1 -الرواية ومحكيُّ البحث عن الحقيقة: تتقدم رواية: “سيدة العتمات” لمؤلِّفها حسن إغلان، على أنها، في مجموعها، محكي بحثٍ وتحقيقٍ صِحافيٍّ في حدثٍ محدَّدٍ: ” فأنا صحافيٌّ كُلِّفتُ بالتحقيق في حدثٍ محدَّدٍ، حادثة الصديق الذي مسَّه عقا ابن سيدة الأحباب..”‘ (ص89 ).. وإذا كان المفترَضُ في محكي التحقيقِ الصِّحافيِّ أن يصلَ إلى حقيقةِ ما حدث، فيبدو أن الحقيقة الوحيدة، ربما، التي وصل إليها السارد الرئيس، الصِّحافيُّ المكلَّفُ بالبحث والتحقيق، أنَّ ما انتهى إليه، إذا انتهى إلى شيءٍ ما، قد صار شيئا آخر غيرَ ما يُنتظَرُ من تحقيقٍ صِحافيٍّ: يقول السارد الصحافيُّ: ” هذا ليس تحقيقا صحفيا، هذه حكاية… وأنا أقوم بتحقيقٍ صحفيٍّ بعيدًا عما تعودته الصحافة”( ص90)؛ فإذا كان التحقيقُ الصحافي يفترضُ المعاينةَ، معاينة الحدث والمقارنة بين الأخبار عبر البحث في مصادرها، فإن ما حصل مع السارد الصِّحافيِّ هو سقوطُ تلك المواد الحدثية والواقعية والمادية في دائرة الخيال، وما انتهى إليه التحقيقُ هو ” هذه الأوراق الحاملة للهذيان، للخرافة، لكلام يدور عليه الحكواتي بجامع الفنا”(ص90). وقد نستنتج من هذا أن محكيَّ البحث والتحقيق الذي تنجزه الصِّحافةُ غيرُ الذي تُنجزه الروايةُ، فهو تحقيقٌ غير صالح للنشر في نظر مدير الجريدة( ص107)، وأن ما انتهى إليه التحقيقُ، وسماه ب” الحكاية “، ليس حكايةً بالمعنى التقليدي، فالسؤال لا يهمُّ ما تقوله الحكاية فحسب، بل ربما الأساسُ هو سؤالُ الكتابة والسرد: كيف ستقال الحكاية؟ ومؤشراتٌ عديدةٌ في الروايةِ تدلُّ على ذلك، منها بالأساس: -الانشغال بالحفر في الأمكنة الفارغة: ” بدأتُ التحقيق بوضع مقصدية التحقيق الصحفي، إلا أنها مقصدية انمحت بتعدد آليات الحفر في أمكنةٍ فارغة..”(ص106)؛ -الكتابة وإعادة الكتابة: ” هكذا كتبتُ التحقيق الصحفي دون أن أهتم بمصدر التحقيق، ولا بالشخوص التي عاينته، ثلاثة أيام من الكتابة وإعادة الكتابة..”(ص 106)؛ -حكاية من دون بداية:” حاولتُ كتابة التحقيق دون معرفة البداية أو بالأحرى دون أن تظهرَ البداية بوضوح..”( ص 105)؛ -البداية من وسط الحكاية:” التحقيق الصحفي، إذن، سيبدأ من الوسط، وإن كان الوسط في الجسد مصدرا للخبائث والمصائب..الحكاية ستبدأ من الوسط لتحتفل داخله، كأن البحث في أصل الحكاية هو السقوط في بئر مهجورة عامرة بالخرافة..”( ص104)؛ -حكاية من دون نهاية:آخر جملة في الرواية هي: ” سأكتب التحقيق “(ص 107)؛ كأن التحقيق لم يُكتب بعد، لم يبدأ كي ينتهي، أو أنه ينتهي ليبدأ من جديد، وفي ذلك يقول السارد الصِّحافيُّ: ” .. أدور عليها كما الباحث عن نهاية ما، والنهاية لا تنتهي، تنتهي لتبدأ..”( ص89)؛ وهكذا، فنحن أمام حكاية من دون بداية ولا نهاية، يختلط فيها الواقع والخيال، الخرافة والهذيان؛ وتتعدد الحكايات والرواة والحدث واحد؛ فتبدو الحكاية حكايات، تبدو شيئا لانهائيا، ” فقيمةُ الحكاية، يقول الراوي، لا تقاس بذاتها، ولا حتى بمرجعها الواقعي، بقدر ما هي مجموعة من الإمكانات التي تولد اللانهائي..”( ص64). في رواية”سيدة العتمات” يجد القارئ نفسه أمام حكاية لا يملك السارد كلّ أطرافها وأسرارها. فالحكاية ملغزة محيّرة، وتثير من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الأجوبة. وكلّما تقدّم القارئ في القراءة، إلا وأحسّ بأن الحكاية لا تتقدم، وأن البحث والتحقيق لم يبرح مكانه، وأن السارد لم ينجح في معرفة ما يجري وما يقع، ومن هنا، فإن معجمه يُكثر من استعمال: لا أعرف، لا أدري، ربما.. يمكن القول إن الرواية في النهاية قد كشفت النقاب عن بعض ما يجري، عن بعض المخبوء والمسكوت عنه، لكنها رواية لا تدّعي أنها امتلكت الحقيقة كلّها، وربّما أنّ غايتها ليست بالضرورة امتلاك الحقيقة، قدر ما يبدو أنها منشغلة بسؤال آخر هو: ماذا عن الحقيقة عندما تكون متمنّعة مستحيلة؟ ماذا عن البحث والتحقيق الذي قد ينتهي إلى الفشل؟ ماذا عن طرق البحث ووسائله ومناهجه؟ أينبغي أن نمارس البحث والتحقيق كما يمارسه الصحافي، أليس التحقيقُ الذي تمارسه الرواية الأجدر بالاهتمام؟ غالبا ما تنطلق قراءاتنا لمحكيات البحث من فكرة مفادها أن إنتاج معنى يقتضي تفكيك لغز وحلّه، ومن فكرة أنّ هناك حقيقة ما في مكان ما، وأنّ بحثا ما يمكنه أن يكشف ” الحقيقة “. لكن قليلا ما نتساءل: ماذا عن محكيات البحث التي لا تبلغ ” الحقيقة “، وغايتها ليست أن تصل إلى ” الحقيقة “، بل أن تظهر ” الحقيقة ” متمنعة مستحيلة، فاتحة بذلك أعين القرّاء على احتمالات متعددة ملتبسة محيّرة، كاشفة مختلف الصعوبات والمخاطر والمزالق التي تنتظر كل باحث عن المعرفة والحقيقة؟ الأهم في رواية سيدة العتمات أنها انتهت إلى أن البحث عن حقيقة ما وقع يوصل، ربما، إلى الباب المسدود، ويصعب التمييز بين الواقع والخيال والوهم والحلم والهذيان والخرافة.. ما يمكن تسجيله بخصوص رواية حسن إغلان هو غياب حركة الانغلاق وهيمنة حركة الانفتاح أو لنسميها حركة الاحتمال؛ فاللغز الذي يحاول المحكي فكّ أسراره والوصول إلى حقيقته بقي مفتوحا على كل الاحتمالات دون أن ينغلق على حقيقة ما على أنها ” الحقيقة”، وتبقى الأسئلة مطروحة من دون جواب:ماذا عن حقيقة عقا: أهو ابن الواقع، ابن العاهرة أم أنه ابن الزاوية، ابن الخرافة؟ ما حقيقة ابن طامو؟ ما حقيقة سيدة الأحباب؟ قد يبدو الساردُالصِّحافيُّ باحثا فاشلا سلبيا لم يستطع بلوغ ” الحقيقة “، كأنما هاته شيء مستحيل لا يمكن بلوغه، وهو ما قد يجعل من الجهد الذي بذله هذا السارد الصحافي جهدا مأساويا من دون جدوى، فما يسعى البحث إلى اكتشافه هو غير قابل للانكشاف؛ كأنما قدر الإنسانية، كما قال نيتشه( وهو يحيل بهذا المعنى على نيتشه في ص 106)، هو الفشل والعودة في كل مرة إلى نقطة الصفر، نقطة البداية. والفشل ليس علامة سلبية دائما، فدون كيشوط ( عند سرفانتس) كان يعرف أنه سيفشل، كما أن الأب غوريو( عند بلزاك)، وأنا كارينين( عند تولستوي)، والأمير ميشكين( عند دوستويفسكي)، كلهم كانوا يعرفون أنهم سيفشلون؛ لكن بثقل وعيهم بالفشل استطاعوا، كما سجل كارلوس فوينتس(في مقالة تحت عنوان: A la louange du roman)، أن يجعلونا نستطيع حماية طبيعة الحياة نفسها كما هي معيشة ومخزونة عبر كل الأزمنة. وبهذا يبدو كأن البحث الذي يمارسه الروائي هو أشبه بالبحث الذي ينخرط فيه ذلك الفارس الدونكيشوطي التائه الذي لم يعثر أبدا على شيء ما، ولم ير أبدا كل شيء؛ والرواية الحقيقية، حسب كونديرا، هي التي تشبه دون كيشوط، أي هي التي تحدد هدفها في إظهار الوجه الآخر للواقع، ذلك الوجه اللغز الذي ليس سهلا فهمه وتفسيره والوصول إلى حقيقته. هناك حكاية، لكن ما أشبهها بالمتاهة، متاهة بدون مدخل ولا مخرج؛ فعبر المقاطع المتتابعة للرواية تنبني شبكة من الحكايات لا تكفّ عن توليد الالتباسات، كأننا في حضورها الملتبس، قاب قوسين أو أدنى من متاهات بورخيس ومراياه؛ إنه السرد الذي يبدأ بسيطا لكنه سرعان ما يغدو متاهة، ندخل إليها من أي مكان شئنا، لكن من دون أن توصلنا إلى نهاية محددة.. وفي كل الأحوال، فالفشل والتيه من العلامات التي تؤكد أن الغاية من الكتابة الروائية ليست إبلاغ حقيقة ما أو نقل الواقع المعطى كما هو، قدر ما هي مساءلة ” الحقيقة” والنظر إلى ماوراء الواقع المعطى، بشكل يجعل من التخييل مرآة نقدية لما يقدّم على أنه ” الحقيقة ” في عالم من التوافقات والاصطلاحات؛ فبواسطة الكتابة الروائية يمكن اختبار العقل والشك في عقائده والسخرية من يقينياته، وذلك بالدخول إلى عالم الاحتمالات، والنظر إلى ” الحقيقة ” على أنه مشكوك في أمرها، وأن كل شيء يسبح في فضاء اللايقين. فالبحث الذي دشنه السارد الصحافيُّ هو بحث الباحث الذي لا يعلم كل شيء، ولم يكتشف كل شيء، ولم يجد كل ما يبحث عنه؛ وقيمة الرواية في أنها تطرح السؤال الأساس: أهناك احتمالات وإمكانات أخرى للإنسان في عالم أصبحت تصوراته وتحديداته ” للحقيقة ” قاهرة وضاغطة وساحقة؟ ومن جهةٍ أخرى، لابد أن نسجل هنا أمرين أساسين: أولا، أن الرواية لم تعد تخييلا سرديا فقط، بل إنها تخييل تأملي أيضا، فهي لا تكتفي بسرد حكاية ما، غالبا ما تكون تامة ومكتملة، بل إن الرواية هي بحث ودرس وتأمل في حكاية كاللغز، لا يملك السارد كما الشخصية كل أجزائها وأطرافها، ولا يعرف كل ملابساتها وخلفياتها؛ وبمعنى آخر، فالرواية تتحول إلى بحث ودرس وقراءة، وتقدم نصا يبدو أقرب إلى ما يسميه الناقد الفرنسي المعاصر دومينيك فيار Dominique Viart ب ” Essai – fiction “. وثانيا، أن الرواية لا تدّعي أنها تمتلك المعرفة الكاملة أو الحقيقة المطلقة حول الإنسان أو المجتمع أو التاريخ. وهذا بلاشك تحول جديد، فالأدب الروائي لم يعد يعمل لصالح إيديولوجية معينة، ولم تعد الرواية تدافع عن دعوى أو أطروحة، بل إن الرواية الآن تركب الشك، وتقول الاحتمال والافتراض، وتمارس اللعب والسخرية، وتبدو كأنها تسبح في اللايقين. ويجد هذا التحول تفسيره في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها مجتمعنا والعالم من حوله: شيء ما بدأ ينكسر منذ أواسط السبعينيات أو أواخرها، وتفجّر في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة؛ ستصاب الايدولوجيا كما ستصاب الأنساق الفكرية والتشييدات النظرية الكبرى، وأضحت هناك أزمة عامة تعرفها خطابات اليقين، وهناك عجز في صناعة الأمل واليوتوبيا، وهناك أزمة تعيشها المثل السياسية، وبالتأكيد لن تكون هذه التحولات دون تأثير على الأدب، والروائي منه بالأخص. 2 -الرواية المغربية وسؤال الانتساب العائلي: أفترض أن سؤال الانتساب العائلي هو السؤال المركزي في محكي البحث والتحقيق الذي تمارسه رواية حسن إغلان؛ وهو سؤال الهُوية بالتأكيد، لكن في علاقةٍ بأصلها العائلي، بانتمائها العائلي، وعيا من الرواية بأن الذات ليست كائنا مستقلا، وليست كائنا من دون محددات، وأن دور محكي البحث أن يسائل الذات من خلال العنصر العائلي الذي يؤسسها، ومن خلال الأصول التي تكونها، وأن يكشف كيف تقول هذه الذات حكايتها العائلية، وكيف تعيد بناء ما يربطها بهذه الحكاية / التاريخ histoire / Histoire. عقَّا، الابن، هو الموضوع المركزي في محكي البحث والتحقيق، وذلك على مستويين: ما هو الأصل العائلي الذي ينتسب إليه هذا الطفل الصغير الذي يسمى: عقَّا؟ وما هي ” الرواية العائلية ” الجديدة التي أسسها عقا لنفسه لما كبُرَ وقاطعَ أمَّه وبيتَها العائلي؟ بالنسبة إلى عقا الطفل، نجد أنفسنا أمام انتسابٍ عائليٍّ يطرح سؤالين كبيرين: أولهما أن عقا ابن عاهرة، أمه واحدة وأبوه متعدد: ” لكن حين أسائل نفسي عن اسمي وفصلي وأصلي… كانت أمي وحيدة والأب متعدد..”( ص 14).. وفي افتراضي، الجديد هنا هو هذا الغياب الأكبر للأب، لا وجود هنا، أيها السيد فرويد، لأبٍ ليُقتَل.. ما هو الأبُ الذي على ابن العاهرة أن يقتله من أجل أن يكون( أحيل هنا على هاملت شكسبير، فالسؤال الأساس بالنسبة لهاملت هو: أن أكون أو لا أكون؛ لأنه كان مترددا بخصوص الأب / الفالوس الحقيقي: أهو أبوه الملك، أم هو عمه كلاوديوس عشيق أمه؟)؟ وبالنسبة إلى عقا، عقدته لا علاقة لها بالأب، بل هي عقدة الأم: الأم هي ” العار الذي التصق بي منذ ولادتي” يقول عقا.. وإذا كانت الأم هي عقدة ابن العاهرة، أيعني ذلك أن السؤال المطروح هو: قتل الأم لا قتل الأب: يتساءل عقا: ” هل أقتلك؟ حاشا.. وحاشا أن يتخلى الإنسانُ عن أمه”( ص33 34)؛ لكنه، وإن لم يقتلها حقيقةً، فقد قتلها رمزيا عندما قرر الرحيل نهائيا، وتركها تقضي باقي أيامها في البحث عنه: ” أنا يا أمي ذاهبٌ إلى غير رجعة، وفكري جيدا في لقائنا يوم القيامة..”( ص33).. وإجمالا، فسؤال الأصل يفرض نفسه في حكاية عقا، حتى إنه يرى ولادته حدثا غرائبيا غيرَ طبيعيٍّ أشبه بالفضيحة: ” لقد خرجتُ في الأول من الوراء، وكانت بداية الفضيحة”( ص14).. وإذا كانت الأم مصدر الفضيحة والعار، فإن الأب هو الغائب الأكبر في الحكاية.. ماذا يعني غيابُ الأب؟ الأبُ يُمثِّلُ السلطةَ، والمعرفةَ التاريخيةَ والاجتماعية، والأبُ هو الذي يُمثِّلُ الخطابَ، ويبدو، من خلال هذه الرواية، كأن الخطابَ لم يعد قائما ولا مسموعا بسبب فشلِ القيم والمُثُلِ والاعتقادات..وفي الأحوال كلها، يبدو لي أن سؤال الأب حاضر بقوة، ربما، في الرواية المغربية: منذ أول نصٍّ في الأربعينيات مع التهامي الوزاني في: الزاويةوصولا إلى: والد وما ولدلأحمد توفيق في الألفية الجديدة، مرورًا ب: أوراق عبد الله العروي( الذي وإن فقد أمه منذ صغره، فقد اعتبر فقدان الأب في مرحلة شبابه خسارة كبرى)، والخبز الحافي لمحمد شكري، و: لعبة النسيان لمحمد برادة في الثمانينيات..ومع ذلك، فهناك نماذج روائية مغربية أخرى(في الطفولة لعبد المجيد بن جلون، مثلا) ، أو لنقل إن هذه النماذج التي ذكرناها، تطرح مسألة الأم أيضا:… إلى حدٍّ دفعني في دراسات سابقة إلى افتراض أن الرواية المغربية التي يصعب على المشارقة تصنيفها: أهي رواية أم سيرة ذاتية؟ قد تأسست وتطورت من خلال محكي أساس أسميه: محكي اليتيم؛ ولأن السؤال الرئيس عند اليتيم هو سؤال الانتساب العائلي، فلذلك كان من الصعب تصنيف محكيه في جنس محدد، لأن سؤاله هو بالذات سؤال الانتساب العائلي.. هذا عن عقا، الطفل الصغير ابن العاهرة.. لكن ماذا عن هذا الابن لما قرر الرحيل بعيدًا عن أمه؟ هل استطاع أن يؤسس له عالما عائليا جديدًا؟ هل استطاع أن ينتسبَ إلى عالم عائليٍّ مغاير؟ هل استطاع أن يؤسس له ” رواية عائلية ” بديلا لحكايته العائلية الأصلية؟ نكاد لا نعرف: ” هل فعلا عقا شيخ الزاوية أو شيخ المخزن أو شيخ السهر؟.. تعددت الروايات بتعدد شخصيات عقا.. لكن ما يمكن أن نسجله أن عقا لم يستطع حسم انتسابه نهائيا، أو لنقل إنه لم يستطع أن يؤسِّس له انتسابا عائليا أفضل من الذي كان عليه في الأصل، فابن العاهرة، الذي يظل عار أمه يلازمه، لا يمكنه أن يؤسس عالَما عائليا أفضل: إما أن يتحول إلى شيخ متصوف ينعزل في زاويته بعيدًا عن المجتمع، وإما أن يكون مخبرًا في خدمة السلطة ضد مجتمعه، وإما أن يشكِّل امتدادًا لعالم أمه، بشكلٍ من الأشكال: عالم الغناء الشعبي، عالم السهر والمجون، عالم الخمرة والجنس والمخدرات..والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كانت ” الرواية العائلية ” عند فرويد تفترض أن بإمكان الذات أن تؤسس لها عائلة بديلة عن العائلة الأصلية التي خيبت الآمال، فإن الرواية المغربية اليوم تجعلنا نواجه هذا السؤال: إذا افترضنا أن الآباء الواقعيين( الأم والأب) قد خيبوا الآمال فعلا، فماذا عن هذه الذات العاجزة عن ابتكار آباء آخرين مثاليين، وماذا عن هذه الذات التي تعجز عن ابتكار ” رواية عائلية ” بديلة؟