مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الوعي بالسقوط إلى الوعي بالكتابة.. قراءة في المجموعة القصصية «دموع باردة» للسعدية الفاتحي

عرف المشهد القصصي بالمغرب تنويعا في الكتابة ، من حيث ارتفاع عدد الكاتبات والكتاب، ومن حيث جمالية الكتابة وهندسة البناءات القصصية ، ومن حيث نضج الوعي بأهمية هذا الجنس الأدبي أو اللون التعبيري في التقاط اليومي وتمثيل الظواهر الاجتماعية والنفسية خاصة والإنسانية عامة… ومن بين الأسماء الصاعدة في هذا المجال، نذكر الكاتبة السعدية الفاتحي في مجموعتها القصصية ” دموع باردة ” .
العتبة وتنوير الداخل :
كشف الدرس النقدي المعاصر ما للعتبات النصية من أهمية بنائية وتدليلية في عملية تلقي النص الأدبي ، سواء كانت تلك العتبات عناوين أم مقدمات أم مقتبسات أم إهداءات … إنها تتيح للقارئ الولوج إلى عوالم النص والاقتراب من مداراته الدلالية الكامنة أو المتوارية بين طياته اللغوية. ونظرا لأهمية هذه العتبات سنقف عند :
العنوان :
يشبه العنوان الثريا التي تضيء النص ، إنه أثر تدليلي يحمل القارئ إلى عالم النص ويؤسس أفق توقعه . فكيف ذلك بالنسبة ل ” دموع باردة ” كعنوان ؟
يتألف هذا العنوان من كلمتين:
– دموع: جمع دمعة، وهي من المادة اللغوية ” د،م،ع” والدمع ماء العين . وله معان ودلالات أهمها السيلان والامتلاء والفيض ثم البكاء . ومعلوم أن الدموع تتدفق من الغدة الدمعية باتجاه سطح العين عبر قنوات صغيرة ، نتيجة انفعالات عاطفية شديدة أو مؤثرة مثل الفرح أو الحزن أو قد تكون نتيجة عمليات فيزيولوجية مثل الجراحة أو نتيجة عوامل خارجية من قبيل الحساسية . وللدموع كما هو معروف، وظيفة محورية تتمثل في حماية العين من الجراثيم وتليينها. وعامة تنقسم الدموع إلى ثلاثة أصناف أساسية: دموع أساسية أو قاعدية ثم دموع رد الفعل نتيجة تهييج للعين ثم أخيرا دموع العاطفة أي دموع الانفعالات النفسية التي قد تكون سلبية أو إيجابية… فأي الدموع تحضر في النص ؟ وما دلالة ذلك ؟
– باردة: صفة ونعت للدموع، وهي نقيض الحارة. والدموع عامة إما باردة أو حارة حسب نوعية الانفعالات التي تتأثر بها الذوات . وكلما تنوعت الانفعالات والوضعيات العاطفية والمؤثرة في الإنسان إلا وتنوعت تبعا لها الدموع . هكذا تكون الدموع ناتجة عن انفعال معين . وهو رد فعل الذات أو تأثرها في وضعية معينة : الفرح ، الحزن ، المرض ، الموت ، الخوف ، الإخفاق ، الفشل، الاغتراب ، الندم ….وتقترن الدموع أيضا بالبكاء ، وهو من الانفعالات الشديدة ذات التأثير الواضح في الإنسان . فقد يبكي لأسباب خارجية أو داخلية ، لحالات عاشها أو تجارب قاسية مر منها ، أو وضعيات وجودية تأثر بها .
يرد العنوان كتركيب لغوي في المجموعة القصصية مرتين : في قصة ” عيب خلقي ” حيث تصف الساردة امرأة ترتق بجدار حجرتها كل الثقوب هي تبكي و تكتب بالطين دموعها الباردة …والدموع هنا ناتجة عن انفعال عاشته المرأة لما وعت بعجزها وقصورها عن سد ثقوب حجرتها أو بيتها . وهناك تشابه أو تشاكل بين البيت والجسد ، فهما معا يستران ويحميان الذات ويستران عيوبها . والمرأة العربية عامة تحمل في وجودها لعنة الفضح أو لعنة العيب الوجودي اختلافا عن الرجل. ومتخيل العيب في الثقافة العربية تأسس حول المرأة أكثر مقارنة بالرجل . كما يحضر العنوان بنفس التركيب اللغوي في قصة ” دموع باردة ” حيث تحكي القصة عن امرأة معاقة ، نسجت علاقة حب مع شخص عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وفي محاوراتها الأثيرية لم تخبر المرأة محدثها عن إعاقتها ، اعتقادا منها أنها قادرة على تحدي تلك الإعاقة . لكنها تبكي وتذرف دموعها الباردة حين شعرت بأن ابنها يخاف عليها أن تسقط حين تصعد الدرج . فالعلاقة الجديدة شبيهة بالدرج في الصعود والتعلق ، لكنها تتطلب مهارات واستعدادات نفسية وبدنية ، وهذا ما تفتقده البطلة في القصة . كما أن هذه الوسائط الجديدة أتاحت آفاقا جديدة للعلاقات البين إنسانية ، غير أن للواقع سلطته وقهريته.
من خلال هاتين القصتين ، يتبين أن الكاتبة تسرد على لسان شخصيات القصص – و هن في الغالب نساء- وضعيات انفعالية مختلفة ومؤثرة ، هي السبب في البكاء وبالتالي إسقاط الدموع الباردة . وكلما كانت التجارب قاسية والأحاسيس سلبية ومتواصلة أو دائمة ، كانت الدموع باردة …وهناك وضعيات مختلفة رصدتها الكاتبة على لسان رواتها حيث يسردون انفعالات، ويحكون عن أحاسيس تجعل العين تدمع والقلب يحزن ولعل أكثر الانفعالات حضورا في المجموعة ككل انفعال الحزن .كما أن البرودة هنا تشي بالمعاناة والقسوة والمحنة التي تعانيها الذوات في عوالم النصوص التخييلية .
الإهداء :
هو من بين العناصر المحيطة بالنص أو اللاحقة به مباشرة . وتكمن أهميته في تحديد هوية المهدى إليه في علاقته بالكاتب / بة من جهة و بالمحتوى من جهة ثانية . وفي ما يخص هذا العمل الفني ، يتحدد المهدى إليه من خلال اسم الإشارة ” تلك ” الدالة على البعد والقرب ، الانفصال والاتصال . وهناك محددات أخرى تشي بهوية المهدى إليه: ” التي لا تعرف للتوبة بابا ” فّإذا كانت التوبة تعني الاعتراف بالخطيئة والندم على ذلك الفعل ، والعزم على عدم المعاودة ما اقترفه الإنسان من آثام ، فإن المهدى إليها هنا تبدو في وضع ملتبس ، قد يحار في الحكم عليه بعض من في جعبتهم لفائف الأحكام وصكوك الإدانة لمختلف النوازل. إن المهدى إليها تتحدد ضمن دائرة المؤنث ، فهي إما مذنبة أو طاهرة ، عاصية أو طائعة، مقدسة أو مدنسة ، وهي لا تعرف للتوبة بابا أي لا تعرف كيف تتوب ؟ أو لا تعرف للتوبة طريقا …وهذا ليس من باب المعاندة أو الإصرار على الذنب أو الجهل بأدبيات التوبة . وإنما من باب الإيمان بأنها بعيدة عن مواضع الخطيئة . و هناك محدد ثالث لهوية المهدى إليها : ” لا تعرف للشهقة عبابا ” وهنا تضاعف الكاتبة غموض ولبس هذه الهوية ، إنها في حالة احتضار أو انتصار، في حالة ضعف أو قوة ، إذ من معاني ” شهق ” تردد النفس في حلق صاحبه وأن يسمع له صوت مثل شهقة المحتضر . إن الكاتبة في إهدائها تنفي عنها ما يوحي باحتضارها تلميحا إلى قوتها وصبرها ..
إن المهدى إليها حاضرة غائبة ، قريبة بعيدة، منفصلة متصلة . وفي الجزء الثاني من الإهداء ، تتحدد هوية المهدى إليها ” إليك يا نقطة مني ” هنا يتأكد الاتصال والقرب والعلاقة النوعية بين الكاتبة والمهدى إليها . هكذا يصبح جسد وكيان الكاتبة مدفنا لحروف الغائبة الحاضرة ، إنها الأنا الثانية للكاتبة ، أناها التي صادر الآخر حقوقها وضيق من مجال حريتها وأقبر أحلامها وآمالها وضاعف أحزانها …
المقتبسات:
من بين مقتبسات هذه المجموعة مقتبسان:
الأول : خبر مروي عن أبي الدرداء ، يتمحور حول فكرة الترويح عن النفس والسعي إلى تجنيبها أسباب السأم والملل . وهذا شأن طبيعي يلائم الوجود الإنساني من حيث أهمية المرح والترفيه سعيا إلى تجديد العزيمة وشحذ الهمة . لأن الحياة لا تقوم فقط على الجد والعمل فقط بل هناك آثار سلبية تسبب الرتابة. وتوظيف هذا المقتبس بعيد عن التوظيف الديني، لكنه قريب من السياق الفني والأدبي . إذ الكتابة والتعبير الفني نشاطان للترويح عن النفس و تفريغ ما ران على القلوب من هموم وغموم، واستجلاء الآلام الذاتية والعذابات المقررة على مستوى الحياة الشخصية و تحريرها من ثقل ذلك . الإبداع لعب ، واللعب ترفيه وترويح . وبالتالي فالكتابة في هذه المجموعة جاءت ترفيها وترويحا عن النفس وسعت من خلالها الكاتبة أن تكون علاجا واستشفاء كما هو الشأن في ما يخص القراءة.
الثاني : إذا كان المقتبس الأول معروف المصدر من جهة قائله ، حيث المروي عنه شخصية تراثية، فإن الثاني مغمور . والراجح أنه بعض الأثر ، ويشاطر الأول في نفس المضمون أي إراحة النفوس وتليينها من أجل تجنيبها الصدأ . والصدأ هنا على سبيل المشابهة، إذ مثلما يصدأ الحديد تصدا النفوس. وصدأ الحديد طبقة تعلوه وتحدث نتيجة اتحاد هذا المعدن بأكسجين الهواء. إنه مثل الكدرة التي تعلو المعادن فتحدث فيها تشويها واختلالا في تركيبها الكيميائي والوظيفي أو الاستعمالي . وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف تصدأ النفوس أو تتأكسد ؟ إنه بالأوساخ المعنوية من ذنوب و خطايا وهموم ومعاناة ورتابة وسأم . ومثلما فكر الإنسان في كيفية محاربة صدأ المعادن فكر أيضا في إزالة صدأ النفوس، وذلك بالترويح والترفيه والبحث عن أسباب الفرح والاستجمام.
التقديم :
توسل التقديم ضمير المتكلم في التعبير وتصريف القول ، ولهذا الأمر دلالته ، ويتركب من أربع فقرات تنتظم حول نواة دلالية مركزية : كتابة الذات أي التقاط ما سقط منها أو عنها من أحلام وآمال ورغبات مجهضة أو مكبوتة . الذات هنا تكتب تجاربها ووقائعها ، إخفاقاتها ونجاحاتها ، كتابة غربتها وألفتها . كتابة انتشائها ندمها . وكتابة الذات هنا تعني كتابة السقوط وهو نوعان :
سقوط علني جهور وسقوط سري كتوم ، الأول سقوط أمام الناس علنا والثاني أمام النفس سرا . وفرق واضح أن تعي سقوطك علانية أو سقوطك سرا. وأغلب النصوص الواردة في المجموعة تقترن بالسقوط . لقد عاشت الكاتبة أو عايشت حالات السقوط وصفا واعترافا، أي سقوطا ذاتيا أو سقوطا غيريا . ولعل أكثر الحالات الوجودية التي انتظمت مختلف الوقائع المسرودة كانت : الحب، المرض، الانتصار، الحلم، الذكريات، الطفولة، المدرسة….
الوعي بالسقوط و انحسار المواجهة :
تأسست أغلب النصوص القصصية عند الكاتبة على تيمة السقوط ، أي سقوط الذات أو سقوط ذوات أخرى . فأغلب الشخصيات القصصية عاشت تجارب في السقوط، مما أسس للبناء القصصي عامة في هذه المجموعة منطقا سرديا أساسيا:
تجربة السقوط تنجم عنها انفعالات متباينة تنتهي بالبكاء فتكون الدموع …… فما هي مظاهر السقوط ؟ و كيف تنوعت الانفعالات المترتبة عنه ؟
يمكن أن نتخذ بعض النصوص نماذج للتمثيل ، نستشف منها هذا المنطق البنائي :
في قصة ” نزيف بلوري ” يحكى في القصة على لسان السارد إحساس أب عجز عن إنقاذ ابنته أو كان سببا في موتها و لو معنويا . وهذا العجز تولد عنه ندم نفسي داخلي شبيه بالورم قتل فيه كل أمل وهذا مظهر من مظاهر السقوط الذي خلف انفعالا شديدا تمثل في الندم، مما أدى إلى نزيف داخلي لا تراه الشخصية إلا عند رؤية صورتها في المرآة .
وفي قصة “جهل دافق ” تحكي الساردة سقوطها أمام رغبتها البسيطة والموحية أيضا . حيث كانت ترغب و هي طفلة في صباغة لأصابع يدها، وكيف قمعت الأم بجهلها تلك الرغبة بدعك أصابع بنتها. و لقد مثلت القصة هنا مظهرين من مظاهر السقوط: سقوط البنت أمام سلطة الأم من جهة ثم سقوط البنت أمام رغبتها بعدم تحقيقها. بينما في قصة ” إعادة تمثيل لجريمة ” هناك تجسيد لسقوط البنت أمام سلطة الأب من خلال عجزها عن مواجهة سلطته وجبروته. حيث كان يستجيب لنزواته الجنسية بصرف ابنته بعيدا عن محل عمله حتى يقضي وطره. هذا العجز / السقوط شكل عاهة في نفسية ابنته ودفعها إلى التفكير في الانتقام لأجل أمها، غير أن تدخل القدر كان كافيا لأن تعدل البنت عن فكرة الانتقام أي قتل عشيقة الأب. ويلاحظ القارئ في قصة ” سذاجة حبر ” سقوطا معنويا أمام سلطة وبطش زوج من خلال انفعالات مفتعلة ومن خلال لغة خشبية مسكونة ببطش ذكوري وهوس فحولي. وتقارن الساردة هنا بين لغة العاشق ولغة الزوج / البعل . لغة الأول لغة حالمة طوباوية لينة شاعرة ، ولغة الثاني لغة قاسية قامعة عنيفة صادمة ، آمرة ناهية ، و تلجأ الذات هنا إلى طريقة لمواجهة ذلك الواقع ورد الاعتبار للذات بعد ذلك الانكسار . تمثلت في كتابة سيناريو أو تخييل أو قصة تعاقب فيها الزوج عقابا شديدا و تلقي به في سوء المصير . وفي قصة ” سعال ” تسقط الساردة أمام ذاتها من خلال تجربة الانتظار، حيث تكاتب عشيقها الغائب الحاضر، وتدون لائحة طلباتها / رغباتها، وتتزين وفق ما كان يرغب أن تكون عليه وتتخيل قدومه كفارس لكن دون جدوى. و الكتابة هنا ترميم للنفس و صيانة للذات . وفي قصة ” غياب ” ترصد الساردة تجربة أخرى من تجارب العشق التي عاشتها، حيث غالبا ما يتخلى العاشق أو من كان يدعي الصبابة وصدق الهوى، ويترك المرأة المعشوقة بين قسوة الغياب وسطوة الحضور. وهنا تقف الساردة بالباب صدفة لتشاهد عشيقها غريمها رفقة امرأة أخرى، فأخذ المشهد بذهنها وخلخل كيانها وأعاد لها الزمن في لقطة أو مشهد مأساوي، وكانت أن تهاوت في الأخير أمام ذاتها.
في قصة ” ضربة سدى ” تتأسس الحكاية فيها وفق لعبتين :
لعبة التذكر ، حيث تتذكر الساردة كيف كانت تشاكس جدتها في عملها ” نسيجها ” وكيف كانت ردود فعل الجدة بعيدة عن أي انفعال أو توتر ، إذ كانت تجازيها عن مشاكستها بقبلة أو قبلتين .
لعبة المشابهة أو المقايسة : الحياة شبيهة بمنسج جدة الساردة ، وتعتقد أنها قادرة على نسج الخيوط وعقدها وربطها وقطعها وفق منطق الحياكة أو النسيج . لكن القدر أو الغيب هم من أصبح يشاكس الساردة في نسيجها، وكلما حاولت الساردة فك وحل ما ليس فيه تناسب ومنفعة، عجزت عن ذلك. إنه سقوط الذات أمام القدر .
و في قصة ” كمنجة الحلم” : يسرد الراوي كيف تحطم حلمه لحظة تحطيم الأب كمنجته ، وما خلفه ذلك الفعل من آثار نفسية عميقة.
هذه بعض النصوص التي يتمظهر فيها السقوط كسبب لانفعالات الذوات، وهذا ما سيترتب عليه البكاء وبالتالي إسقاط الدموع في حالة استجابة الجسد و تأثره وانفعالاته . أما في حالة الكتابة فيتخذ البكاء أو الانفعال مظهرا آخر : كتابة نصوص أو قصص، توثيقا من جهة لذلك وتحريرا للجسد من ثقل الآثار المترتبة عن كثرة الانكسارات و التصدعات و تخفيفا للذاكرة .
ويلاحظ القارئ أن أغلب نصوص المجموعة تنتظم حول حقل السقوط ، والذي يبين ذلك حضور لفظة السقوط بصيغ مختلفة:
– المرآة تتساقط قشورها …ص 7 .
-تساقطت دموع الورقة ….ص9.
– كلما سقطت من قنينة الطلاء ….ص 10
– أسقط كل ليلة …ص 13 .
– تسقط سهوا كلمة طفل …ص 25 .
– سقطت ركائز البناية …. ص 27 .
– سقطت عنه السخرية .. ص 51 .أقول أعتذر فتسقط دموعي ….ص 80 …..
إن مدار السرد يستند إلى فعل السقوط، وهو فعل حاضر في مختلف النصوص إن لم نقل أغلبها. والسقوط هنا هو بؤرة السرد في هذا العمل ككل. ويلاحظ هنا أيضا اختلاف فاعل الإسقاط و تنوعه، حيث أحيانا تكون الذات هي الفاعل ، وأحايين أخرى يكون الآخر والرغبة والحلم والواقع والمجتمع والقيم ….
وتؤكد النصوص انحسار مواجهة الذوات المتساقطة أو المسقطة ، حيث لا نلمس صيغا قوية في المواجهة باستثناء الكتابة و التعبير الفني ، وهذا ما يؤكد اختيار الكتابة كصيغة للمواجهة وإعادة الاعتبار للذات .
المواجهة بالكتابة:
إن كتابة السقوط في المجموعة هي مظهر من مظاهر التعبير عن الإعاقة المعنوية التي لا تزال المرأة العربية عامة والمغربية خاصة تعانيها. وهذا ما تستجليه النصوص والوقائع المسرودة كتجارب لم تتلق فيها هذه الذوات أي سند أو دعم معنوي إلا دعم ذاتها بذاتها والاعتماد على منابع القوة في ضعفها . هكذا تبين هذه المجموعة أن المرأة ذات غير مكتملة، ذات مكسورة، ذات تعيش الحاجة إلى الآخر ( الأب، الزوج ، العاشق …) و النقص هنا ليس مذمة أو عيبا ، لكنه واقع يفرض أولا الوعي به ثم التفكير في حلول أو صيغ لتجاوزه.
إن كتابة السقوط كتابة للبعثرة التي تعيشها المرأة هي محاولة لتوثيق الذات في محطات من عمرها الوجودي ( الطفولة ، المدرسة ، المدينة ، ) ثم في علاقاتها مع الآخر : الأب ، ألأم ، الأستاذ ، العاشق ، المجتمع ، الهامش …وتوثيق أيضا لحالاتها الوجودية العزوبة، الزواج ، الطلاق .
الكتابة في هذه الأضمومة القصصية جسر للعبور من حالات الانفعال بالسقوط إلى حالة الوعي وكتابته .
دموع باردة: هي كتابة المعاناة أو الأحزان، أي ما يحزن المرأة ويضاعف شجونها، وهذا ما أكدته النصوص والوقائع في هذا العمل الفني . والملاحظ هنا هو غياب مظاهر الفرح في العوالم المسرودة .
خاتمة :
لقد تأسست المجموعة القصصية عند القاصة السعدية الفاتحي من خلال فعلين مركزيين:
أسقط و اكتب …أي أن السقوط سبب كاف للكتابة ، والكتابة شكل من أشكال المواجهة . كما أن التخييل القصصي هنا صيغة من صيغ الاستجمام و الترفيه عن النفس مادام الواقع الاجتماعي بمختلف مكوناته لم يتحرر بشكل كاف من رؤيته التقليدية للمرأة . وإذا كان الشاعر نزار قباني في قصيدته محتاجا إلى امرأة تعلمه الحزن، فإن الذات هنا تبحث عما يخفف عنها ذلك .
وإذا كانت المرأة العربية في وجودها موضوعا إشكاليا، يثير الأسئلة اجتماعيا وسياسيا و فكريا ، فإن البعد الإشكالي صاحب تجربتها الإبداعية وهذا يتبين من خلال الأسئلة التي أثارها الأدب النسائي . و إذا كان التلقي العربي قد ألف النظر إلى المرأة عامة موضوعا في الإبداع أو موضوعا يفكر فيه ، فإنها في تجربة الكتابة الإبداعية قصة أو رواية أو شعرا، غدت فاعلا و منتجة للكتابة وبالتالي بدأ الأمر يتأسس على كتابة ذاتها وأخذت الأسئلة آفاقا مغايرة ، وهذه أول الخطوات في مسلسل التحرير والانعتاق من هيمنة المتخيل الذكوري.
هوامش:
– السعدية الفاتحي: دموع باردة ، مجموعة قصصية ، ط1 ، 2018 .
– ابن منظور: لسان العرب ، مادة ( د م ع ) .
– دموع باردة: ص54 .
– Gérard Genette : Seuils, collection poétique, éd, Seuil,1987,p 110.
– دموع باردة: ص 76 .
– دموع باردة : ص 7 .
– نفسه : ص 10 .
– نفسه : ص 11 .
– نفسه :ص 15 .
– نفسه :ص 20 .
– نفسه :ص 43 .
– نفسه : ص64 .
– دموع باردة : ص 73 .
. – إبراهيم محمود : الأنثى المهدورة ، لعبة المتخيل الذكوري في صناعة الأنثى . مركز الإنماء الحضاري . ط 1 .2009. ص 20 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.