إذا كانت ذاكرتي جيدة فإن الحديث عن تجديد الخطاب الديني في التسعينات كان يودي بصاحبه إلى السجن أو حبل المشنقة، أو على أقل تقدير نفيه إلى الغرب ليكون حرا فيما يقول بعيدا عن تسلّط وضغوط المؤسسات الدينية التقليدية، التي يرعبها هذا المصطلح وترى فيه تربصا بها وبمخرجاتها، التي تجمدت عند الموروث غير القابل للنقاش أو المداولة العلنية خارج أسوارها وقرارتها. مفارقة أخرى وقعت بها مؤسسات الموروث الديني الرسمية حين أصرّت على مدى عقود على أن من يطرح تجديد الخطاب الديني، إنما يقصد الإساءة لجوهر العقيدة والإخلال بالثوابت الدينية وبالتالي إخراج الناس من دينهم الحق ليقعوا في الضلال والشركيات والمكاره والبدع. هذه الدعوى، كما هو طبع أي خطاب موروث، حدت من التفكر والتفكير في مستجدات زماننا ومتغيرات علاقاته على المستوى الإنساني، وعلاقاته على مستوى تبادل المنافع، لاسيما المنافع الثقافية والاقتصادية. وهذا منع الدول العربية والإسلامية، قاطبة، من أن تلحق بطبائع العصر التقدمية على المستوى الفكري والسياسي، وطبائعه التكنولوجية الصناعية على المستوى التنموي. بل إنها أدت إلى هامشية (الفرد المسلم) وتفريغه من الأهداف الوطنية والقومية الكبرى لحساب تيارات وجماعات تتنازع وجوده الهامشي، وتوظفه لغايات النبذ والكره ومقاتلة المسلم الذي يشاركه الوطن والمصير. ولم تكن الأنظمة الحاكمة، بطبيعة الحال، بريئة من التمكين للتيارات التي ترفض أو تلعن أفكار تجديد الخطاب الديني وأصحابها، فهذه الأنظمة، في أكثر من بلد عربي، غضت النظر عن القمع الذي ارتكب في حق نوايا التجديد والمجددين في هذا الخطاب. وكان المفكر فرج فودة في مصر أبرز الأمثلة التي ذهبت ضحية هذا القمع، بعد أن تشكلت جبهة أزهرية شنت هجوما شديدا عليه في بداية التسعينات ووصلت إلى حد إصدار بيان، في صحيفة النور حينها، يكفّره ويوجب قتله. كان ذنب فودة الأكبر، حين امتدت إليه يد الإرهاب وقتلته، هو مشروعه التنويري الذي يقوم على أربعة محاور رئيسة، هي نقد الإسلام السياسي المعاصر، ونقد الإسلام السياسي التاريخي، وحتمية الاجتهاد وإعمال العقل، والدفاع عن أسس الدولة المدنية الحديثة. أي، بلغة أخرى، تجديد الخطاب الديني الذي توقف لقرون عند محطات متقادمة لا صلة لها بزماننا وخصائصه ومتطلباته. غير فودة كان هناك طابور طويل من المفكرين العرب والمسلمين المعاصرين الذين أجهز على أفكارهم المتجددة في مهدها. أو بقيت هذه الأفكار طيّ كتبهم التي لم تكن نسب توزيعها تذكر، إذا ما قورنت بنسب توزيع كتب التقليديين الذين وقفوا أمام أبواب التجديد مسلحين بالعنف اللفظي والجسدي، المؤيد من بعض الحكومات والمؤسسات والمجاميع الشعبية المغيبة عن الواقع. تغييب الشعوب العربية عن الواقع كان هو، بالمناسبة، السلاح الأمضى في حرب التقليديين والمجددين، فالشعوب، التي لم تكن تتلقى سوى خطاب واحد مسموح بتداوله وتعميمه، وضعت قسرا في إسار القوالب الجاهزة، إلى أن تحولت هي بذاتها إلى قوالب فكرية معلبة يصعب كسرها أو تحريكها. وشاعت، تبعا لذلك، مظاهر مجتمعية عامة من بينها تدخل من يسمى رجل الدين في كل شاردة وورادة في حياة الناس، وإضفاء القدسية المطلقة على الوعاظ، قديمهم وحديثهم، إلى درجة أن نقدهم أصبح حراما أو كفرا. لم يكن في حسبان حملة مشعل الحرب ضد التجديد أن المراهنة على نجاح حربهم هذه وعلى تغييب الشعوب واصطفافها بجانبهم، ستؤدي إلى كارثة اختطاف الدين ذاته من جماعات أصولية متطرفة تكفّرهم هم قبل غيرهم. كان الأمر أشبه بانقلاب السحر على الساحر، فالذين كانوا يُكفِّرون أصبحوا يُكفَرون، وتنصب لهم مشانق العنف ذاتها التي كانت تنصب لدعاة تجديد الخطاب الديني. وتجاوز الأمر حدود المعقول حين أصبح الإسلام يقدم للعالم في صورة مذابح علنية، ولعب بالرؤوس المقطوعة في الميادين العامة، وإذلال وسبي واغتصاب للنساء الآمنات في أوطانهن وبيوتهن. لقد أصبح الإسلام الذي جاء بالرحمة المهداة عنوانا، في كل العالم، للتخلف والعنف والهمجية وارتكاب الفواحش، في الوقت الذي بدأ فيه القفز من أسوار مدارس التجمد والتبرؤ مما تفعله هذه الجماعات الإرهابية المتطرفة، التي تَخرّج معظم أعضائها من هذه المدارس، أو انتسبوا إلى فصولها، المضادة لتجديد الخطاب الديني، في يوم من الأيام. إذن فإن المسؤولية، فيما وصلت إليه صورة الإسلام وأهله، تقع أولا على عاتق المؤسسات التي نفرت من التجديد وحاربته وطاردت مفكريه وحفرت قبورهم بيدها. وعلى هذه المؤسسات تقع الآن مسؤولية الاعتذار، ثم مسؤولية حمل راية تجديد الخطاب الديني على أساس حرية الآراء في هذه المسألة، وعدم حجرها على طيف أو فئة بعينها. ولكي تكون هذه المؤسسات الدينية، على قدر هذه المسؤولية، يجب أن تتخلص، قبل كل شيء، من هاجس فقدان أهلها لمغانم الانتساب إليها، الأمر الذي لم يكن يخفى على أحد في ما سبق من حروب كسب الأراضي الشعبية بين التيارات الرجعية والتقدمية. وإذا قدمت هذه المؤسسات ما يفيد، قولا وفعلا، بقابليتها للمشاركة في تجديد الخطاب الديني بعد أن تتخلص من تقليديتها ومخاوفها من فقدان مواقعها، فإن التيارات التقدمية الأخرى، دون أن تكون مطالبة بالتخلي عن مكاسبها الضئيلة، مطالبة بمساندة جهودها وعضد توجهاتها الجديدة الملحة. أما إذا قدمت هذه المؤسسات الدينية رجلا وأخرت أخرى، أو مارست ذرّ الرماد في العيون، وأصرت على البقاء في مواقعها الجامدة السابقة، فإن الوضع سيبقى على ما هو عليه بل إنه سيزداد سوءا وتخلفا وعنفا. وما يثير التفاؤل بأننا نكاد نكون الآن بصدد اعتراف بارتكاب المؤسسات الدينية لأخطاء في السابق، ووجود رغبة حقيقية في تجديد خطابنا الديني هو أن مصر تأخذ الآن زمام المبادرة، سياسيا وفكريا ومجتمعيا، في هذه المسألة. وإذا نجحت في ذلك فإن تجديد الخطاب الديني سينجح في أي مكان عربي آخر، نظرا إلى قوة تأثيرها وثقل أثرها على المجتمعات العربية قاطبة.