«إذا خيروك بين أن تكون على صواب أو أن تكون لطيفًا، اختار اللُطف؛ ذلك لأنّ كل شخص حولك يخوض معركته الخاصة». ربّما تكون هذه العبارة هي الثيمة الأساسية التي قامَ عليها فيلم أعجوبة «Wonder»، هذا الفيلم الأمريكي الذي أنِتِجَ عام 2017 مُقتسبًا عن رواية تحمل نفس العنوان، والذي جاء من إخراج ستيفن تشبوسكي، وبطولة كل من جوليا روبرتس، وأوين ويلسون، وجايكوب ترامبلي، وماندي باتينكين وإيزابيلا فيدوفيتش. وقد جعلَ من العبارة السابقة ثيمته الأساسية وجاء محمّلًا بمضامين تدعو إلى التعاطي اللطيف مع الآخرين وتقبّلهم وتقبّل اختلافهم، لأنّ كلّ واحد منهم ومهما بدا مُرتاحًا وهادئًا فإنّه في أعماقه يخوض معركته الخاصة. الفيلم في ملخّصه يروي قصة أسرة مكونة من أم وأب وطفلين، الطفل الأصغر وهو بطل الفيلم، يُدعى أوجست أو أوغي، يبلغ العاشرة من عمره، لكنّه ليسَ ككلّ الأطفال، فاستثنائيته تأتي من كونه وُلِدَ يُعاني من تشوهات خُلِقية حادة، وهو ما اضطره –رغمَ- صغر سنه- للخضوع لسبع وعشرين عملية جراحية حتى يتمكّن على إثرها من التنفّس والسمع والرؤية بشكل أقرب ما يكون إلى الوضع الطبيعي. وبسبب الحالة الصحية الصعبة لأوغي وشكله المختلف عن أقرانه، فإنّه لا يذهب إلى المدرسة، ويظلّ يحظى بتعليم منزلي تُقدّمه له والدته التي كرّست حياتها من أجله. وذلك كان حال أوغي حتى بلغ العاشرة من عمره حينما قرّرت والدته أنّ الأوان قد حان لدخوله المدرسة، وهنا يبدأ الفيلم بسرد ما يتعرّض له أوغي من زملائه من مضايقات وتنمّر بسبب شكله المختلف، بحيث أنّه لا يجرؤ في البداية على المواجهة قبل أن يتمكّن في النهاية من امتلاك جرأة وشجاعة تُمكّنه من تكوين أصدقاء وعلاقات حقيقية. ما لفتني في هذا الفيلم أنّ معظم المراجعات حوله جاءت بما يخدم ثيمته الرئيسة حول ضرورة التحلّي باللطف مع الآخرين، مهما بدو غريبين ومختلفين عنا لأنّهم لن يستطيعوا تغيير حقيقة هذا الاختلاف، والحلّ لا يأتي إلا من خلال تغيير نظرتنا إلى حقيقة اختلافهم هذا. وتبعًا لما سبق، فقد وجدتُ أنّ غالبية القراءات والمراجعات حول الفيلم جاءت لتدعو إلى سيادة مفاهيم التقبّل والتفّهم لهذا الاختلاف، وأنّ ولا واحدة منها حاولت تسليط الضوء على كيفية تعاطي الفرد المختلف مع حقيقة اختلافه. والفرد المختلف هنا هو أوغي، هذا الطفل الذي يظهر في بداية الفيلم مُدركًا لاختلافه بشكل جيد، وفي مواضع أخرى منه محاولًا أن يفهمه. فيَرد على لسان أوغي في بداية الفيلم: «الفتيان العاديون لا يجدون الناس يُحدقون بهم أينما ذهبوا». وفي أحد مواضع الفيلم يجري هذا الحوار بين أوغي وأمه: -لمَ عليّ أن أكون بكلّ هذا القبح؟ -لستَ قبيحًا يا أوغي. -إنّك مضطرة لقول هذا لأنّكِ أمي. -قول هذا لأنّني أمك ينفي صحة قولي. -أجل. -كوني أمك يعني أن رأيي هو الأكثر صحة لأنني أكثر من يعرفك. -إنك لست قبيحًا، وأي أحد يرغب في معرفتك سيعرف هذا. -لا يودون التحدُّث إليّ فعلًا، شكلي المختلف يُهم فعلًا، أحاول التظاهر بأنّ المظهر ليس مهمًا ولكنّه كل ما يهم. فهذه العبارات الواردة على لسان أوغي تستبطن تلكَ الصعوبة الكامنة في وعيه الطفولي لتقبّل هذا الاختلاف على الرغم من استيعابه وإدراكه الجيد له. وعند هذه النقطة بالذات يُمكن الوقوف والانطلاق من حالة أوغي في الفيلم إلى حالات مشابهة، يقفُ فيها الوعي الطفولي عاجزًا عن تقبّل هذا الاختلاف الذي ولّده مغايرته الجسدية عن الآخرين، سيّما إذا كانت هذه المغايرة منبثقة من ملامح نقص بينة في جسده ووجهه، كالإعاقة والتشوّهات الخَلقية وغيرها. إنّ عجز وعي الطفل عن تقبّل اختلافه يتعلّق بمستوى واحد من مستويات وعيه، وهو الوعي الاجتماعي، وهذا الوعي هو الوعي المسؤول عن إدارة الطفل لنفسه باعتباره كائنًا اجتماعيًا، وهو المسؤول أيضًا عن إدارة قدرته على اختراق الناس واحتوائهم والانسجام أو الاختلاف معهم. فالوعي الطفولي هنا وفي مستواه الاجتماعي يُدرك اختلافه عن الآخرين، لكنه يعجز عن النظر إليه كاختلاف يُمكن تقبّله من قبل الآخر، فإشكالية هذا الوعي هي أنّه ينظر إلى جسده على أنّه محور العلاقات البشرية، أو يَراها كما أورد رولان بارت: «العلاقة البشرية هيَ أنّ جسد الآخر عندي ودوماً صورة لأجلي، وجسدي دوماً صورة من أجل الآخر، لكن ما هو أكثر وضوحًا وأكثر أهمية هو أنّ جسدي بالنسبة لي شخصيًا الصورة التي أعتقد أنها بحوزة الآخر عن هذا الجسد». وصحيح أنّ الإنسان يُعبّر عن علاقته مع العالم عبر جسده، إلا أنّ التعاطي مع صورته عند الآخر كأساس لرفضه وتقبله هو الذي يُفرز إشكاليات عديدة في استيعاب نواقصه الكثيرة. بما أنّ الطفل في مراحل عمره الأولى يكون في وعيه الاجتماعي أقلّ نُضجًا، فإنّ صورته عند الآخر تكون هي الأساس التي يستند عليها في تقبّل نفسه وجسده. بالعودة إلى ثيمة الفيلم التي ذكرتها في المقدمة، فإذا كان اللطف مع الآخر المختلف –جراء عارض نقص جسدي- وتقبّله عبر تغيير النظرة المستنكرة والمتعجبة من اختلافه مهم وضروري، فإنّه مع الأطفال المختلفين أهم وأكثر ضرورية، لأنّه هو المدخل الأساسي ليتقبلوا أنفسهم وأجسادهم ويتصالحوا مع صورتها التي هيَ ليست في مركز وعيهم الاجتماعي سوى صورة الآخرين عنهم.