لم أنس تلك الصباحات الكادحة حين كنا نلتقي وحدانا وزرافات قرب البئر الوحيدة المالحة وسط القرية، هناك عند ملتقى الطرق ومفترقها، كان كل واحد منا يتأبط منجلا أو يضع فأسا أو معولا على كتفه في انتظار فلاحي القرى المجاورة، الذين يأتون أحيانا قبلنا بعرباتهم أو بسياراتهم الفلاحية، من أجل اصطحابنا للعمل في حقول الشمندر أو غيرها.. أغلبنا يدخن الكَيْف، حتى بعض الفلاحين أنفسهم يفعلون ذلك، هو أفضل من السجائر كما كان يقول لنا قيدوم المدخنين في القرية عباس..، لكن صحته تدهورت، أصبح كثير السعال مؤخرا، بل تصاحب سعاله غالبا طلقات ضراط..لسانه كان أشد مضاء من الجميع، لذلك لا يجرؤ أحد على الضحك منه، فهو يمتلك معجما ساخرا جدا..ومن اقترب منه لا يسلم من حدة لسانه.. استيقظت كعادتي باكرا اليوم، رغم أنني لم أدخل إلى البيت حتى الواحدة ليلا..سخَّنت قليلا من الشاي، كان قد فضُل في البراد منذ البارحة، شربت كأسا منه، دخنت، ثم خرجت من البيت في اتجاه البئر..هناك وجدت بعض الأصدقاء مجتمعين حول حبات التين الشوكي، كانوا قد اقتلعوها بأيديهم ..وبدأوا بتناولها، أخذت مكاني بينهم أقطع التين بالمنجل وآكل ..حين اننتهيا من ذلك استل كل واحد غليونه من جيبه …ينما نحن كذلك سمعنا سعال عباس يقترب منا شيئا فشيئا، حتى بدا كشبح وسط الضباب ..حين وصل حيانا بابتسامته الساخرة قائلا: – دايخين وزايدين على روسكم بالكيف.. رددنا عليه التحية بضحكة جماعية..ثم مشى بخطوات متهالكة إلى جنب الصبار، حيث قعد وحيدا مثل قاطع طريق، وبدأ يدخن ، بينما كان الجميع قد التحق بنا ..وبدأت الأعناق تشرئب إلى الطريق.. أخيرا ظهرت عربة الرجل الذي كنا قد اشتغلنا عنده طيلة الأيام الثلاثة الأخيرة، يسوقها عبد الرزاق أصغر أبنائه ، ذو عينين زرقاوين ، ووجه أرقط ..لايتكلم إلا لماما ..عندما اقترب منا ضرب كعادته بعصاه العربة ضربات متتالية؛ كإشارة إلى الجميع من أجل الصعود.. لما توقف بالقرب منا، ركبنا جميعا ، فتوجه بنا مسرعا صوب الحقل الذي كان يبعد قليلا عن القرية، تعالت نوبات سعال عباس في الطريق، إلى درجة أثارت انتباه عبد الرزاق، لكنه لم يقل شيئا، اكتفى بالنظر إليه بين الفينة والأخرى حتى وصلنا.. ترجَّل الجميع عن العربة،وساروا في اتجاه صاحب الحقل، الذي كان يقف قرب إحدى قنوات الري ينتظر ب»بقراج» شاي وكسرات خبز في طبق من الدوم .. انظروا إلى الشمس أين وصلت ..، مشيرا إلى السماء التي جللها الضباب، وأبت أن تكشف النقاب عن وجهها.. منذ هذا العام لن أزرع الشمندر أبدا..،سأزرع مكانه العدس أو البصل أو حتى النبق..، وصاح في وجه ابنه قائلا: اعْطِ لبنادم الكيسان…خُوذوا الخبز..الخيْرْ موجود..زيدوا تْفَطْرُوا… بالفعل ناولنا ابنه الكؤوس واحدا واحدا، بينما كان هو يمسك البقراج من مقبضه،ويصب لنا الشاي واقفا، وعينه على عباس الذي أخرج شيئه من سرواله، وبدأ يتبول ويسعل ويتفل غير بعيد عنا،فقد كانت تصلنا شرشرته.. هاهو الآن يلتحق بنا وبالكأس المملوءة شايا في انتظاره، استلقى على جنبه الأيسر فوق العشب الندي، يرتشف كأسه، ويدخن معاتبا صاحب الأرض على شحه بالمقارنة مع فلاحين صغار يكرمون العمال..لكن دون جدوى..،لم يعره أدنى اهتمام، ركب على دراجته النارية وذهب،لم يستسغ عباس ذلك،ألقى علينا نظرة إشفاق ممزوجة بمشاعر الوداع ، نهض من مكانه وغادرنا هو الآخر دون أن ينبس ببنت شفة، فيما كانت جل الأعين تطارده حتى ابتلعه الضباب؛ هناك من قال إنه سيعود إلى مهنته القديمة الجديدة؛ يبيع الكيف بالتقسيط، وهناك من رجح كفة ذهابه إلى المدينة عند صديقة قديمة..