السنوات التي تلت رجوع الملك كانت عصيبة على كل من كان يملك حسا وطنيا صادقا، فمقاومة التغيير كانت قوية حدّ الاغتيالات …!!! لن أخوض كثيرا في هذا الموضوع فأظنكم ستجدون مؤلفات كثيرة وبحوثا عميقة… وسأكتفي بالحكي عن مواقف تاريخية بصمت حياة عائلتنا. لم تنقطع علاقتي بالملك بعد ذلك الاستقبال التّاريخي، فقد تمّ تعيني قائدا على مجموعة من المناطق، وكان يحرص في زياراته لها ، أن يستقبلني ويحدّثني على المشاريع التنمويّة، وخصوصا على سير سياسة استرجاع أراضي المُعمّرين ومعايير وكيفيّة توزيعها على بُسطاء الفلاحين، و كان ذلك يُشكّل هاجسهُ الأوّل . كنت أحرص على قضاء عطلنا الصيفية على شاطئ الوليدية، بمُحاداة القصر الملكي، وفي إحدى الأماسي الجميلة كنت وثريا على الشاطئ نستمتع ببعض اللحظات الحميميّة، وأمامنا آسيّة، أسماء، صلاح و خالد في لهو وركض، حين اقتربت منّا آسيّة وهي تُردّد : مي،مِّي،مِي … المليك … المليك …!!! كانت تركض في اتجاهنا عائدة، مسرعة هي التي استأذنت والدتها، قبل لحظات، السماح لها بمرافقة إخوتها في رحلة مشي على شاطئ البحر، لم تكن متيقنة من الشّخص، فصورته لم ترها إلا على بعض الصحف التي كنت أحملها عند عودتي من العمل . وبالفعل كان اللقاء العفوي… كان الملك…هناك وضع الأميرة أمينة، وبعد سلام حار علي وعلى ثريا، حمل صلاح بين ذراعيه واتمن أسماء و آسية و خالد على الأميرة وسار على الشاطئ يُحدّثُهم: «والدكم رجل مقدام، وطني حر وأصيل… هو عصبي ومنفعل، انفعال أهل البادية الجميل… سيروا على نهجه و خطاه فربما التقينا، أو اختلفنا … و لكننا حتما لمصلحة الوطن ماضون…» … كانت الوصيّة التي علقت بذاكرة الأطفال طول حياتهم … كان اللقاء عائليا وحميميا، وكالأصدقاء راح كلٌّ إلى حال سبيله، وكان آخر لقاء جمعني به… وعند رحيله، صاغ صلاح أولى قصائده وهو بعد ابن التّاسعة فقد فقدت الأسرة بأجمعها ملكا، أخا وصديقا… حين عُيّنت، قائدا ممتازا على عدة مناطق، كان همي الأول هو العمل على استعادة أراضي المعمرين، وتوزيعها توزيعا عادلا … طبعا كانت القوى المناوئة لهاته القرارات بالمرصاد … ولهذا تمت إقالتي في إحدى الصباحات الربيعية، وكان الاحتقان قد بلغ أوجه بين الحزب المنفصل عن محافظي المملكة ومحيط الملك… ذات صباح، وأنا أستعد للاستيقاظ سمعت زغرودة قوية أطلقتها ثريا، وعلى غير عادتها … اقتحمت غرفة النوم ، وهي تكاد تطير فرحا، فقد وصلها للتو نبأ إقالتي من مهامي كقائد ممتاز . ضحكت سامية والتفتت نحو جدتها سائلة: «كيف لك أن تزغردي وتطيري فرحا وجدّي يقال من مسؤوليات تعتبر سامية كإسمي!!! والبعض يتمرغ أرضا من أجل الوصول إلى أقل منها؟» «لم تكن الزغرودة التي أطلقتُ حين وصلني النبأ إلا تعبيرا عن فرج طالما حلمنا به، فقد كان وضعنا نشازا: جدُّك الذي أخذ على عاتقه النضال من أجل المساواة في الحقوق والواجبات بالنسبة لعموم الشعب، لم يكن من الممكن له العمل من داخل مؤسسة لا تتماشى سياساتها وتلك الأهداف، كنت أشعر بأنه في وضعية نفسية ممزقة… ولهذا حين هاتفني وزير الداخلية لإخباري بالقرار لم أتمالك نفسي، كنت فرحة من أجله ومن أجل مستقبلنا، رغم يقيننا بأننا كعائلة صغيرة وكقوى وطنية وُضعنا أمام المجهول… بعد تلك الإقالة، ولأنني كنت على يقين بأن المقبل من الأيام سيكون عصيبا، قررت مع نفسي البحث عن عمل للمساهمة الماديّة في مالية الأسرة، استمرّت ثريّا تحكي: حتى أضمن لجدكم حريته واستقلاليّته في النضال من أجل مغرب كما كنّا نحلم به خصوصا وأن وضعيتنا أصبحت أكثر هشاشة، فتعويضاته عن القيادة كانت لا تكفينا فهو لم يكن، يوما، من المدّخرين… حين فاتحته في الأمر، لم يمانع، بل استحسن و شجعني : «أشكر الظروف التي جمعتني بك زوجة ورفيقة، همُّها من همي، فأنتِ قدوتنا، أظن أن العمل خارج المنزل سيمنحك تجربة جديدة رغم صعوباته، وكما تعلمين فنقطة ضعفي هو المساهمة في العمل المنزلي، ولهذا ستتضاعف مسؤولياتك، وتتعبين أكثر، وبالنّسبة لي فمنذ أول لقاء لي بوالديك الحاج أحمد وللا غيثة التزمت باحترام قراراتك ولك أن تتخذيها بكل حرية» استقرارنا بالبيضاء لم يكن هينا، استمرّت ثريّا، فقد عرفنا التنقل عبر عدة منازل في أحياء مختلفة، من حي سباتة ثم بولو وأخيرا الوازيس المستقر الأخير… وحين علم الأستاذ المختار السوسي، باستقرارنا النهائي بالعاصمة الاقتصادية، أصرّ على زيارتنا وتهنئتنا، وقد عرفت تلك الزيارة إطلاقي للزغرودة المفضلة لجدكم خصوصاً بعد الجفاء الذي عرفته علاقتهما منذ قَبل الأستاذ، الاستوزار، دون شروط، كوزير للأوقاف في أوَّلِ حكومة بعد الاستقلال ، وكان الآسفي قد انتقد أستاذهُ، انتقادا لاذعا، معتبرا أن المنصب لا يناسبه هو الفقيه الرَّافض للطقوس المخزنية. كان اللقاء الأسري هو الأخير بين تلميذ وأستاذ تعلقا ببعضهما البعض، فقد لقي الفقيه حتفه بعد أيام في حادثة سير مفجعة. بالفعل يا ثريا كان رحيله مؤثرا على العائلة ككل، ولم يخفف عني لوعة فراقه سوى صديقي ورفيقه الحاج عمر الساحلي الذي قاسمني مبادئ إنسانية استمرت طول حياتنا… كان التأثر باديا على الآسفي وهو يستعيد ذكريات أساتذة، ورفاق من عملة نادرة. بداية العقد السادس سيعرف المغرب أحداثا عنيفة، فصيف 1963 الساخن سيعرف مداهمة الشرطة لمقرات الحزب واعتقال عدد من المناضلين، وطبعا كان الآسفي من بينهم، تعود ثريا للحكي، ودام اختطافه مدّة ليست باليسيرة وخلالها كان لقاء صلاح، وهو لم يُتمَّ بعدُ سنه الثانية عشرة بوالده بدرب مولاي الشريف في إحدى زيارتنا النادرة… بعد عدة شهور، وذات صباح دُقَّ جرس الباب، وكان جمال ذو الأربع سنوات على الباب، في استقبال شيخ حافي القدمين بلحية كثة وشعر أشعث، كان الطفل تحت وقع المفاجأة المرعبة… صرخ باحثا عن حضني للاحتماء من المجهول الذي اقتحم الخلوة العائلية… والذي عرفتُ من نظراته أنه الزوج الذي عاد من حيث لايدري فما كان مني … «ما كان منك إلا أن زغردت كعادتك في مثل هاته المواقف فقد جُبلت على المواجهات القوية» … قاطعتها سامية ضاحكةً نعم بنيتي … زغردت بأعلى صوتي لأنه عاد بهامة مرفوعة كعادته… ولأن على الباب مخبرون ينتظرون رد فعلنا، ونحن تحت وقع مفاجأة عودته في حالة صحية حرجة، هُزالٌ خطيرٌ، أظافرُ مُقتلعةٌ… ومع ذلك وجب إبلاغهم أن عزيمتنا لن تنال منها الضغوطات النفسية ولا علامات التعذيب الجسدي. عاد الآسفي إذن إلى حضن أبنائه، استعاد عافيته، وبعد أيام كانت المسؤوليات الحزبية في انتظاره… بدا محمد مبتسما … ربت على ظهر الحفيدة الحريصة على تتبع الحكاية وقال: «لن تكون زغرودة جدتكم بعد الإفراج عني سنة 1963 هي الأخيرة، بل ستكتشفون عبر هذا الحكي أنها عرفت كيف تطلقها تحديا وإحراجا للمراقبين في مناسبات عديدة»… !!