ، الشاكوش ، ليموناد ، الميرسيديس « ، لتشكل بذلك نسيجا بوليفينيا كما في الموسيقى . وبخصوص التفاعل النصي تستضيف الرواية النص الديني ، ومن هذه النصوص المتخللة : « الانزياح عن الصيغة الأصلية حيث يلحظ غياب المزدوجتين ودمجها في تفاصيل الحكي وتحويلها الى حوافز سردية ، لكن دونما مساس بجوهرها المتعالي : «أعقلها ياصديقي وتوكل فمدبرها حكيم»، كما أن توظيف الكاتب لهذه الصيغ والملفوظات القرآنية لا يهدف الاستشهاد والتنصيص أو بهدف تكريس اللغة التراثية أو استحضار الوازع الديني، وإنما بهدف استثمار اللغة القرآنية لما تحتويه من بلاغة وابتكار لدلالات جديدة لها ارتباط بأحداث الرواية. وفي سياق هذا التعدد اللغوي وإثراء البنية الحوارية ، تلتقط الرواية من الأمثال المغربية الدارجة « اللي فرط يكرط « ، « لا ديدي لا حب الملوك « والتي تنبثق من جدلية اجتماعية من شأنها إغداق ماهو جمالي وتخييلي وحواري على» متاع الأبكم «. يلحظ القارئ استثمار الكاتب لبعض الشخصيات التراثية التي تنوعت وتعددت ما بين: شخصيات من التراث الشعبي « احديدان ، عائشة قنديشة « ، وأخرى أدبية» دوستوفسكي « ، وقد كان لهذه الشخصيات أثر في تعميق التجربة الشعورية ، وكذا ارتباط الكاتب بالذاكرة الأدبية وكذا الذاكرة الشعبية ومحيطها وقدرته على توظيفها وتطويرها والإضافة إليه. وصفوة القول ، نخلص إلى أن الراحل محمد غرناط نجح في اقتحام الصمت ولغاته المتنوعة والمتعددة ، والذي حرصنا على ملامسته والاقتراب منه ، ومدى وعي الكاتب به وكيفية توظيفه في روايته « متاع الأبكم « من خلال ارتباطه بشكل وطيد ب» مروان» –الشخصة الرئيسية في الرواية، ومن خلال ارتباطه بالذوات الأخرى وما ينتجه من غياب وثغرات وفجوات ومن مشاعر ومواقف، حافلة بالجمال والسؤال .