انتقلنا في المغرب من النزوع والاتجاه الفردي للإجرام، إلى النزوع نحو الطابع الجماعي للإجرام البيئة غير الملائمة التي ينشأ فيها الفرد بالغة التأثير في تنشئته الاجتماعية المضطربة التعليم قوة مانعة لارتكاب الجرائم، إذ يقوم بدور وقائي يحد من تأثير العوامل الإجرامية الأخرى على الفرد
لا حديث هذه الأيام إلا عن الكم الهائل من الجرائم المسجلة في مختلف ربوع المملكة، والتي ارتفعت أعدادها بشكل مهول، من جرائم السرقة إلى القتل مرورا بالاعتداءات والسطو بواسطة السيوف والاختطاف والتعذيب والاغتصابات، حتى إن تقريرا أمميا صدر مؤخرا دق ناقوس الخطر وأكد أن ظاهرة ارتفاع الجريمة تجتاح المغرب بشكل يدعو للقلق. لتسليط الضوء على هذا الموضوع، استضافت الجريدة الدكتور عادل بلعمري، الباحث المتخصص في سوسيولوجيا الإجرام، فكان لنا معه الحوار التالي:
ماهو تشخيصكم للظاهرة الإجرامية ( السطو بواسطة الأسلحة البيضاء وخصوصا السيوف ) التي أصبحت متفشية بشكل ملحوظ في مدننا ؟ بالفعل فظاهرة الإجرام بواسطة الأسلحة البيضاء، أصبحت من الظواهر المجتمعية المتفشية في السنوات الأخيرة، سيما داخل هوامش وأطراف المدن الكبرى والمتوسطة بالمجتمع المغربي، وهذا مرده لمجموعة من التحولات السريعة التي تعرفها البنيات الاجتماعية، بفعل الدينامية المجتمعية الحديثة لاسيما في ظل ظاهرة العولمة والتي ضاعفت من نفوذ وسلطة المتعاطي للجريمة والإجرام، وغيرت حتى من صورتنا وتمثلنا حول الظاهرة الإجرامية، بالنظر لكونها أصبحت لها أشكال وأنماط عديدة، فاقت وتجاوزت تلك الصور التقليدية عنها، ما أدى إلى وقوع تحول جذري في اتجاهات الإجرام، بحيث انتقلنا في المغرب من النزوع والاتجاه الفردي للإجرام، إلى النزوع نحو الطابع الجماعي للإجرام، والذي أصبح يقوم على أساس التحالف بين العديد من المجموعات والعناصر الإجرامية، إن على مستوى الفكر والتنسيق والتنفيذ وتحديد الأهداف، وهذا التغير البنيوي تظهر مؤشراته من خلال استعمال هذه المجموعات الإجرامية لبعض الأساليب والتقنيات الحديثة المتمثلة في الغاز المسيل للدموع أثناء القيام بعمليات الاعتداء أوالسطو، باستخدام طبعا أسلحة بيضاء في الغالب عبارة عن سكاكين من الحجم الكبير، وذلك بنية وهدف إحداث نوع من الرعب والهلع والذعر بالنسبة للضحية كي لا تبدي أية مقاومة، طبعا بالاستعانة بناقلة ذات محرك من الجيل الجديد والمتطور في الغالب عبارة عن دراجات نارية فائقة السرعة، أو حتى باستعمال سيارات للكراء ويطلق على هذا النوع من السرقة اسم «السرقة بالخطف» تستعمل فيها القوة البدنية والخفة والتقنية والسرعة، ناهيك عن استعمال وسيلة أكثر نجاعة وفعالية ألا وهي الغاز المسيل للدموع. أظهر تقرير أممي صدر مؤخرا أن جرائم القتل قد تصاعدت بشكل كبير بالمغرب في السنوات الأخيرة، حيث بلغ المعدل 2,1 جريمة قتل لكل مائة ألف حالة وفاة، وأشار التقرير إلى أن 29 في المائة من جرائم القتل يرتكبها شريك أحد أفراد العائلة، و8 في المائة نتيجة السرقة، بينما تصل نسبة 19 بسبب تأثير الكحول والمخدرات . ما هي قراءتكم لهذه الأرقام ؟ وهاهي أسباب هذا الارتفاع المهول ؟ المعطيات الإحصائية الواردة في هذا التقرير الأممي تتماشى وبعض الإحصائيات الرسمية الوطنية التي تصدرها المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، فيكفي فقط القول إن نسبة الساكنة السجنية قد ارتفعت خلال الفترة ما بين سنة 2009 و سنة 2017، بأكثر من 28 بالمائة حيث ارتفعت مجموع الساكنة السجنية من 57.769 ألف سجين سنة 2009 إلى 82.716 ألف سجين سنة 2017، أي بمعدل 2,42 نزيل لكل ألف مواطن، و 281 نزيل لكل 100.000 مواطن، دون الدخول في البوليميك الذي يقول إن نصف هؤلاء المعتقلين من الاحتياطيين لأنه أعرف جيدا أن الجهاز القضائي ببلادنا لا يمنح السراح المؤقت في الحالات التي تكون الأفعال الإجرامية تابثة في حق المتهمين وباعترافاتهم التلقائية المعززة في بعض الأحيان بشهادات للشهود، ولذا يجب أن نتفق أن هذه النسب تظل جد مرتفعة حتى عندما تتم مقارنتها مع الدول التي يتجاوز سكانها ضعف عدد سكان المغرب، ففي اندونيسيا على سبيل المثال لا للحصر هناك 38 نزيلا لكل 100.000 نسمة، و 59 نزيلا لكل 100.000 نسمة في باكستان، و 95 نزيلا لكل 100000 نسمة في فرنسا، و 92 لكل 100.000 نسمة في تركيا، و 96 لكل 100.000 نسمة في ألمانيا و 100 لكل 100.000 نسمة في إيطاليا، و 169 لكل 100.000 نسمة في المكسيك والبرازيل، وهذا التطور في أعداد الجرائم والساكنة السجنية بالمغرب كما سبق وقلت، يأتي في إطار سياق راهني أضحت فيه ظاهرة الجريمة والإجرام بالوسط الحضري المغربي، من الظواهر الاجتماعية المتنامية في السنوات الأخيرة بفعل التحولات السريعة التي تعرفها البنيات الاجتماعية، نتيجة للدينامية المجتمعية الحديثة سيما في ظل ظاهرة العولمة التي أدت إلى هذا الاحتباس القيمي بالمجتمع المغربي. بالنسبة للشق الثاني من سؤالك المتعلق بالأسباب، هناك أسباب ومحددات خاصة لها ارتباط بالفرد، وأسباب عامة مرتبطة بالمجتمع ككل، فعلى سبيل المثال تعتبر البيئة غير الملائمة التي ينشأ فيها الفرد بالغة التأثير في تنشئته الاجتماعية المضطربة، باعتبار أن المناخ الأسري غير السوي والمضطرب يفقد الفرد منذ نعومة أظافره المعنى والمراد من التربية والتهذيب التي بالإمكان أن ترشدانه إلى السلوك المجتمعي السوي، ذلك أن الأسرة المفككة منصرفة عن الإشراف والتوجيه والرعاية اللازمة تجاه أفرادها، مما يجعل الأبناء بدون رعاية واهتمام كافيين، وبالتالي تسيطر عليهم نزعة اللامبالاة والرغبة في تقليد الأبوين في سلوكهم غير السوي، باعتبارهما يجسدان المثل والقدوة، والواقع أن مسرح الحياة الاجتماعية يتطور وينتظم وفق قانون التقليد الذي يبنى على فكرة محورية مفادها أن كل فرد في المجتمع يتصرف وفقا لمجموعة من العادات والأعراف والقيم والمعايير التي يجدها داخل الوسط الذي يعيش فيه، وهاته الأخيرة هي التي تؤثر في تحديد معالم شخصيته وفي توجيه سلوكه، ناهيك عن محدد بنيوي وأساسي آخر مرتبط بالإقبال الاجتماعي على تناول وتعاطي المخدرات والإدمان عليها بين جميع الفئات والطبقات الاجتماعية وخصوصا لدى الشباب، إذ أضحى إحدى أهم وأبرز المشكلات الاجتماعية، لما لها من تبعات صحية سلبية على الفرد والمجتمع، سواء من الناحية الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، فهي تشكل تهديدا حقيقيا يجعل الفرد المدمن في الغالب فردا غير سوي، لأنه يصير غير قادر على تحمل المسؤوليات داخل الحياة المجتمعية ومجردا من القدرة على التحكم في أعصابه، ومتذبذبا في مواقفه، ناهيك عن التحلي ببعض المميزات كاللامبالاة وعدم الاكتراث بمشاعر الغير والتسرع وكثرة التردد، والشعور بنوع من الإحباط والغربة، وعدم القدرة على الإنتاج والخلق والابتكار والمساهمة الفعالة والإيجابية في الدورة الاقتصادية داخل المجتمع، ما يجعل الفرد المدمن في حالة دورية مزمنة تلحق الضرر بالفرد والمجتمع، نتيجة من تكرار استعمال العقار سواء الطبيعي أوالمصنع وبرغبة قهرية أو ملحة تدفع المدمن للحصول على العقار والاستمرار في تعاطيه وبأي وسيلة مع زيادة في الجرعة، لدرجة الاعتماد على المواد المخدرة والحاجة إليها بشكل دوري ومنتظم لدرجة يصبح المدمن ضعيفا تحت تأثير سلطتها، إلى حد لا يمكنه الاستغناء عنها، وبمجرد نفاد مفعولها يلجأ إلى البحث عنها، وتصبح شغله الشاغل لأنه يعتمد عليها بغرض الشعور بالسعادة والانبساط وإذ تطلب الأمر القيام بعمليات إجرامية كالسطو باستعمال السلاح الأبيض من أجل توفير المال بهدف اقتناء المواد المخدرة أو المهلوسة.
التقرير ذكر أن الدارالبيضاء تحتل الصدارة إلى جانب العاصمة الجزائرية في معدلات جرائم القتل، هل العاصمة الاقتصادية في طريقها لكي تتحول إلى مدينة خطرة؟ المشكل يكمن في الفوارق والتناقضات المجالية الصارخة التي تعرفها مدينة الدارالبيضاء، وبحكم عامل ارتباط الأفراد بكيفية وجودية مع محيطهم الايكولوجي، فهذا الأخير بطبيعته يعرف انفجارا ديموغرافيا بسبب التطور العمراني السريع واللامتكافئ الذي تعرفه المدينة باعتبارها مدينة مليونية وأول قطب اقتصادي بالمغرب، إلا أنه يعرف نوعا من اللاعدالة المجالية من حيث توزيع المرافق الاجتماعية وبعض الجوانب المتعلقة بالتهيئة الحضرية، فهذه اللامساواة المجالية بين وسط الدارالبيضاء والأحياء التي توجد في الهوامش، أضحت تؤثر على نمط طبيعة عيش وحياة الأفراد والجماعات الذين يقطنون هذه التجمعات السكانية الكبرى بأطراف المدينة وضواحيها، وخاصة داخل أحيائها الهامشية، سواء بأحياء المدينة القديمة آو بالأحياء التي استفادت من مشاريع إعادة الإسكان، ما أصبح يؤثر على مسألة الضبط الاجتماعي والأمني، بالنظر لبروز ثقافات فرعية حضرية ذات طبيعة جانحة وإجرامية داخل هذه الأحياء العتيقة تقوم على تزويد وبصم الأفراد بمجموعة من العادات والتقاليد والقيم والأعراف الإجرامية والمنحرفة والجانحة والتي تنتقل عبر سيرورة التواصل اللفظي ينقلها الكبار للصغار عبر ميكانيزم التقليد من خلال ميكانيزم الاتصال الشخصي المباشر بالمجموعات الإجرامية، سيما وأن هذه التقاليد المتعلقة بالجريمة تنمو في المناطق والأماكن التي ترتفع بها معدلات الفقر و تفشل وتنهار داخلها الضوابط الاجتماعية، عبر آلية الانتقال الثقافي لهذه الأعراف والأنماط والتقاليد الإجراميةعبر سيرورة التواصل اللفظي، باعتبار أن للمحيط مجموعة من الخصوصيات والمميزات الثقافية لاسيما وإن انضاف لها عامل الهدر المبكر من المدرسة باعتبار أن التعليم قوة مانعة لارتكاب الجرائم، إذ يقوم بدور وقائي يحد من تأثير العوامل الإجرامية الأخرى على الفرد، ومن ثم يكون من شأن التعليم أن يقود صاحبه في الغالب ويصرفه عن أنماط السلوك غير المشروع، بالنظر لأثره الوقائي بما يغرسه في نفوس المتعلمين من قيم اجتماعية من شأنها أن تقيه من براثن الإجرام بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدرسي، في هذا الإطار، بمثابة الآلية الوقائية للفرد من ‘'الأمراض'' والشوائب المجتمعية التي يمكن أن تصيب الفرد والمجتمع، فهي توفر وتخلق للفرد نوعا من المناعة والتوازن وتسهل عليه عملية الاندماج والترقي داخل المجتمع عن طريق تفاعل النظم الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية ضمن المنظومة العامة وفق مبدأ التنسيق من أجل المحافظة على أمن وسلامة المجتمع وتطوره. بالحديث عن الدراسات والأبحاث حول هذا الموضوع، هل تسعف الإحصائيات الجنائية في فهم الظواهر الإجرامية خاصة تلك التي نتحدث عنها اليوم، أي الاعتداءات بواسطة السيوف؟ بالطبع الدراسات في المجال الجنائي وتحديدا في مجال علم الاجتماع الإجرام، الذي هو مجال تخصصي له من القدرة العلمية على المساهمة الفعالة والإيجابية من خلال ما يمكن أن يقدمه لميدان العدالة الجنائية ببلادنا ومجال التشريع الجنائي وعلم العقاب على مستوى التدابير التي يمكن أخذها بعين الاعتبار خلال صياغة القواعد والمساطر القانونية والجنائية، هذا الأخير الذي لا يمكنه بأي حال من الأحوال القيام بتلك الصياغة بمعزل عن خلاصات ودراسات علم الاجتماع الإجرام، اعتبارا لكون هذه الدراسات تشكل باستمرار المبرر العلمي الذي يدفعه إلى إدخال ترميمات وإصلاحات قانونية وتعديلات على قانون المسطرة الجنائية، من خلال إلغاء أو إضافة عقوبات أو جرائم جديدة، خاصة ما يتعلق بتصنيف المجرمين وأوجه المعاملة العقابية والتي يتم إدخالها باستمرار في اعتبارات سياسة التجريم والعقاب، طبعا إلى جانب فكرة الضرر الاجتماعي الذي تخلفه ظاهرة الإجرام على الفرد والمجتمع. فمظاهر تأثير علم الاجتماع الإجرام على القانون الجنائي تبدو من خلال التدابير الاحترازية، والنص على عقوبات تراعي في ديباجتها طبيعة المجرم والظروف الخاصة به أكثر من النظر إلى الفعل الإجرامي، إضافة إلى قيام المشرع بإدماج بعض الجرائم التي لم تكن مجرمة من قبل، لأن التدابير الاحترازية هي ذات طبيعة وقائية، هدفها الأساسي هو مواجهة الخطورة الكامنة في شخص الجاني وذلك من خلال استبعاد عامل ثبت دوره الفعال في إجرامه، وبالتالي لا يمكن تفسير ذلك إلا على أساس الأهمية التي يوليها المشرع، وكذا طبيعة فهمه العميقة للأسباب والمحددات الدافعة إلى ارتكاب الجريمة والإجرام. فعلم الاجتماع الإجرام بمثابة العلم الذي يمنحنا بالضبط هذه المعرفة العلمية الرصينة حول عوامل ومحددات وظروف بروز الظاهرة الإجرامية وتطورها، وكذا الاستراتيجيات والسبل الوقائية القادرة على الحد من ظاهرة العود، فأي تخطيط عقلاني لمحاربة ظاهرة الجريمة يجب أن يعتمد على أسس قاعدة معطيات علمية ميدانية، حتى لا تكون الفوارق كبيرة بين المستوى النظري وبين الواقع الاجتماعي المتغير والمتجدد باستمرار لأجل صياغة قوانين جنائية تحمل في عمقها مجموعة من القواعد المعيارية التي تفيد الإلزام والجزاء العقابي لمواجهة كل الأفعال السلبية التي من شأنها الإضرار بمصالح أفراد بالمجتمع، وفق تحديد واضح لأنواع الجرائم وعناصرها القانونية والعقوبات اللازمة لكل منها بطريقة موضوعية، لأن القانون الجنائي بطبيعته هو علم قاعدي، يطغى عليه الطابع المعياري لما ينبغي أن يكون، والتي يدرجها ضمن قواعد السلوك التي تمحور اهتماماته الأساسية والتي يحددها على شكل مجموعة من القيم والأعراف الاجتماعية التي يتعين حمايتها من كل اعتداء. هل هناك حلول يمكنها أن تساهم في القضاء ولو بشكل جزئي على هذه الظاهرة ؟ وما سبل مواجهتها؟ في اعتقادي أرى أنه قد آن الأوان من أجل الاشتغال وبشكل جماعي على ورش الاندماج وإعادة التنشئة لهؤلاء الجانحين واليافعين والشباب، باعتبار أن إعادة التنشئة تعد عملية أساسية وجوهرية يتم بمقتضاها نقل التراث الثقافي وخبرات الأجداد وقيمهم وعاداتهم إلى الأحفاد، ومنهم إلى الأجيال القادمة، باعتبارها وسيلة الاتصال الرئيسية ما بين الماضي والحاضر، وآلية للانتقال من الحاضر إلى المستقبل، فعبرها يتم تلقين القيم المجتمعية والمثل العليا للمجتمع، عبر سيرورة من التطبيع الاجتماعي مع الواقع والتجسيد الجيد لأهدافه والانضباط بأوامره ونواهيه وقيمه، باعتبارها آلية من آليات التغير الاجتماعي، تعمل على نقل القيم الجديدة للناشئة. فمن خلالها يمكننا تحييد الميولات العدوانية والنزوع الطبيعي والفطري نحو العنف وإزالته عند الغالبية العظمى من المتعاطين للإجرام حتى وإن تعلق الأمر بالمجرم بالتسلسل، بفعل تلقين عوامل الضبط الداخلي والخارجي، عن طريق آلية التربية التي تلقن للفرد القواعد والمعايير والنظم الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع، عن طريق مؤسسة الأسرة التي تلقن للفرد معايير المجتمع وهو ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية. فالجماعة البشرية تقوم بعملية الضبط الاجتماعي كمظهر من مظاهر القدرة على الكف أو المنع التي تلعب دورا هاما في تنظيم الوظائف وتعديلها وتعمل على مقاومة الاندفاع والتهور الذي يؤدي إلى الاختلال وعدم الاستقرار، والذي يصدر عن مجموعة من الأحاسيس والتي يرجع مصدرها للتركيبة البيولوجية والحيوية للإنسان. فبعض الأفراد المجرمين المتأصلين أو الذين تطغى عليهم الميولات الإجرامية القهرية يفتقدون لما يسمى بعوامل المقاومة وعوامل الضبط الداخلي للميولات والنزوعات العدوانية الفطرية، ولا يستجيبون لعوامل الضبط الخارجي المتجسدة في سلطة القوانين والعقوبات وردود الفعل الاجتماعية، بفعل غلبة عوامل شخصية أخرى، لكونهم لا يأبهون بمصير الآخرين، ولا يعيرون أهمية للأحكام القيمية والأخلاقية، لكون أصحاب الميول القهرية القبلية، يتوجهون للانتقال للفعل في كل موقف إجرامي يعترضهم. فالدافع الذي يحرك ويدفع الفرد للانتقال للفعل موجود داخل الفرد نفسه وليس خارجه، وهو ما يسمى بالعوامل الداخلية والتي تحصل في الأساس نتيجة لعلاقة سلبية بين الدوافع والميولات الإجرامية لدى الأفراد المتأصلين وبين الدوافع الكابحة والضبط الفردي والاجتماعي، بمعنى أن الإجرام يحدث نتيجة لتغلب الدوافع والميولات الإجرامية على الدوافع الضبطية الفردية والجماعية. فالميولات والنزوعات الإجرامية القهرية هي التي تدفع إلى ارتكاب الأفعال الإجرامية سيما وإن توفرت أمام المتعاطي للجريمة الفرصة الإجرامية المتمثلة بالانفراد بالضحية في مكان غير آهل بالسكان، فالاعتداء يحدث عندما يغيب الضمير أو الوعي أو عند تعثر القيم والمعايير، وكلها عوامل داخلية مرتبطة بالدرجة الأولى بالفرد نفسه، ومحاطة بالظروف أو العوامل الخارجية التي تؤطرها وتزيد من مفعولها، خاصة عندما تتداخل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية المرتبطة بالمحيط والبيئة، ما يصبح معه من الصعب على الفرد أن يتراجع عن القيام بالفعل أو الانتقال للفعل الإجرامي، في لحظة غياب أو سقوط أو تأثر القيم والمعايير، فالفرد يصبح حينها غير مدرك لحجم العواقب الناتجة عن الأفعال الإجرامية التي يقوم بها، وهذا يؤدي إلى إبطال أو تغييب الضبط الذاتي، ومفعول الضبط الداخلي، ومن هنا تأتي أهمية إعادة التنشئة التي تستمد مشروعيتها من كونها أضحت مسألة ملحة بالنسبة للأجيال الصاعدة داخل المجتمعات المعاصرة، وعلما مستقلا قائما بذاته يهدف إلى تهذيب أسلوب الإنسان وتوجيهه، فهي آلية موجهة تعتمد مقاربات وأسسا علمية من أجل خلق توازن في سلوك الفرد، بما يتوافق وقيم المجتمع وأهدافه التي يطمح إليها، ومن هنا فالفلسفة العامة للتربية لا تقتصر على الناشئة فقط بل تمتد لتشمل المجتمع برمته، لأن إحدى الوظائف الأساسية للتربية تيسير عملية التكيف الاجتماعي مع البيئة والمحيط، من خلال تلقين الفرد مجموعة من المبادئ العامة التي توارثتها واكتسبتها الأجيال عبر تاريخها الطويل، اعتبارا من كون الفرد يعد ابن البيئة الاجتماعية التي يعيش داخلها، يستفيد من تراث وخبرات أسلافه وأجداده وحصيلة تجاربهم المستمدة من تفاعله مع البيئة المادية، والقائمة على أساس التعاون في ما بين الأفراد في إطار المؤسسات التي ينتمون إليها.