– 1 – زهرة ، زهرة يا زهرة ! استيقظت عمتي من النوم الذي ظَنوه موتا، لم تَفزع بل التفتت بهدوء كما قد تفعل أي امرأة اسمها زهرة. لم يكن فمها ذلك الثُّقب المُدور الذي قالوا إنه مفتوح لتخرُج منه الرّوح بسهولة..بدا لي فَوهة سيعبُر منها المَوت إلى جسدها. يدُها الباردة الصلبة كحَديدة ضَغطت بقوة على يدي. يدُ الموت حارقة البرودة مثل الجحيم إذن. كانت دائما تريدني بالقرب منها. يكفي أن تقول: «ابعثوا بها لأنني ضجرت». فلا أُمانع بل أفرح لأن أياما من الغرابة الخالصة ستبدأ. هذه المرة قالت ابعثوا بها لأنني سأموت».نحتاج حقا إلى من نُحب عندَ الموت لأننا نريدُ أحدا ليشهدَ على موتنا. نريد من أحدِهم أن يحكي عنا ولو حكاية صغيرة. كنت الشاهدة على موت عمتي ولم يكن هناك شيء ليُحكى غير أنها كانت تمتلك عينينِ زرقاوين لم تر بهما البحر ولو مرة واحدة في حَياتها. يا للعبث ! تقضي يومها في شرب القهوة وإغلاق الأبواب وإسدال ستَائر الغرف لتمنع العتمة من التسلل إلى خَارج غرفتها ! أخبرتني عَمتي يوما أنها تفضل العتمة لأنها التمرين الوحيد المتاح في الحياة على أجواء القبور. الآن وهي تَتدرب على الموت الوشيك تمنعهم أيضا من فتح الستائر وتريدني بالقرب منها. لأننا حين نكون خائفين ووحيدين نحتاج من نحبهم لنضغط عليهم بشدة وكأننا نحاول كسرهم حتى نجد من نتساوى معه في الخوف. ضَغطت مرة أخرى على أصابعي فتأملت جسدها النحيف يلبس منامةً موشّاة بفراشات بيضاء فوق زهور صغيرة جدا. كان ذلك مثيرا ومضحكا. فراشات ضخمة و زهور صغيرة تكاد لا ترى. أتخيل أن تلك الفراشات ستحلق بعيدا بحرية وبلا خوف حين ستموت عمتي والزهور المسكينة ستبقى هناك. الفراشات لن تهرب.أنا من كان يريد الهرب من هناك. الموت يحلق في الأجواء وهذا ليس جيّدا لشخص يعاني انسداد شريان مثلي. هناك شرايين كثيرة داخل قلبي لكنني لا أستطيع تذكر اسمه المعقد حين خرج من فم الطبيب. لا أتذكر اسمه بسبب منقار الموت الحاد الذي ينقرعقلي الآن. – 2 – نلجُ مقبرة سانت لويس، بمدينة « نيو أورليانز» على متن حافلة صغيرة. مقبرةٌ صامتة قريبةٌ جدّا من موسيقى الجّاز. أتذكرُني طفلة وحيدة و صامتة مثل اللعبة التي ليست لأحد وهي تأخذني معها إلى مقبرة «سانت عياد»، أقصد «سيدي عياد». نذهب لزيارة الخالات والعمات اللواتي لم أتعرف إليهن ولا شأن لي بهن. أتجرجرُ خلفها ويدي ذائبة داخل كفها حتى أصبحت استأنس بتلك الارائك الكثيرة الممدودة من أجل الموتى. لاحت لي الحروفُ على شاهدة القبور كطيور محلقة لا أجد ما أفعله فأحفظ أشكالها، حرف الراء يشبه هلالاً تدلّى من السماء والتاء عينان قَلقتان. الكلمات التي كانت تستقبلني على الشواهد عبرت فمي و عقلي و ابتلعتها كطعم: إنا- إلى – رحمة – الله .فقيد – انتقل .- فاطنة. أتهجى ببطء شديدٍ اللاّم الممدودة التي تذكرني بأبي واقفا أمام الباب. وتبدو لي الألف المقصورة في نهاية الكلمات مثل تنورةُ تجِف على حبل الغسيل، أدرك أنني تعلمت حروفي الأولى في المقبرة. هذه هي الحقيقة التي شقّت طريقها نحوي ونحن نتوغل داخل مقبرة «سانت لويس». وأنا أزور قبور أشخاصٍ لا أعرفهم و لا شأن لي بهم. أتذكر أن مقبرة «سيدي عياد» كانت أول مدرسة أدخلها. أتذكر أن الموت كان أول مدرسٍ لي في هذه الحياة.