أتصور أن المعلم الأول أرسطو حينما نظّر للفن المسرح، كان يعي بشكل أو بآخر أن هذا الفن هو فعلا أبو الفنون. وحينما اقترح مصطلح المحاكاة واعتبرها جوهر الإبداع، إنما كان يتحدث بشكل أو بآخر عما سمي فيما بعد بمصطلح التشكيل، ذلك بأننا حينما نبدع أي إبداع: شعرا كان أم نثرا ، بصريا كان أم حركيا، إنما نقوم بعملية تشكيل ما نتصوره في أذهاننا أو مخيلاتنا. ونحن في كل ذلك لا ننطلق من فراغ، وإنما ننطلق من إدراكاتنا الحسية أو الذهنية. بمعنى أنا ننطلق من الكائن رغبة منا في تحقيق الممكن أو البحث عنه عبر العملية الإبداعية. وهذا هو المعنى الجوهري لمفهوم المحاكاة: أي محاكاة ما ينبغيأن يكون مما هو متخيل لتحقيق المتعة أو ما يسميه أرسطو بالأثر.1 ولايتم هذا الأثر إلا بوسائل المحاكاة التي تختلف من جنس فني لآخر. وهي وسائل تتنوع بين اللغة والرسوم والإيقاعات والانسجام، وغير ذلك مما يندرج عند أرسطو في خانة الوسائل والأساليب.2 من هنا نفهم العلاقة بين المحاكاة والتشكيل. فهما في نهاية الأمر وجهان لعملة واحدة. فالمبدع كيفما كان الجنس الفني الذي يشتغل به إنما يقوم بعملية تشكيل للعوالم المتخيلة. أوَ لا يقوم الشاعر بتشكيل الصورة الشعرية من منطلق اللغة الموحية التي هي في الأصل قناع تعبيري يختفي وراءه للتعبير يحس به كي تجاوز السائد والكائن بحثا عن الممكن؟ وإلا فما جدوى أن يستعيد ما هو مدرك عند عامة الناس، وبأساليبهم التي لا تعدو أن تكون استرجاعا ممجوجا للكائن المبتذل؟فهذا أمر لا يحقق الغاية من الفن التي تكمن في المتعة أو ما سماه أرسطو بالأثر. وأكيد أن ما ينطبق على الشعر ينطبق كذلك على الأجناس الأدبية والفنية الأخرى. فالفنان يقوم بعملية تشكيل باللغة أو بالألوان والأحجام والظلال، أو بأساليب السرد المختلفة، أو بالنحت،أو بالإيقاع أو غيره، لأن عملية التشكيل هي جوهر كل إبداع. وهذا ما يجعلنا نحس بالدهشة، ونتأثر ونستمتع بما تقرأه أو نسمعه ونشاهده من صور قد تختلف مصادرها وطرقها وأصنافها وأساليبها وآلياتها… ولكنها تلتقي في النهاية عند كونها تشكيلا بشكل أو بآخر. ولعل الأستاذ عبد الحفيظ مديوني أحد هؤلاء المبدعين تمثلا لهذه القاعدة. والسبب في ذلك أنه ولج مجال الشعر والسرد والدراما من أبواب الفنون التشكيلية. أي أن التشكيل حاضر في مسيرته الإبداعية بالقوة وبالفعل، باعتبار أنه يمارس فن التشكيل بشكل احترافي؛ وهذا ما سهل عليه توظيف هذه الموهبة في أعماله الإبداعية بمختلف أنماطها التعبيرية. والجدير بالتذكير أن الأستاذ عبد الحفيظ مديوني فنان شامل، إذ كتب الشعر في بداية مسيرته الفنية موازاة للتشكيل، وبعدها انتقل إلى مجال الدراما فكتب أعمالا مسرحية كثيرة نذكر من بينها: «ضيوف من القرية» و»رحلة سند وباد»،و»زرقاء اليمامة»، و»في انتظار القافلة» و»مفتاح الكنز»، و» الورشة»، و»صانكيشوط». وقد حصل على جوائز في مهرجانات مسرحية وطنية، وقام بإخراج بعض منها ضمن جمعيات بمدينة أبركان، وشارك في مهرجانات مسرحية داخل الوطن وخارجه إذ كان إلى جانب إشرافه على الإخراج، يقوم بالإعداد السينوغرافي للعروض، وحاز جلها جوائز في السينوغرافيا إلى جانب التأليف. وفضلا عن التشكيل ضمن الجانب السينوغرافي في كثير من أعماله المسرحية وعروض مخرجين مغاربة آخرين، يحضر هذا الإبداع التشكيلي أيضا من خلال اللوحات التي أنجزها لكتب كثير من الكتاب المغاربة، ناهيك عن الممارسة الاحترافية لفن التشكيل التي تمثل عشقه الأول بكل تأكيد. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن الرجل شارك في معارض كثيرة داخل الوطن وخارجه، وكانت لوحاته دائما تستأثر باهتمام النقاد والباحثين. ولعل من أهم ما نسجله في هذا المقام أن بعض لوحاته تشكلت مادة للدرس العلمي الأكاديمي في جامعة السوربون نظرا لأسلوبها المتميز. وهو أمر قد لا يتأتي إلا لمن أوتي القدرة على فعل الاختراق الجغرافي للوصول إلى العالمية. وهذا لا تتحقق إلا بتوافر صفة الأصالة والتميز. ويبدو أنهما صفتان ثابتتان في لوحاته التشكيلية. ونشير في هذا الصدد إلى أن اللوحات التشكيلية للفنان عبد الحفيظ مديوني تتميز في مجملها بخاصية أساسية هي خاصية ما أسميه بالفجوات. وهي خاصية تمنح المتلقي مساحة للتأمل والاجتهاد في القراءة والتأويل حتى يكون طرفا في العملية الإبداعية. والملاحظ أن هذه الخاصية لم تقف عند لوحاته التشكيلية، وإنما انتقلت إلى نصوصه الإبداعية السردية والدرامية من خلال نهاياتها المفتوحة وقابليتها لتعدد التأويلات والقراءة وفي ما يخص الجانب السردي، نذكّر بأن الأستاذ عبد الحفيظ مديوني، كتب مجموعتين قصصيتين هما: أغراب الديار» و»الصعود إلى الشمس». أما في مجال الرواية فقد صدر له نص» الحكاية الأخيرة». وفي جل هذه الأعمال السردية تحضر خاصية التشكيل بقوة. ويبرز هذا الحضور على مستويين: مستوى الشكل، حيث نلمس أسلوب الكتابة يعتمد على خاصية اللامشابهة ، أو مايسمى عند البلاغيين بعدم مطابقة الحقيقة: L'invraisemblable « . وفيه يركز على الكتابة السرية باعتبارها تصويرا استعاريا. وهذا ما يبرر تركيزه على اللغة الانزياحية كأننا أمام نصوص شعرية، إذ تحضر الصورة البلاغية بدل اللغة السردية المباشرة. وهو أمر يعيدنا إلى مفهوم المحاكاة ذاته. والأمثلة كثيرة ومتنوعة على ذلك سواء في قصصه أم في روايته. مستوى المتن، وهو المستوى الذي يجعل من فن التشكيل مادة للحكاية . وهذا وارد في كثير من نصوصه التي تتحدث عن التشكيل والرسامين واللوحات وما إلى ذلك مما يندرج ضمن عوالم التشكيل بشكل عام.ولعل قصة «المختفون»3 نموذج على ذلك تمثيلا لا حصرا. وأكيد أن هذا الحضور ليس اعتباطيا أو مجانيا، وإنما هو حضور يستجيب للخلفية المرجعية التي يتكئ عليها الفنان عبد الحفيظ مديوني من جهة، وهو حضور واع يندرج ضمن وعي الكتابة لدى الكاتب بكل تأكيد، كما أنه يستجيب لنداء اللاوعي الذي ينفلت من أسر ضوابط الأجناس ونقائها من جهة أخرى في ما نعتقد. ونظرا إلى أن الفنان عبد الحفيظ مديوني مبدع متنوع في إبداعاته، إذ كتب الشعر والقصة والرواية والمسرح فضلا عن التشكيل ، فسأقف عند محطة إبداعه المسرحي لأقدم نظرات عابرة حول أهم الخصائص التي تميزه، ومن بينها على سبيل التمثيل لا الحصر: العبرنصية: وهو مظهر من مظاهر تنوع الكتابة عنده. فهو حين يكتب نصا مسرحيا، يستحضر شخصية القاص والروائي والتشكيلي والشاعر. لهذا نحس بهذا التداخل الأجناسي في مسرحياته، كأنه يترجم عمليا القولة السائدة: «المسرح أبو الفنون». ففي نصوصه المسرحية كثير من السرد بالرغم من أن ما يميز المسرح في الأصل هو الحوار كما هو معلوم. والعكس أيضا صحيح، حيث نلمس كثافة من الحوارات في نصوصه القصصية، ولو بواسطة تقنية السرد الداخلية نفسها كما في هذا النموذج: سأله ابنه الذي كان ما يزال صغيرا: «ما أفضل أمانيك في هذه الحياة؟» فأجاب: «أن أقطع البحر.» «وما البحر؟» استفهم الابن..؟» إنه حوض مائي واسع، يفصل القارات عن بعضها البعض..» أوضح الوالد. «وهل فعل ذلك غيرك من قبل؟» واصل الابن مستفسرا.. «لا، أبدا، في ما يخص جنسنا، نحن الهزارات..»4 وإلى جانب السرد، قد لا تجد نصا من نصوصه المسرحية بدون حكاية. فالحكاية ثابتة بكل عناصرها الكلاسيكية من بداية وعقدة وحل، دون أن يعني ذلك أنه يقدم حلولا لحكاياته، لأن أغلب حكايات مسرحياته بدون حلول، باعتبار أنه يترك النهايات مفتوحة عبر استفزاز المتلقي، وإثارة سؤال الدهشة، والرغبة في البحث والتساؤل، مما يجعلنا نحس وكأن الحكاية لم تكتمل، تماما كما هو الشأن مع كثير من نصوصه السردية، بل وأعماله التشكيلية التي رأينا أنها تتميز بخاصية ما أسميناه بالفجوات. ولعل هذه الخاصية نفسها هي التي كانت وراء تسمية روايته بعنوان يؤكد هذه الخاصية حين عنونها ب»الحكاية الأخيرة»، موهما القارئ بأنه سينهي حكاية روايته، لكن يصر على أن يتركها مفتوحة أمام حيرته وتساؤلاته عن النهاية الممكنة بعد رحيل الرجل وتركه عفراء فجرا دون الإعلان عن وجهته أو مصيره. فقط نقط الحذف الثلاثة تشي باللامتوقع والمحتمل المتعدد. يقول الكاتب في روايته» الحكاية الأخيرة»: وفي اليوم التالي، عندما تميل الشمس إلى مغربها، يخرج الرجل من خيمته، وقد تزين وتطيب وترفل فيما بقي من رونق على ملبسه، يختار لنفسه مكانا طالما تربع به، يفرش سجاده، يجلس القرفصاء، يستكين ويشرد بخلده وناظريه في لحظة تأمل وتركيز، فينطلق في سرد الفصل الأول من حكايته السابعة، ويأتي اليوم الثاني، ومعه فصلها الثاني، فاليوم الثالث والفصل الثالث، فالرابع فالخامس.. إلى أن يأتي على الفصول السبعة كلها.. ثم يأوي إلى خيمته ليقضي بها هزيعا من الليل، قبل أن يشد رحاله فجرا ويغادر عفراء…5 ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن نقط الحذف الثلاث هي تشكيل بصري يفيد الاستمرارية والتتابع واللانهائي في عرف البلاغين ضمن ما يسمى بعلامات الترقيم. وأكيد أن إثباتها في النص مرتبط في جوهره بما بخاصية الفجوات التي أشرنا إليها آنفا. كما أنها وجه من أوجه سلطة التشكيل في إبداعاته بشكل عام، خصوصا وقد قدم لنا قرائن قد تفيد معنى اللانهائي. وهي القرينة المتمثلة في العدد سبعة. وهو كما نعلم عدد يحمل دلالة ميثولوجية تفيد معنى المطلق في الزمن أو ما يطلق عليه مصطلح « الزمان» أو الدهر. إن عبد الحفيظ مديوني يمثل أحد النماذج الواضحة على الكتاب الذين يتمثلون خاصية العبرنصية، إذ نجده في بعض الأحيان يلغي الحدود بين الأجناس الأدبية والفنية عبر ما تسميه الباحثة الألمانية إيريكا فيتشر ب»التناسج». وفعلا نحس بأن الكتابة الأدبية عنده تصير عابرة للنصوص، حتى إنه أحيانا يقوم بعملية تلقيح للجنس الأدبي كي يَعبر بسلاسة إلى جنس آخر. وهذا ما نلمسه بجلاء في انتقال بعض نصوصه القصصية إلى رواية كما هو الشأن مع قصته «عفراء»6التي تشكل تمهيدا لروايته» الحكاية الأخيرة»، أو قصته» دي لا مانشا»7 التي تحولت إلى مسرحية تحمل عنوان» صانكيشوط»8. الكتابة الدراماتورجية: وهي خاصية لافتة في نصوصه المسرحية. فهو لا يكتب نصا دراميا خالصا، وإنما يكتب ما نسميه بالعرض بالقوة، لأنه يهيئ للقارئ العرض المتخيل عبر تأثيث الركح المفترض. وكأنه يوفر للمخرج كل المكونات الركحية والسينوغرافية المفترضة كما يتصورها هو، في انتظار ما قد يقدمه المخرج من اجتهاد يثريها. فعبد الحفيظ مديوني إذن يقدم النص الدرامي بالفعل من منطلق العرض الفرجوي بالقوة. بمعنى أنه يكتب النص المسرحي بعين المخرج.ومسوغ ذلك أنه من جهة مخرج مسرحي ممارس، ومن جهة أخرى فنان تشكيلي خبير بعوالم السينوغرافيا. من هنا فهو حين يكتب نصوصه المسرحية، يستحضر هذين المعطيين بالقوة وبالفعل معا، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار سلطة التشكيل التي تمثل سلطة ثابتة ودائمة في كل إبداعاته كما أسلفنا. حضور فن المرتجلات في أعماله المسرحية: والمعروف أن المرتجلات صنف من المسرح يتخذ من قضايا المسرح موضوعا له. أي أن فن المسرح يشكل في المرتجلات متنا وشكلا فنيا في الآن ذاته. وهي تعبر عن وجهة نظر المؤلف تجاه قضايا المسرح التي يعالجها. وهي لا تعني الارتجال الذي يفيد معنى التلقائية في التشخيص، ذلك بأن الارتجال مجرد تقنية يتوسل بها الممثل في أدائه لدوره عند الضرورة. أما المرتجلة فصنف من لمسرح وليس مجرد تقنية أو آلية من آليات التشخيص. والمرتجلة تجربة نادرة في المسرح العالمي كله. وقد عرفت بشكل واضح في أوروبا مع موليير،وجان جيرودو، وبيرانديلو، ويونسكو وغيرهم. أما في المغرب، فيمكن الإشارة إلى تجربة كل من الطيب الصديقي في مسرحيته «حفل عشاء ساهر»، ومحمد الكغاط في «المرتجلة الجديدة» و» مرتجلة فاس»، ومحمد نظيف في «مرتجلة الدارالبيضاء»، ثم صاحب هذه الدراسة في مسرحيته» مرتجلة الشرق». ويعتبر عبد الحفيظ مديوني أحد المساهمين في هذه التجربة الطريفة من منطلق تجريبي خالص. وهو ما نلمسه بشكل خاص في مسرحيته «الورشة»9، حيث تحضر تقنية التمسرح ليصير المسرح وسيطا فنيا لمعالجة مشاكل المسرح. أو هو كما يصرح بذلك المؤلف في تقديمه لهذا النص، تمثيل داخل تمثيل برؤية تشكيليةتختزلها لوحة تكعيبية متحركة. يقول عبد الحفيظ مديوني: «مسرحية «الورشة» تجربة تمثيل في تمثيل بامتياز،تجربة حكاية في حكاية، شخصية في شخصية، وقضية في قضية… إنها بمثابة لوحة تكعيبية حية متحركة، ما تنفك تعكس شيئا حتى تعكس من خلاله أشياء، فيصبح كل ما فيها هلاميا متماهيا متداخلا متصاهرا، قابلا للتحول من صورة إلى أخرى دونما انتقاء أو انمحاء للصورة الأصل.»10. الرؤية الكرنفالية. وهي الخاصية التي اعتبرها ميخائيل باختين منطلقا لتأسيس جنس الرواية. ويبدو أن الكاتب عبد الحفيظ مديوني يتمثل هذه الخاصية في نصوصه المسرحية من منطلق استلهام ما تمنحه الرحلة من تعدد في الأصوات التي تعكس تنوع الشخصيات والمواقف. وهو ما يندرج عادة ضمن خاصية التهجين التي ترتبط أساسا بالرؤية الكرنفالية للعالم كما هو معروف. وإلى جانب تعدد الأصوات، تبرز تلك الرؤية الكرنفالية أيضا عبر تنوع الأفضية والأحداث، واستمرارالرحلة أو الرحلات نحو آفاق لا يحدها إلا المتخيل السردي أو الحكائي. لهذا تصبح الرحلة منطلقا للانفتاح على أحداث وشخصيات وأفضية متنوعة، تساعد على خلق الدهشة والإحساس بانتظار المفاجآت واللامنتظر. فهي في نهاية الأمر لا تستجيب لأفق انتظار المتلقي كما هو الحال في المسرحيات أو الروايات الكلاسيكية. ولعل مسرحية «رحلة سندوباد»11خير مثال على التجربة. فهي مسرحية مشبعة بالرؤية الكرنفالية للعالم، حيث ترحل بنا كل من شخصية سند وباد في رحلة يسميها المؤلف «سرحة». وهو مصطلح فني لصيق الدلالة بما تقتضيه الرؤية للعالم من تحرر في الأحداث والأفضية، دون تحديد لغاية أو نهاية مضبوطة. وهو المعنى العام الذي تدل عليه كلمة سرح في اللغة العربية: أي السير بغير هدى أو هدف محدد، على غرار ما يفعله الراعي وهو يسرح غنمه في الخلاء دون تحديد لوجهة ثابتة، مادامت أغنامه هي التي تسرح باحثة عن الكلإ أينما وجد، دون توجيه دقيق من السارح الذي هو الراعي. وأكيد أن الكاتب كان واعيا بما تمنحه هذه الرؤية الكرنفالية من إمكانية التنوع في الشخصيات والأحداث والأمكنة. لهذا لم يكن اعتباطيا أن يسمي المسرحية بالرحلة. فهي رحلة في النفس البشرية. أو قد تكون تلك الرحلة هي الحضارة الإنسانية نفسها بكل منعرجاتها بين قيم الخير والشر، القبح والجمال: هي «رحلة الدمار التي قام بها سند وباد عبر امتداد التاريخ الإنساني. وما هذا «السند والباد» في نهاية المطاف غير الإنسان نفسه الذي وكل إليه أمر إعمار الأرض، ولكن بدل ذلك سولت له نفسه الأنانية تخربيها وتدميرها بوسائل تفنن في صنعها، كما تفنن في اختراع طرق التقتيل والإبادة…».12 وتحضر هذه الخاصية خاصية الرؤية الكرنفالية مرة أخرى في مسرحيته الأخيرة «صانكيشوط»، حيث تتعدد الأفضية والأحداث وتتبادل الأدوار بين الشخصيتين صانشو ودون كيشوط بشكل مفارق في رحلة استكشافية يغلب عليها طابع الغروتيسك، ولكنها رحلة تعيدنا إلى عوالم الحلم التي تملك وحده القدرة على مواجهة قبح الواقع، والشر المفروض على بؤساء هذا الكون: سرفانتيس: الشر يا بني، أقوى وأعظم من أن تحاربه كبريات المؤسسات ، وبالأحرى نحن، بؤساء هذه الأرض.. إنه شبكة مهيمنة على كل صغيرة وكبيرة في هذا العالم.. لا تسمح لمن يناهضها ويقاومها إلا بهامش لا يعدو اللعب بنفاخات سرعان ما تنفقع وتزول.. وما حملتكما عليه، هو أقصى ما تسنى لي القيام به على طريق الخلاص المنشود.. دون كيشوط: طريق الخلاص الذي وضعتنا عليه، كنت تعلم أنه غير سالك.. سرفانتيس: ولكننا نحافظ فيه على الحلم. صانشو: أي حلم يا سيد سرفانتيس؟ سرفانتيس: حلم القضاء على الشر. صانشو: وما جدوانا، نحن من أضغاث أحلام؟؟ سرفانتيس: إذا زال الحلم، زال الأمل يا صانشو.. وزوال الأمل ركون إلى اليأس والاستسلام.. هذه رسالة، وأمانة، وحمل على أحد أن يضطلع به، ولا غرو في أن يكون نحن.. نحن، يا صاحبي، حملة مشروع في انتظار موعد تنفيذه، وحفظة حلم سيتحول، ذات يوم، إلى واقع وحقيقة..13. تكسير أفق انتظار القارئ: وهي خاصية تكاد لازمة في جل أعماله الفنية. فهو في استعراضه للحكاية سواء أكانت داخل القصة أم الرواية أم المسرحية يدارينا بتسلسل يوهمنا معه بنهاية منتظرة، لكن لا يلب أن يفاجئنا بنهاية غير منتظرة ، أو على الأقل بنهاية غير مكتملة كي يفتح آفاق تأويلاتنا، رغبة منه في إشراكنا في العملية الإبداعية، ولو بالتخيل والمساءلة والدهشة والبحث عن النهاية الممكنة. ولسنا بحاجة إلى تقديم أمثلة على ذلك مادامت جل نصوصه تتمثل هذه الخاصية. ولعل في ختم تلك النصوص بنقط الحذف ما يؤكد ذلك، باعتبار أن علامات الترقيم تلك، إنما هي عملية تشكيلية بصرية ينبغي قراءتها في سياقها السردي أو الحكائي، حتى ولو كان الأمر متعلقا بحكاية ضمن نص مسرحي. الالتزام: وهي خاصية تكاد تكون عامة عند الكتاب والمبدعين المغاربة، خصوصا المسرحيين منهم. وعبد الحفيظ مديوني لا يمثل الاستثناء في هذه القاعدة. فهو يكتب من منطلق مرجعية اشتراكية تقدمية طليعية كما تشي بذلك كل نصوص السردية والدرامية. ويبدو أنه إلى جانب معالجته للتناقضات السياسية والاجتماعية التي تعج بها المجتمعات العربية كالصراع الطبقي، والانتهازية، والقضايا القومية المصيرية…، يعالج تيمات القيم العليا التي تتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية، من قبيل صراع الخير والشر، والجمال والقبح، والإرهاب، والحرب والسلم، والعبودية، والاستغلال بمختلف مظاهره السياسي والاقتصادي والديني والاجتماعي، ونحو ذلك من القيم المطلقة… ويجدر التذكير في هذا الصدد بأن هذه الخاصية مرتبطة عنده بخاصية حضور الحكاية في نصوصه. فهو يكتب نصوصا ذات حمولة فكرية واضحة. لهذا غالبا ما يستعين بالحكاية لتكون له معينا لتحقيق تلك الغاية. وهي مسألة صرنا نتفقدها للأسف في الكتابات المسرحية الجديدة عند كثير من شبابنا، ولاسيما عند بعض خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي الذين يركزون أكثر على الجوانب الشكلية، ويهملون المضمون الفكري، حتى تحولت كثير من عروضهم المسرحية وكأنها تداريب على أساليب التجريب، فلا نكاد نلمس قضية واضحة المعالم. وهذا ما جعل من هذا النوع من العروض المسرحية وكأنها بدون قضية. وحين تغيب القضية، يغيب جزء أسياسي من غاية الإبداع ألا وهو تنوير المتلقي وتنمية مداركه المعرفية والفكرية، دون إهمال التنمية الجمالية طبعا لأنها الوجه الثاني لبنائية العرض المسرحي. المفارقات: مسرح عبد الحفيظ مديوني مسرح مفارقات. وتظهر هذه الخاصية في كيفية تقديم الأحداث وإنهاء الحكاية،إذ يصدمنا بتكسير أفق انتظاراتنا كما ألمحنا سالفا. وتظهر من جهة أخرى بواسطة كيفية تقديم الشخصيات. فهي شخصيات لا تستقر على حالكما هو الشأن في النصوص المسرحية الكلاسيكية. وحتى حين تتطور تلك الشخصيات بتطور الأحداث، لايتم التحول بشكل منطقي تصاعدي، وإنما يتم بشكل فجائي أو بطريقة غير منتظرة . ولعل مسرحية « صانكيشوط» أسطع مثال على ذلك. فالمعروف في أدبيات النص الروائي أن دونكيشوط هو البطل الرئيس الذي يقوم بالأحداث ويتحكم في مسيرة الرحلة الكرنفالية. ولكن في مسرحية عبد الحفيظ مديوني تنقلب الموازين ليصير تابعه سانشو هو البطل، ويقوم دونكيشوط بدور التابع استجابة لسياق الأحداث وتحولاتها. ولم يكن هذا التحول مجرد لعبة فنية تتوزع من خلاله الأدوار كما توزع عادة ضمن عملية الكاستينغ التي يتولاها المختص في هذا المجال، وإنما هي عملية شديدة الصلة بالرؤية الفكرية التي تجسد خاصية الالتزام عند الكاتب. وما تبادل أدوار البطولة غير وجه من أوجه اللعبة السياسية التي نعيشها يوميا في كواليس المؤسسات الكبرى المتحكمة في مصير الشعوب العربية شرقا وغربا. تلك هي بعض الخصائص الكبرى التي تميز إبداعات عبد الحفيظ مديوني. وقد استعرضناها على سبيل التمثيل لا الحصر، لأن الرجل ينحت من صخر في كتاباته ولا يغرف من بحر. وهي إبداعات تأتلف في مجملها بكونها تشكيلا بمظاهر وأساليب مختلفة، رغم أنها ظاهريا تنتمي إلى حقول معرفيةمتباينة، وأجناس فنية وأدبية متنوعة؛ذلك هو المبدع عبد الحفيظ مديوني: تشكيلي في إبداعاته ومبدع في تشكيلاته.