في الموسيقى الأندلسية المغربية ثمة نوبات معدودة، لا تتجاوز 11 نوبة، هي الحياة بشمائلها وانتكاساتها، والجسد بصبواته وصدوده، والروح بانتشائه وسقمه، لكن ثمة موازين تشرح صدر العدد المقفل، وثمة لغات ومقامات، والشرح لا ينفي القبض، لأن هناك دوما لوعة وفرحا، رزءا وغنيمة، غير أنه في المحصلة تتحول كل النهايات إلى مجرد "انصرافات"، فالطرب الأندلسي لا يعترف بالنهاية، بل بمجرد مغادرة يعقبها "استهلال". لهذا كان هذا اللون من الموسيقى التراثية المعقدة، الوافد من زمن أندلسي متخم بامتحانات السياسة، وفجائعها، هو الطرب الرسمي للدولة المغربية، يكاد يتشرب كل شمائل السلطة العتيقة وسجاياها، عطاياها ورزاياها، يعزف في الاحتفالات الدينية والوطنية، حتى أن الجلباب الأبيض والطربوش الأحمر، الذي يلبسه العازفون هو نفسه الزي الرسمي للمراسم والتشريفات، هو ما يسمى عندنا بالزي "المخزني" (لباس السلطة)، يلبسه نواب الأمة والوزراء والولاة ومجمل الصفوة في الاحتفالات الرسمية، يوحد الحكام، كما يوحد الآلاتية والمنشدين، فتتجلى الأوركيسترا الموسيقية بوصفها استعارة للسلطة، أو بتعبير أدق كاختزال لها. فمن أدبيات الطرب أن الكل حافظ للصنائع والنوبات، لكن يوجد باستمرار كبير يبدأ، ولو كان صوته ضعيفا، هو القائد والشيخ، ليس لكفاءته الموسيقية، وإنما لسنه وذاكرته الحافظة. وفي كثير من المناسبات اليومية قد يعزف جوق الآلة الأندلسية وصلاته مجانا، فقط لأنه يهوى هذا اللون من الطرب، ولأن غنيمته هي النشوة الخفية أو الظاهرة لأفراد الفرقة وجمهورها، تماما مثل قواد ?دار المخزن? وولاته وحكوماته التي ظلت لقرون لا تأخذ عطية نقدية، كان أجرها هو ممارسة السلطة في رقاب العباد، فالرزء المادي كان دوما قرين الغنيمة الرمزية. استحضرت كل هذه الأشياء وأنا أعيد قراءة رواية ?غريبة الحسين? -وهو عنوان نوبة أندلسية- للروائي والوزير أحمد التوفيق، التي تستدعي بشكل مكثف الموسيقى الأندلسية، لكن فوق استدعائها لتلك الموسيقى ثمة شيء آخر أهم هو وضع الروائي الذي يمثل ركنا أصيلا في الاستعارة الرمزية التي يمثلها جوق الآلة، وزيرا قديما للأوقاف في حكومات متعاقبة. في نسيج الرواية سعي إلى فهم كنه الطرب المأسور من قبل السلطة، وثمة قدرة من عارف بدهاليز الحكم على تفسير غوايتها، وفي النهاية، تتمثل لنا حكمة المنشد الأندلسي، التي لا تدرجها الرواية، في صنعة من نوبة ?الحجاز الكبير? حيث يقول: ?كن في عشقك على حذر، لا تزد شي على النظر?، بيت شعري تردد منذ قرون في ردهات دار المخزن، أمام الوافدين والمغادرين، المستهلين والمنصرفين، ولبث دوما كتميمة منسية.