استعدادا لمونديال 2030.. وهبي يوقع ونظيرته البرتغالية إعلان نوايا مشترك    الملك يعين ابنة الحسيمة فاطمة السعدي بلجنة حماية المعطيات    التعاون المغربي الموريتاني يُطلق تهديدات ميليشيات البوليساريو لنواكشوط    ترامب يطلق أكبر عملية طرد جماعي للمهاجرين غير النظاميين    توقيع عقد مع شركة ألمانية لدراسة مشروع النفق القاري بين طنجة وطريفة    كرسي الآداب والفنون الإفريقية يحتفي بسرديات "إفا" في أكاديمية المملكة    الذكاء الاصطناعي.. (ميتا) تعتزم استثمار 65 مليار دولار خلال 2025    على خلفية مساعي ترامب لزيادة حجم الإنتاج...تراجع أسعار النفط    الدرك الملكي يحجز طن من الحشيش نواحي اقليم الحسيمة    "حماس" تنشر أسماء المجندات الإسرائيليات المقرر الإفراج عنهن السبت    دوامة    معرض فني جماعي «متحدون في تنوعنا» بالدار البيضاء    الفنانة المغربية زهراء درير تستعد لإطلاق أغنية « جاني خبر »    رواية "المغاربة".. نفسانيات مُركبة    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    ترامب يرفع السرية عن ملفات اغتيالات كينيدي ولوثر كينغ    مجلس الشيوخ التشيلي يدعم مقترح الحكم الذاتي المغربي للصحراء    مهدي بنسعيد يشيد بحصيلة الحكومة ويدعو لتعزيز التواصل لإبراز المنجزات    محاكمة بعيوي في قضية "إسكوبار" تكشف جوانب مثيرة من الصراع الأسري لرئيس جهة الشرق السابق    الصيد البحري : تسليم 415 محركا لقوارب تقليدية لتحسين الإنتاجية والسلامة البحرية    وزارة الشباب تكشف عن "برنامج التخييم 2025" وتستهدف 197 ألف مستفيد    اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس: خطوة أولى نحو السلام أم محطة مؤقتة في طريق الصراع؟    الكعبي يتجاوز مواطنه العرابي … ويدخل التاريخ كأفضل هداف اولمبياكوس في المباريات الاوروبية    إضراب عام يشل حركة جماعات الناظور ليوم كامل احتجاجا على تغييب الحوار    تركيا..طفلان يتناولان حبوب منع الحمل بالخطأ وهذا ما حدث!    السلطات البلجيكية تحبط محاولة استهداف مسجد في مولنبيك خلال صلاة الجمعة    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة والمعهد المتخصص في الفندقة والسياحة بالحوزية يحتفيان بالسنة الأمازيغية    العطلة المدرسية تبدأ مع طقس مستقر    تراجع التلقيح ضد "بوحمرون" إلى 60%.. وزارة الصحة في مرمى الانتقادات    "الطرق السيارة" تنبه السائقين مع بدء العطلة المدرسية    عمدة المدينة: جماعة طنجة لن تدخر أي جهد لجعل المدينة في مستوى التظاهرات الدولية وتطلعات المواطنين    اعتقال وحش آدمي تسبب في وفاة ابنة زوجته ذات الثلاث سنوات    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    تعيين الفرنسي رودي غارسيا مدربا جديدا لمنتخب بلجيكا    الكونفدرالية المغربية للمقاولات الصغيرة جدا والصغرى: مشروع قانون الإضراب غير عادل    بورصة البيضاء تفتتح التداول بارتفاع    الجزائر نحو عزلة داخلية بعدما عزلها العالم    الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة…انتشار حاد لفيروس الحصبة وفقدان أرواح الأطفال    تنفيذا لتعهدات ترامب .. أمريكا ترحل مئات المهاجرين    السكوري: مناقشة مشروع قانون الإضراب تتم في جو عال من المسؤولية    تداولات الإفتتاح ببورصة البيضاء    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    لقجع ينفي ما روجه الإعلام الإسباني بخصوص سعي "فيفا" تقليص ملاعب المغرب خلال مونديال 2030    العصبة الوطنية لكرة القدم النسوية تعقد اجتماع مكتبها المديري    مايك وان" يُطلق أغنية "ولاء"بإيقاع حساني    سيفعل كل شيء.. سان جيرمان يريد نجم ليفربول بشدة    رقم قياسي .. أول ناد في العالم تتخطى عائداته المالية مليار أورو في موسم واحد    تضارب في الأرقام حول التسوية الطوعية الضريبية    ما هو سر استمتاع الموظفين بالعمل والحياة معا في الدنمارك؟    تألق نهضة بركان يقلق الجزائر    جوائز "الراتزي": "أوسكار" أسوأ الأفلام    الحكومة تحمل "المعلومات المضللة" مسؤولية انتشار "بوحمرون"    عبد الصادق: مواجهة طنجة للنسيان    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خوف لا يهدأ ورغبة لن تفنى: في تمثلات دراكولا السينمائية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 10 - 11 - 2018

“من هو هذا المخلوق الذي يسير بيننا كإنسان، ومع هذا لا تنعكس صورته في المرآة؟” – يتساءل فان هيلسينج. مشهد من الفيلم الامريكي "دراكولا 2000" ، من اخراج باتريك لوسيير وبطولة جيرارد باتلر(في الصورة).
"من هو هذا المخلوق الذي يسير بيننا كإنسان، ومع هذا لا تنعكس صورته في المرآة؟" – يتساءل فان هيلسينج.
مشهد من الفيلم الامريكي “دراكولا 2000” ، من اخراج باتريك لوسيير وبطولة جيرارد باتلر
(في الصورة).
دراكولا: عاجلا أم آجلا
سينتصر العطش
تُشكِل رواية برام ستوكر (Abraham “Bram” Stoker) “دراكولا” والصادرة عام 1897 في لندن المصدر والمتكأ الاساسي الذي يقوم عليه التناول السينمائي لشخصية مصاص الدماء. وعلى الرغم من ان الحكايات الشعبية حول مصاص الدماء كانت منتشرة انتشارا واسعا لدى مختلف شعوب اوروبا وخصوصا الشرقية، الى ان رواية ستوكر هي التي صقلت شخصية دراكولا كما نعرفها اليوم وعلى ما يبدو فانه استند الى شخصية تاريخية واقعية تعود الى القرن الخامس عشر وعاشت في رومانيا لأمير يدعى فلاد الثالث المُخوزِق (لأنه اعدم ضحاياه مستعملا الخازوق) ابن دراكول. وسيكون من المفيد الاشارة الخاطفة هنا الى التحليل الذي يقدمه فرانكو موريتي (1) لرواية ستوكر بوصفها “.. نتاجا نهائيا للقرن البرجوازي ونفيه…حيث كان التركز الاحتكاري (في بريطانيا) أقل تطورا بكثير منه في المجتمعات الراسمالية المتقدمة الاخرى…” ويمثل دراكولا الاحتكار الرأسمالي البشع الذي يعتاش على الدم[يقدم ماركس في مؤلفه “رأس المال”-المجلد الأول، سنوات قليلة قبل صدور رواية ستوكر، وصفا معكوسا :-“رأس المال عمل ميت، لا يحيا الا بمصه دماء العمل الحي، مثل مصاص الدماء الذي لا يحيا الا بمص دماء المزيد والمزيد من العمل الحيّ”].
ومنذ ذلك الوقت بدأت هذه الرواية تشكل مُستودعاً لا ينضب لصِناعة السينما فيتزايد اللُجوء اليها في أيامنا المعاصرة هذه (2). ويزداد اللجوء اليها في فترات الازمات العامة، كفترة الكساد الكبير في الولايات المتحدة آواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن الماضي، كما وفي فترة ظهور وباء نقص المناعة المكتسب (السيدا). وذلك ليس فقط لأنَّ مصاص الدماء يُشكِل (وعلى لسان در. إيدجار فانس، أحد شخصيات فيلم بليد: الثالوث) “مَنبعا لبعض أكثر أفكارنا تَحريما- حُمى الافتراس والسادية الجنسية”، بل وأيضا لأن حِكايته مُنذ نشأتها الأولى ترتبط ارتباطا داخليا وثيقا مع بنية الانقسامات الاجتماعية المتشكلة على مستوى الطبقة والجنس والدين، وتعبر عنها. وبالرُغم من اصوله الاسطورية المُتخيلة، الا أن لمصاص الدماء وجوده الواقعيٌ، في هذا العالم الذي ترسمه لنا السينما، وجودٌ يتعدى مُجرد كونِه انعكاسٌ هواميٌّ لرَغبة جنسية مكبوتة وهو وجودٌ يمتلك، كما يُعالج ويُقدم في بعض الافلام، مَسحة رومنسية مما قد يدفع الى الافتتان به. بينما يتم عرضه في أفلام أخرى على هيئة تجمع ما بين الدم والرغبة، وما بين عدوانية متأصلة وحاجة كامنة لأن يُعترف به وبالحيف الذي وقع بحقه. ليشكل مجازا غير خاضع لتأويل واحد ووحيد، تأويلٌ يُؤوله على أنه إما تَجسيدٌ لرغباتٍ جنسيةٍ كهذه أو تلك، وإما على أنه تَجسيد للاستغلال الرأسمالي أو لرُهاب الغريب أو الخوف من الأوبئة الفيروسية. بل هو تجسيد كامل الاشباع وجامع لمجمل المخاوف والرغبات المحددة حضاريا في فترة زمنية ما، يمتصها جميعها مُكثفا إياها في هيئة مخلوق رهيب مُدان. فأي من الاشكال التي تُقدم لنا دراكولا -مصاص الدماء في الافلام المختلفة يوضع تحت مبضع التأويل، قد يؤول بشكل واحد رئيسي، الا أن هذا التأويل لا ينهيه ولا يستنفذ امكانياته الكامنة لتأويلات اضافية. إنه بُنية تأويلية مُركبة تتجاوز قابلية حصرها حصرا يَقصِرها على ما هو هذا أو ذاك.
وعليه فأيّا يكن شكل الاشتغال على موضوعة تتناول الجنس أو الرعب أو الخيال العلمي وبالرغم مما قد تبدو وكأنها بعيدة عن “العالم الواقعي”، فإن هذه الموضوعات محبوكة بنسيج التاريخ الواقعي وصِراعاته.
فيلم بليد: الثالوث Blade: Trinity 2004 يعود أصل دراكولا في هذا الفيلم الى 6000 سنة خلت الى بلاد ما بين النهرين، إنه مصاص الدماء الأب الأول من نوعه “انسان الليل” (Hominusnocturna) وهو قادرٌ على مُواجهة ضوء النهار وعلى التحول من صورته الآدمية الى وطواط أو ذئب أو سحابة، ذلك لأن دمه نقي صافي، بعكس دماء سائر مصاصي الدماء المستحدثين.
فيلم بليد: الثالوث Blade: Trinity 2004 يعود أصل دراكولا في هذا الفيلم الى 6000 سنة خلت الى بلاد ما بين النهرين، إنه مصاص الدماء الأب الأول من نوعه “انسان الليل” (Hominus nocturna) وهو قادرٌ على مُواجهة ضوء النهار وعلى التحول من صورته الآدمية الى وطواط أو ذئب أو سحابة، ذلك لأن دمه نقي صافي، بعكس دماء سائر مصاصي الدماء المستحدثين.
وعلى الرغم من التأويلات اللا-تاريخية التي قد يقدمها البعض الا أنّ دراسة هذه الافلام تُظهِر بوضوح أن هذا الاشتعال يتمظهر عينيا بهيئات قد تمت صياغتها وفق ظروف اجتماعية وحضارية مُحددة، فدراكولا وبالرغم من أنه لا يموت الا انه وليد لحظته التاريخية( الولع الظاهر لأفلام دراكولا الحديثة بالتقنيات الحديثة والفيروسات المعدلة جينيا، على سبيل المثال).
يشكل الجنس في جميع أفلام مصاصي الدماء، بهذه الدرجة أو تلك، احدى موضوعاته الرئيسية، هذا على الرغم من التباين فيما بين الافلام، من حيث حدة وثقل حضوره، بتغير الفترة الزمنية والمكان. ويُزوِد الجنسُ الخَطِر والتسلطي أفلامَ مصاصي الدماء بالحيوية منذ بدايات هذه الافلام، ويشكل مصدرا هاما من مصادر قوة جذبها لجمهورِ هواتها. وفي دراسة قام بها عالم الاجتماع “دريسِر” (Dresser) فإن مظاهر الشهوانية الجنسية لدراكولا هي من أكثر الامور أخذا بالاعتبار عند تقييم جاذبية هذا الكائن. وعلى الرغم من العلاقة المميزة التي تعرضها شخصية دراكولا في الافلام، بزوجته، الا انه يُصور في الغالب الأعم كمخلوق داعر شرير ومنحرف جنسيا يستدرج علاقات مشبوهة متنقلا ما بين جنسانية أحادية ومثلية وهو معدوم الوفاء. انه قوة الرغبة الشعثاء وغير المنضبطة والخارجة على القانون . ومنقادا بحاجته الى دماء الآخرين وبسلطة ظمئه الجنسي الذي لا يُشبع يقوم مصاص الدماء بتبديد قوة الحياة في ضحاياه. على أن هذا الظمأ هو ظمأ جسديٌّ خالصٌ، وماديته هي مادية خام لا تستطيع الا اللجوء الى الاغواء والاغتصاب في آن واحد، كيما يختلط الدم بالجنس معا.
يعتبر بعض النقاد (3) أن المسخ هو كائن محددٌ ثقافيا يتم من خلاله ضبط حدود ما هو مقبول ومسموح حضاريا بالرغم من أنه هو ذاته يتخطى هذه الحدود ويخرج عما هو مُحرم. فبارتباط دراكولا (ومصاص الدماء بشكل عام) وهو بالذات بما هو مُحرم ومحظور، تتعزز بالمقابل المعايير المقبولة على حضارة ما فتغدو معايير طبيعية. وعليه ووفقا لهذا من الممكن طرح النقاش هل مصاص الدماء حين يُظهِّر ما هو محرم جنسيا يقوم بتعزيز المعاير الجنسية المقبولة؟
وفي جميع هيئاته التي يصور بها فإنَّ مصاصَ الدماء يُقدم لنا على هيئة هي أكثر إثارة من إي من هؤلاء الذين يسعون وراءه ليصطادوه وليقضوا عليه. والمفارقة كما يصيغها سلافوي جيجيك هي “.. أن مصاصي الدماء بوصفهم “موتى أحياء” فهم أكثر حياة منا نحن المرعوبين تحت وطأة شبكة الرمزي،…، فال “الموتى الأحياء” الحقيقيون هم نحن، مَخلوقات عَاديّة، محكومة للموت، ومأمورة بحياة خاملة في نطاق الرمزي”. وبعكسنا نحن المدفوعون من قِبَل اللغة والحضارة الى التأقلم والتكيّف مع واجباتنا العائلية ومهماتنا كمواطنين، فإنَّ مصاص الدماء يعيش رغبته، لها وبها. ولأن دراكولا يُجَسِد كمصاص دماء تَحقق اللّذة القصوى والرغبة منطلقة العقال، فإنه يتخطى حدود ما هو اجتماعي- رمزي (4)، مُحطِما كُلَ ما هو متوقع ومقبول على مستوى الجنس، مُتنقلا ما بين الهُويات الجنسية. ولهذا فإنه يمثل الرغبة المتحققة فعلا مجردا، يحققها دونما مرجعية اخلاقية او قانونية او اجتماعية تشرطها.
مما قد يفسر لماذا لا تنعكس صورته في المرآة، إذ أن ذاته ليست بحاجة لأن تروز ذاتها بعين ذاتها، لتقييم وتقووم ذاتها، إذ أنَّ تحقيق الرغبة المطلقة هو ما يشكل مرجعيتها. يرفض دراكولا الاحتكام لقوانين عالم تحكمه الصورة، عالم صارت تقوم فيه صورة الشيء مقام الشيء، فتكون بديله. و ليس السؤال “كيف أبدو؟” هو ما يشغله، بل “كيف أكون؟”، ولن يكون الا بالرغبة المتحققة اشباعا تاما. وتشكل هذه الرغبة جوهره الحقيقي، “روحه” الحقيقية، ولهذا فإنه مستبد أناني ومهيمن يسعى الى اشباع هذه “الروح” بما هو جسدي، أو قل جثماني. فوراء هذا القناع البشري تختفي طاقة حيوانية بحتة، تترصد ضحيتها. طاقة نفاذة في نفس الآن الذي ترعب فيه فإنها تغري بأن؛ “خذني إليك..”. يقف وكلاء الحضارة الذين يسعون وراءه للقضاء عليه، أمام حيوية جنسانيته الحيوانية الآسرة، شاحبين عاجزين عن التخلص منه تماما، ربما لأن جزئا مما فيه ليس الا جزء مما فيهم.
لهذا فإنَّ دراكولا يعود دائما. فبالرغم من انه قد يُضعف أو يُهزم أو يُحرق فلا يتبقى منه سوى الرماد، الا إنه يعود دائما، ذلك لأن شيئا ما جوهريا وأصيلا وحيا يستمرُ بالحياة في ما تبقى منه من أثر بعد أن تم تدميره. باستطاعته العودة من الرماد، ولا يحتاج الامر الى أكثر من بضع قطرات دم، أو ازالة صليب عن جثته الهامدة، أو الى قراءة تعويذة ما بكلمات من لغة مهجورة قديمة، لينهض من سباته بكامل رغباته الدفينة، هو أو أحد ما من سلالته، عَطِشا للدماء ليضرب بمزيد من القوة. وتقوم قدرة استنساخ وتكرار ذاته، على كونه مخلوق يقف على التخوم. فهو “داخلي” و”خارجي”، “أنا” و”آخر”، “حيٌّ” و”ميتٌ”، “طبيعي” و”فوق- طبيعي”….، مما يُموضعه في موضع “الما- بين”، ويجعله شبحا يمثل ما يسمى “الغريب الخارق” (Uncanny). ذلك الغريب الذي ليس بالغريب تماما، وذلك الذي يرعبنا لأن هنالك شيء ما خفيُّ مرعب نحاول كبته، فيتملص من الأعماق السحيقة لذواتنا محاولا الخروج الى العلن. ويذكرنا هذا “الغريب الخارق” المحمول على جناحي الرغبة والخوف، بالمكبوت في ذواتنا، مما قد يفسر الى حدٍ ما مَكمن قوة الانجذاب الى أفلام الرعب. فبه ومعه نستطيع السير على هذه التخوم الما- بينية، فلا نستطيع تقيئه الى الخارج تماما. فهو مخلوقنا الذي لا نريد له أن يرتاح. إنه هذا الذي يعود وكأنه يعود الى بيته حاملا معه ومعبرا عن أعمق أعماق رغباتنا ومخاوفنا، ذلك لأنها قد تخبو، لكنها لا تموت.
لا يقوم الفيلم السويدي Let the Right One In بعرض معارك حربية بالسيوف ولا ابطالا اسطوريين او هجوما بأسلحة فيروسية. انه يعرض قصة صبي يعيش مع أمه قرب ستوكهولم، صبي منعزل هزيل يقوم زملائه في المدرسة بالاستهزاء به وباضطهاده. يتعرف الصبي على جارته الجديدة وهي صبية في مثل جيله لكنها مصاصة دماء. الشعور بالاضطهاد والعزلة من جانب والرغبة في الانتقام من جانب آخر يقودانه الى ان يتحول هو ايضا الى مصاص دماء.
لا يقوم الفيلم السويدي Let the Right One In بعرض معارك حربية بالسيوف ولا ابطالا اسطوريين او هجوما بأسلحة فيروسية. انه يعرض قصة صبي يعيش مع أمه قرب ستوكهولم، صبي منعزل هزيل يقوم زملائه في المدرسة بالاستهزاء به وباضطهاده. يتعرف الصبي على جارته الجديدة وهي صبية في مثل جيله لكنها مصاصة دماء. الشعور بالاضطهاد والعزلة من جانب والرغبة في الانتقام من جانب آخر يقودانه الى ان يتحول هو ايضا الى مصاص دماء.
واذا ما استخدمنا ادوات التحليل التي تزودنا بها النظرية الما بعد كولونيالية (5) وبما أن دراكولا كما يُصور في رواية ستوكر، وكما يتم الاشتغال عليه سينمائيا، يشكل تكثيفا جامعا لما تعتبره حضارة ما “آخر”، فمن الضروري اللجوء اليها لتحليل تمثلات دراكولا على ضوئها. وقد كان تبين لنا سابقا بان مصاص الدماء ما هو الا تعبير صميمي لدواخلنا، لمخاوفنا ورغباتنا كما لمخاوف ورغبات الحضارة التي انتجته. الا أنه وبالرغم من هذا وفي نفس اللحظة التي يتم فيها خلقه تتم ادانته، والتنكر له، والتعامل معه كدخيل وغريب، إنه الآخر من وجهة منظور الحضارة الغربية، التي أنتجته وتعيد وتكرر استخدامه، بكل ما يمثله هذا الآخر من تهديد. ولهذا وكما في رواية ستوكر وفي أفلام عديدة تستنسخ الرواية أو تعتمد عليها فإنه هنا يستحضر من “الخارج”، ترانسلفانيا- رومانيا. ووفقا ل”ستيفين أراتا” (6) فإن تعامل رواية ستوكر "دراكولا"، تعبر عن “رُهاب الاجانب” في العصر الفيكتوري والقلق الموازي من “احتلال مضاد” وغزو خارجي يقوم به الشرق لبريطانيا. في المثال العيني الذي نحن بصدده هو تلك المنطقة الواقعة شرقي نهر الدانوب والتي يعيش فيها الرومان والسلاف والاتراك، وشعوب البلقان في حالة من الهيجان والصراعات الاثنية والمجازر العنصرية (مجزرة الاتراك ضد الارمن وقت كتابة الرواية). مما أدى الى تدفق المهاجرين منها الى بريطانيا، مما سيعتبر تهديدا لعفة وطهارة التقاليد الفيكتورية السائدة في تلك الفترة. لقد حافظت معظم الافلام على موطن دراكولا كما ورد في رواية ستوكر الا أنَّ تغيرا غير مفاجئ يحدث ومنذ عام 2004، أي بنحو عام من الغزو الامريكي للعراق، ليتحول مسقط رأس دراكولا في معظم الافلام الامريكية منذ هذا العام وصاعدا ليكون العراق (بلاد ما بين النهرين) بدلا من رومانيا. وأحيانا يكون موطن دراكولا الاصلي افريقيا وفي حالات أخرى الفضاء الخارجي. يتبوأ دراكولا موقعه كممثل للآخر الشرير المستغل والغازي ويتخذ الصراع ضده بُعده العاصر، فيغدو صراعا ضد الآخر الشرير هنا والآن، أي من أجل الحفاظ على “أسلوبنا في الحياة”. ودراكولا بوصفه الأب الأول فإنه الدكتاتور والوحش الطاغية الذي يمتلك جيشا من مصاصي الدماء الأقل شأنا والذين يشكلون طابورا خامس، وليست “نظرية” بوش دبليو بوش الأبن عن “محور الشر” ببعيدة عن هذا. مصاصو الدماء أعوان دراكولا هم “أسلحة الدمار الشامل” التي تهدد بقاء العالم الغربي، والتي يجب البحث عنها وتقصي أوكارها لتدميرها وإفنائها.
في فيلم “دراكولا، الذي لا نعرفه”(Dracula Untold) تُعاد صياغة الحكاية بحيث يغدو دراكولا بطلا قوميا يدافع عن وطنه أمام الغزو العثماني لشرق أوروبا. تعاد هنا أصول الحكاية الى موطن دراكولا الاصلي؛ ترانسلفانيا التي في رومانيا. إنه أميرٌ يُضطر لأن يتحالف مع قوى الشر السفلى، وسيحوز حين يختلط دمه بدم مصاص دماء ملعون على قوة يستطيع ان يواجه بها الغزو التركي، ينظم دراكولا جيشا يقف أمام “محمد الفاتح” ويقتله في النهاية. لكنه يخسر زوجته التي أحب وقضت نحبها أثناء مواجهة الاتراك.
في فيلم “دراكولا، الذي لا نعرفه” (Dracula Untold) تُعاد صياغة الحكاية بحيث يغدو دراكولا بطلا قوميا يدافع عن وطنه أمام الغزو العثماني لشرق أوروبا. تعاد هنا أصول الحكاية الى موطن دراكولا الاصلي؛ ترانسلفانيا التي في رومانيا. إنه أميرٌ يُضطر لأن يتحالف مع قوى الشر السفلى، وسيحوز حين يختلط دمه بدم مصاص دماء ملعون على قوة يستطيع ان يواجه بها الغزو التركي، ينظم دراكولا جيشا يقف أمام “محمد الفاتح” ويقتله في النهاية. لكنه يخسر زوجته التي أحب وقضت نحبها أثناء مواجهة الاتراك.
يتم ها هنا (وفي أنماط أخرى من أفلام الرعب وعلى وجه الخصوص أفلام الزومبي Zombie) وبشكل مثابر بناء هويتان متناقضتان ومتصارعتان صراعا لا هوادة فيه هم ونحن، هم “أبناء الظلام” مقابل نحن “أبناء النور”. وستوصل الافلام تكرار تصوير دراكولا كما صُوِر في رواية ستوكر أي بوصفه عدوا- للمسيح (Antichrist). وتكاد تكون الاستعارات فاضحة في مدى مباشرتها. فمقابل دراكولا الذي يحتاج لامتصاص دم ضحاياه من اجل مواصلة الحياة، هنالك المسيح الذي يبذل حياته ويقدم دمه قائلا: “خذوا كلوا هذا هو جسدي وهذا هو دمي الذي للعهد الجديد…يبذل عنكم لمغفرة الخطايا”. ومن اجل التغلب والقضاء على دراكولا الذي يلجأ الى طقوس ديانات الفلاحين البدائية (Paganism) (7)، لا بد الى جانب الاسلحة الحديثة والعلم الحديث اللجوء الى ايقونات دينية وقراءة آيات من “العهد الجديد” ومن المفضل ان تكون بلغة المسيح- الآرامية. وتبنى ها هنا هوية “روما” الجديدة؛ أوروبا-أمريكا الشمالية كمركز للحضارة والمحبة والحرية ومسيحية تحديدا، حضارة تخاف على طهارة دم أبنائها من التلوث بدماء المهاجرين.
هنالك إذا عملية إسقاط (Projection) واضحة يتم من خلالها إنكار المشاعر السلبية والممارسات المدانة والقائها على شخص أو مجتمع آخر. واذا ما سرنا في هذا قُدما فان دراكولا، هذا الشخص الذي لا تنعكس صورته في المرآة، يقوم بوظيفة المرآة التي تنظر فيها الحضارة الغربية الى ذاتها متسائلة هل سيُفعلُ بي ما قد كنت فعلته بشعوب المستعمرات؟
تشكل القدرة الفائقة التي لمصاص الدماء على الحركة واجتياز حاجزي الزمن والمكان أي وبتعبير اضافي عدم خضوعه لقوانين الطبيعة الفيزيائية، انعكاسا لخوف ولرغبة في نفس الآن معا؛ تعبير عن الخوف في عالم متغير قلق ابدا، وتعبير عن الرغبة في القفز فوق حواجز الزمان والمكان لكي يغدو الشخص شخصا آخر(8).
يُعيد فيلم “دراكولا 2000” أصل دراكولا الى يهوذا الاسخريوطي الذي عاد من الموت بعد أن شنق نفسه. انه يعترف امام بطلة الفيلم قائلا: “إنك لن تستطيعي تخيل ما كان علي تحمله، لقد استحققت غضب الله الذي لا مثيل لغضبه. إذ تم اختياري لتحمل عذاب لم يتحمله انسان آخر قبلي”. وما يثير حنق دراكولا/ يهوذا على وجه الخصوص هو دوره الاشكالي – لقد كان المفتاح الذي به تحققت مشيئة الرب التي قادت بالمسيح الى قدره، وعلى الرغم من ذلك فإنه مدان كخائن. يقول في ثورة غضبه موجها كلامه لصورة للمسيح مرسومة على صليب كبير: “لقد كنت تعرف أن هذا ما سوف يتحقق حتما، لقد كان هذا قدري ان أخونك، إذ إنك كنت بحاجة إليَّ. وها انا الآن اشرب دم أطفالك، لكنني أمنحهم ما هو أعظم من الحياة الأبدية، أنني أمنحهم ما يتحرقون شوقاً اليه؛ الملذات التي تدينهم أنت بسببها. لقد صنعت العالم على صورتك وها أنا الآن اصنعه على صورتي". تحاول البطلة أقناع دراكولا بأن يتصالح مع الله، لكن دراكولا يصر: “إنه لن يتملكني”. “إنه ما زال يُحبك”، تُجيبه البطلة مؤكدةً. وكما في نهاية أفلام أخرى كذلك في هذا الفيلم هنالك امرأة بطلة تقوم بالقضاء على دراكولا وتتلو صلاتها لروحه الابدية، علَّ حب امرأة حنون يشفع له عند الرب ليغفر حتى لخاطئ في مقام أمير الظلام.
يُعيد فيلم “دراكولا 2000” أصل دراكولا الى يهوذا الاسخريوطي الذي عاد من الموت بعد أن شنق نفسه. انه يعترف امام بطلة الفيلم قائلا: “إنك لن تستطيعي تخيل ما كان علي تحمله، لقد استحققت غضب الله الذي لا مثيل لغضبه. إذ تم اختياري لتحمل عذاب لم يتحمله انسان آخر قبلي". وما يثير حنق دراكولا/يهوذا على وجه الخصوص هو دوره الاشكالي – لقد كان المفتاح الذي به تحققت مشيئة الرب التي قادت بالمسيح الى قدره، وعلى الرغم من ذلك فإنه مدان كخائن. يقول في ثورة غضبه موجها كلامه لصورة للمسيح مرسومة على صليب كبير: "لقد كنت تعرف أن هذا ما سوف يتحقق حتما، لقد كان هذا قدري ان أخونك، إذ إنك كنت بحاجة إليَّ. وها انا الآن اشرب دم أطفالك، لكنني أمنحهم ما هو أعظم من الحياة الأبدية، أنني أمنحهم ما يتحرقون شوقاً اليه؛ الملذات التي تدينهم أنت بسببها. لقد صنعت العالم على صورتك وها أنا الآن اصنعه على صورتي”.
تحاول البطلة إقناع دراكولا بأن يتصالح مع الله، لكن دراكولا يصر: “إنه لن يتملكني”. “إنه ما زال يُحبك”، تُجيبه البطلة مؤكدةً.
وكما في نهاية أفلام أخرى كذلك في هذا الفيلم هنالك امرأة بطلة تقوم بالقضاء على دراكولا وتتلو صلاتها لروحه الابدية، علَّ حب امرأة حنون يشفع له عند الرب ليغفر حتى لخاطئ في مقام أمير الظلام.
وسواء يُقدم مصاص الدماء على أنه مخلوق طبيعي اصيب بعدوى مص الدماء أو سكنته روح شريرة أو يُقدم على أنه مخلوق فوق – طبيعي يأتي من خارج المكان والزمان فإن التعامل السينمائي معه يعبر عن مقاربة تحمل في طياتها علاقات متناقضة داخليا للإنسان المعاصر مع العلم الحديث والتكنولوجيا وتقدم تقنياتها. فسواء كان مخلوقا “طبيعيا” أو مخلوقا “فوق-طبيعي”، وسواء كان خاضعا لقوانين الطبيعة كما نعرفها أو أنه حصين امامها، فإنه يضعنا امام المُسائلة المُلِحة؛ كيف سيتم القضاء علي؟ وعندما تفشل محاولات اللجوء الى قراءة التعاويذ السحرية المأخوذة من كتب يعلوها الغبار أو يفشل دق وتد في صدره أو رفع الصليب بوجهه في التغلب عليه، يتم اللجوء الى التعامل معه بأسلحة حديثة طُور بعضها خصيصا من أجل القضاء عليه أو بتقنيات بيولوجيا الفايروسات المعدلة أو بتقنيات تنتج مصادر ضوء شمسي في عتمة الليل ليتعرض لها فيحترق أو بتعامل يلجأ الى كليهما معا، أي الى ما هو تقليدي والى ما هو علمي حديث. ليُعبر من خلال هذه المقاربة عن القلق من الوقوع تحت غزو من قبل حضارات اكثر تقدما وتعقيدا، وعن هلع الاصابة بأمراض وبائية غير قابلة للعلاج (تصاعد انتاج افلام مصاصي الدماء مع تفشي مرض نقص المناعة المكتسب AIDS). وفي مجمل الأحول، وعلى ضوء فشل محاولات القضاء عليه قضاء نهائيا ومبرما، تستند مرجعية هذه المقاربة الى فشل الوعود التي يقدمها العلم الحديث والتكنولوجيا المتطورة وتكديس الاسلحة وتطويرها لعالم سعيد يتمتع بالسلم والأمن.
إلا أن هنالك جانب لا يقل أهمية في تناول السينما لموضوعة مصاص الدماء (يخدم أهدافها “الذاتية” مقابل ما تقدم من اهداف ووظائف “موضوعية”) وهو قدرة هذه الموضوعة على ابراز تقدم التقنيات السينمائية الحديثة نفسها، في التصوير والعرض وتطور عناصر الأحبولة والإثارة السينمائية المختلفة وانفتاح مجالات جديدة لصناعة الصورة المتقنة والمصممة بتقنيات الحاسوب (8).
1) ديالكتيك الخوف، فرانكو موريتي، مجلة'الكرمل‘ عدد 88-89 يوليو 2006.
2) في احدى الدراسات بلغ عام 1996 عدد افلام مصاصي الدماء ما يزيد عن الثلاثة آلاف فيلم.
3) Reading Culture Monster Theory1996 Jeffrey Jerome Cohen
4) يستخدم المصطلح “رمزي” هنا في احالة الى مفهوم لاكان للرمزي على أنه اللغة والقانون، مقابل الواقعي والخيالي.
5) تيار نقدي يدرس، يرد ويحلل الممارسة والخطاب الكولونيالي-الامبريالي، من أكبر رواده الراحل ادوارد سعيد.
6) Arata, Stephen D. The Occidental Tourist: Dracula and the Anxiety of Reverse Colonization, Victorian Studies 33.4 (1990).
7) Paganism هو الاسم العام للديانات التي كانت سائدة لدى شعوب اوروبا وفلاحيها بعيدا عن مراكز المدن الكبرى وقت اعتناق روما والامبراطورية الرومانية الديانة المسيحية، وكانت تقدس الطبيعة ومكوناتها المختلفة، تسرب بعض من طقوسها للديانة المسيحية.
8) Jeffrey Weinstock , The Vampire Film Undead Cinema


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.