«دعني لذِئابٍ تهذي أيُّها الغريب» قاسم حدّاد يُعَدّ الشّاعر والفنّان التشكيلي عزيز أزغايْ واحدا من أبرز أصوات قصيدة النثر في المغرب خلالَ العُقود الأخيرة، والمطوِّرين لشكلها وبنائها ومعجمها. شاعر مُقتصد، مكثّف يُراهن على البناء الشّعري وخلق علاقات غيْر مسبوقة بيْن الكلمات وأجْزاء البلاغة. والأَهَمُّ من ذلك أنّ أزغايْ لا ينطلق من نماذج شعريّة جاهزة ومُكتملة، بلْ يكتب القصيدة كما يستشْعرها هو وتَتَفاعلُ معها ذاتُهُ. لذلكَ تحْضُرُ في شعره الذّاتُ الشّاعرة بمختلف تجلّيّاتها الواقعيّة والمتخيَّلَة، وفي تفصيلاتها الصّغرى المرتبطة بما هو شخصِيّ، باليوميّ والعَابِرِ والمنْفلِت. ومن خلالِ دواوينه الشعريّة السابقة، تتجلى العديد من الخصائص الدلالية والتعبيرية واللغوية التي يمكن اعتبارُها مكوّنات بنيويّة في شعر عزيز أزغاي. منها أوّلاً ذلك النّزوع عند نحو بناء جماليّة خاصّة لا تستمدّ مقوّماتها من الوزن والتفعيلة، أو من البناء الشعري التقليدي المطمئنّ لُغة ودلالة، بلْ تستمدّ مقوّماتها وقوّتها من جعْل قصيدة النثر وسيلة مثلى للتعبير الشّعري الذي يصف ويحكي ويبني التفاصيل الصغرى، والمُعقَّدة لواقِع اليوم بكل تشظّياته التي لا تسمح بها سوى حريّة قصيدة النثر. ومنها ثانيا إصرار الشاعر عزيز أزغاي على التقاط التفاصيل الصغرى للحياة والوجود والنفسية الإنسانية وإعادة تشخيصها بلغة ترفض الاطمئنان والاستقرار الكسول، استقرار الحقيقة واليقين المسطّح. لذلك لا يكاد يخلو ديوان من دواوينه من السؤال والشكّ، وإعادة قلْب أشياء الواقع التي تبدو مستقرّة. ومن داخل بنْية الشّك، يبني جُمَلَه الشّعرية القصيرة والجارحة والموغِلة في قلب البناء والعلاقات، دلاليّا وتركيبيّا. أما المُكوِّن الثالث فهو تكثيفه للصورة ومكوناتها الاستعارية والكنائية من خلال كلمة واحدة أحيانا، أو من خلال بناء علاقات مُفارِقة داخل السّطر الشعري، حتى لا أستعمل المصطلح التقليدي للبيت الشعري، أو من خلال توسُّلِه بالتصوير التشكيلي عبر الإحالات اللونية التي يخبرُها جيّدا باعتباره فنّانا تشكيليّا. من هذه الزاوية قرأتُ الديوان الأخير للشاعر عزيز أزغاي الذي يحملُ عنوان «حانة الذّئب» (2018). ففي هذا الديوان، تتأكّد بالملموسِ مُجمل الخصائص والمكوّنات التي أشرتُ إليْها أعلاه. ولعلّ أبرزَ خصيصة يمْكنُ أنْ تُشكلّ مدخلاً لقراءة «حانة الذّئب»، هي خصيصة المُفارقة: المفارقة المُتسائلة والمُتشكّكة، والتي تدعو إلى التفكير وتدعو الاطمئنان للبديهيّ واليقينيّ. المُفارَقَةُ التي تبني دلالتها ضدّ المرجعية الواقعية باعتبارها علاقة مع عالم الأشياء، وتدفَع القارئَ إلى البحث عن مسالكَ جديدةٍ لفهم هذا العالَم وفهم ذاتِهِ في الوقْتِ ذاتِهِ. تتأسّسُ بنيةُ المُفارقَة على العديد من الثّنائيات الدّالّة: (الهزيمة والانتصار، الحب والكراهية، الخيانة والوفاء، الحياة والموت، الخ). وفي هذا الأفق، تغدو الموتُ ملاذا للهروب من رُعب حياة في أقلّ من ثانية. كما تتجلّى المُفارَقة والتنافُر حتى على مستوى الألوان (الأبيض والأسود والأزرق الذي يقول عنه الشاعرُ: «جرعةُ الأمَل الزّرقاء التي خبَّأْتَها في إناءٍ أسْودَ، هيَ كُلّ ذخيرتِك للوقْتِ الميِّت» ص. 18)، وعناصر الكوْن: (الغيم، السماء، الهواء، الشمس، التراب، العاصفة)، وفي البنية الزّمانيّة: (الماضي، الآن، الثانية، الظّهر، بعد قليل، الأيام، السنوات، الخ) وعلى مستوى البناء، تتجلى المفارقة في الوصل والفصل بين الكلمات والجمل، كما تتجلى بناء العناوين: («طرق لا تضحك لأحد»، «حين كانت الأرض»، «شارع بلا غبطة»، الخ)، وفي بناء الجُمل: (ما زال الحظّ يجثو على رُكبتيْه، كان يُقبّل رأسَ الموتِ بقلبٍ ناضجٍ، الخ). ودونَ الدخول في التفاصيل، يتبيّنُ مِنْ قراءة الديوان أنّ الشاعر ظلّ مُخلصاً لنمط الكتابَة الشعريّة التي لا تدغدغُ المشاعر ولا توزّع الاطمئنان السّاكنَ ولا تُخاطب إلّا ذلك القارئَ الباحثَ عن صيغة مخالفة للتعبير الشعري. في قصيدة «حانة الذّئب»، التي هي عنوان الديوان ككلّ (الذّئب بدلالته الحيوانيّة التي لها امتدادات قويّة في قصائد الديوان، ودلالته الإنسانية باعتباره يُحيل على صاحب الحانة المتوفي الذي كانُ يُطلق عليه ولا يزالُ اسم «لولو»)، وهي القصيدة الوحيدة التي يُهديها أزغاي إلى الكاتب إدريس الخوري، يستحضر الشاعر هذه الحانة باعتبارها ثغراً أمريكيا، في إشارة إلى حضور القاعدة الأمريكية بمدينة القنيطرة، وارتياد جنودها الأسبوعي لهذه الحانة. بعد ذلك تتناسل العديد من التّشْخيصات والذّكريات والأوصاف التي تربط بين الماضي المجيد لهذا الثّغر والحاضر البئيس المتردّي، حيث أصبح الناسُ الذين يرتادونه كلّ يوم «مجرّد رَخَويّات تحنّ إلى زمن المظلّيّين، إلى نعيم الإسطبلات المُعَدّدة لتلميع الأسْلحة. كلّهم ورثة سوءِ طالعٍ وتسَوُّس أسنان. (ص. 49). وفي هذا الفضاء السّيزيفي، يقدّم الشاعر صورة إنسانية لمجموعة من الأفراد الذين أَكَلهم الزّمن هنا منذ نصف قرن، و»كلّ صباح يعيدونَ إشْعالَ فتيلِ الفُرص الماكرة بلفّافات التّبغ، ويُصهرونَ المشاعرَ الضّارية بقناني النّبيذ. هي مفارَقة بين زمنيْن وفضاءيْن ومناخيْن وجيليْن جعل مكان الفرح يتحوّل رغم القناني إلى مكان لتصريف الهُموم والوقْت الخائر. إنّ منطق المُفارَقة يقودنا إلى ملاحظة أنّ نصوص الديوان، التي تبدو للقراءة المتسرِّعَة منفصلة عن بعضها البعض، أو على الأقلّ لا رابط بينها، ترتبط في عمقها من خلال منطق الشّك والتردّد واللايقين. وهي كلّها ظواهر تجعلُ الذّات الشاعرة، من خلال خطابها، المُباشر في غالب الأحيان عبْر كافِ الخطابِ، دائمة التّساؤل: الشاعر يسائل الآخر، يسائل الفرد المتعدّد في تناقضاته، ويسائل المجتمع الضّاج بمفارقاته، ويسائل ذاتَه الباحثة عن هوّيّة وعن معنى ما في هذا الوجود المليء بالذّئاب، بكلّ الدلالات والاستعارات التي تحملها هذه الكلمة. تلك الهويّة التي تكسّرت على صخرة الّلامعنى في الزمن الضّائع أو في الوقت الميّت، كما يُشير إلى ذلكَ أحدُ عناوين الديوان في الصفحة 12: «خُذْ نَفَسًا عميقا، من تلكَ الغيمةِ الضاحكة، قبْل أن تنزِل إلى بِركة الأرض». لذلك يمكن القوْل إنّ الذّات (بالمعنى الشّعري في الديوان بطبيعة الحال) هي ذاتٌ متشكّكة، قَلِقَة تبدأ يومها بالقوْل: «صباح الألَم أيّها الغرباء. صباح التكهُّنات والأوقات الصّعبة. صباح العَرق المُرّ الذي يتصبّب على الياقات» (ص. 3). إنه خروجٌ من الذّات الفردية إلى الذّات الجماعية في هذا الوقت بالذّات وكأنّه الوقت الأمثل للكشْفِ عن الحقيقة المُؤلمة. التشكيك والقلق يَقيسان وعي الشاعر في بحثه عن أفق آخر للوجود وللعلاقات الإنسانية التي اختزلها فضاء «حانة الذّئب»، الحانَة بكل أبعادها وصخبها وتناقضاتها. تركيب الجملة الشعرية متشظّ يبني الدّلالة بكيفيّة مفارِقة وغير متوقعَة وغير منتظرة بفعْل الجمع بين ما لا نتوقّع الجمع بينه «أتعثّر بلا مقابِل». كأننا أمامَ محكِيّ يوميّ متوتّر، متسائل. لذلك تتميّز الكثير من البنيات اللغوية والجُمْليّة على بِنْية الّلاتوقُّع على المسْتوى التركيبي، التي أبرزها رومان جاكوبسون: « كانتْ مجرّدَ ارْتماءةٍ ساذَجةٍ في ميراثٍ لا يُؤْكَل» (ص. 37). في حانة الذّئب، يحضُر ذلك البحث الدّؤوبُ عند الشّاعر عزيز أزغاي، لا عنْ وجودٍ حقيقيّ ومثالي (وهو ما تبرز انعدامه كل قصائد الديوان)، وإنّما عنْ لُغَةٍ حقيقيّة، لُغة العابر والهامِشِيّ والمُهمَّش والمُفارِقِ والغريب واللا متوقع. وهو نفس البحث الذي نجده في دواوينه السابقة، ففي ديوان «أسرى على قُماش» يتوسل الشاعر في بحثه عن المعنى باستعارات الوجود الكثيفة وانشغال الذات الشاعرة بأداة القصيدة والتشكيل وامتداداتهما القصية داخل الذات. هكذا تحفر الذات الشاعرة في فضاء القماش لغة ذاتها المنكسرة في تمازج وتفاعل اللحظة الشعرية واللحظة التشكيلية، وبالتالي يتشكل المعنى المحتمل الذي يحاول أن يقبض على هواجس وآنشغالاتالذات في تشكيل عالمها الداخلي وتعرية هذه الحرب الداخلية التي تعيشها الذات في مواجهة العالم، وقد شكلت الصورة أداة ومحور ومادة تشكل معنى محتملات المعنى التي تتأسس على جدلية الموت والحياة، الحرب والعشق /الألوان المعبّرة. وبالتالي، يغدو الخطاب الشعري في هذه المجموعة، وفي غيْرها كما إسلفتُ، تنكسر بِهِ وداخله تلك الوضعيّات النفسيّة الخفية للذات وهواجسها، والقلق الذي يراودها ويؤسّسها، والرؤية للعالم حيث الحرب بأبعادها المتناقضة، وما تحمله الكلمة ذاتها من مفارقة وقلق داخلي.