صدر مؤخرا عن مطبعة صبري ديوان شعري، موسوم ب «محراب الصمت» للشاعرة سعاد الطوسي. تناثرت قصائده بين الصمت والبوح، كما يتضح في النص الاستهلالي الذي يُولج لمحراب الصمت. « وأنا سافرت عبر صمتي لأجوب صحاري العمق، وبحور الوجدان، وجبال العشق، كان زادي حروفا نسجتها روحي لتتمدد على بياض شاسع يتقبلني ويتقبل جنوني: ( ص ???? 5. الصمت؛ أو الإنصات للوجود وللجوارح، أو ذلك الكهف الذي نلوذ به من ألم الكلام، إنه القوة، فالأرض صامتة وفي جوفها بركان. نصوص تنطلق بدون توقف. بلا فواصل، بلا نقاط. شلال ينهمر بلا تريث، بثقل كلام ظل حبيس محراب الصمت، يندلق بانسياب الرحيق، بعطر يغمر القلوب، وتعلق الآذان في صداه. أوغلت الجراح في الصدر وأردت الروح مولعة بالعشق، فكان الحكي، كان الشعر يتدفق من مسارب الحلم، يهمس بقصائد حب قديم، ترمي تمجيد الصمت، والاحتفال بالبوح. ذلك البوح الذي يغمر بأشياء لا يمكن أن تعلل، تأخذ إلى نهاية الصمت بكل الأشياء التي تحرك ولا يمكن تجاهلها. كلام ينساب متدفقا صافيا، بانهمار يكتسح، نعانقه ونرافقه مرغمين في رحلات تنطلق من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل. نستمع خلالها لهذيان روح، خبرت الحياة، وأبحرت في جميع الاتجاهات، سعيا وراء حب يغير ويحدث الفرق. لم تجد إلا صوتا ينبعث من دواخلها، انطلق بعد أن تعرف على نفسه وواجها بصدق، عبر حروب أوصلتها لأرقى أشكال الوعي الذاتي. فانساب كل شيء بشكل طبيعي من تلقاء نفسه، كتيار جارف يغني ويحكي أحداث ومواقف وحالات إنسانية. الشاعرة سعاد الطوسي بديوانها « محراب الصمت « كسرت عبر البوح جدار الصمت، فتحررت الكلمات والمشاعر وانطلقت كأمواج متتالية الدفع، كما يبدو في هذا المقطع الشعري من قصيدة «رسائل النبيذ» أحتسي النبيذ دون لذة رغبة في مد الوصل مع السحب تتحرك لتوقظك من سبات العواطف تخبرك عن روح ضاعت في صحاريك في فيافي الخوف يتلاشى كلما سرى النبيذ في العروق. (ص54:). النصوص عبارة عن لحظات شموخ تُشعر بحريق مشتعل بالداخل، يفوح بحروف رائعة شكلها كبرياء مكلوم بصور معبرة،مع كل نكسة أو إخفاق كانت الروح الشاعرة تتراجع إلى الخلف، لتنظر في أثر انفعالاتها التي ترسم بكل الألوان. تأخذ الذات الشاعرة في التأمل وجمع شتات أفكارها، كي تولد من جديد على شكل كلمات ودرر تبني بها حيرتها يقينا. في نص « تيه الحرف « (ص 48) هو تيه الذات. هذه التي لا تستطيع أن تكون كما تريد. مكلومة تسابق توقيتا خاطئا، اخْتُرقت بلا إذن وكذلك تركت كنغمة نشاز، آو حرف تائه بين الكلمات. يتضح ذلك في ما يلي: ما أصعب أن تكون حرفا خارجا عن الكلمة مرتديا كفن بهاء المعنى مطرودا من السطر والسياق مرفوضا من القصيدة لا وطن لها سوى بياض كاره لسواد يغمره من يراع . الذات في جل النصوص، تشكل عنفوان تألقها من خلال عرض تجاربها واهتماماتها وحسراتها. بسرد من خصاله ما يفوق حديث العشاق التقليديين. يعكس استجابة الجسد، ويحفزه نحو التماثل الجزئي للشفاء من خيبات الأمل، عبر انسجام النبض والشعر بتدفق حزين نحو الانعتاق من محراب الصمت. لتولد القصيدة وتبني جسرا من التواصل بين الأحلام والواقع، يخرجها من صمتها، وتغرد بأنساق ملفوفة بلواعج يكتنفها الألم. بتوليفات من المفردات اقْتُبست من معاجم متباينة، وحُملت بمعاني وأحاسيس ورموز مختلفة، نٌثرت داخل قصائد نثرية بسيطة في تراكيبها، تشد بمحملها، وبإيقاع بطيء حزين ينقل وجعٌ يُرثي جروحا عميقة، بكلمات مختارة هادفة، تقف على حقائق متعددة، لفهم فحواها تُجبر على الإبحار وراء ألفاظ تُغرق المكتوم في العمق، كي يحتمل تأويلات مختلفة. ويطرح تساؤلات عبر تدفق القصيدة، عن الآخر، عن الحضور والغياب، عن الإخلاص، عن الوفاء، عن الحب، عن التضحية، عن الواقع الذي أصبح لا يعير اهتماما للقيم. هذا المحمول أو الهم الذي يثقل السرد، يتعب القلب المفكر، الذي يحاول الوقوف على أرضية صلبة للانطلاق من جديد، لكن غالبا ما ينفطر عندما يصطدم بالصمت بالا مبالاة بالخيانة و الغدر. في نص « اكتفاء» (ص 60) تقول الشاعرة في وصف الآخر الحاضر الغائب: أنها تكتفي بطيفه ترسمه مقلها على حد تعبيرها بألوان الربيع، وذكراه تنتشلها من نفسها من هوسها، تجعل شفتيها قمرا يضيء لياليها الممطرة، وإن كان المطر بالنسبة لها: عنوانا لنزيف يهب من عينها بعنف. هكذا اكتفت به من خواء الزمان والمكان. هنا تجلو الرومانسية لدى الشاعرة، بقوة المشاعر والخيال الجامح، الذي يعد المصدر الحقيقي للتجارب الجمالية، مع التركيز على العواطف الإنسانية مثل الحب والألم والخوف والوفاء و الخيانة… . تبدو نصوص الديوان بسيطة سهلة، لكن حين تهم بالإبحار في المتخيل الشعري الذي بُنيت به الأنظومة، تدرك أنه لا يستقيم المعنى إلا بالذي سبقه لقوة التصريح والإشارة، ورسم الصورة التي تتبع الإيقاع الداخلي بتطور خطي مستقيم، مثل سلسلة تفضي كل حلقة للأخرى، بلغة شاعرية تكسر النسق العادي، بتوالي جمل تشكل تكتلات من ألفاظ بصيغ تتشابه وتختلف على مستوى الدال والمدلول. في حياكة المتخيل تجد إتقان، وصناعة تعتمد على صيغ بلاغية تغري بالمتابعة، كالتشبيه والاستعارة. والانزياح، والصور الشعرية التي تتميز ببعد نفسي، غالبا ما تكون صور استعارية مشحونة بشحنات عاطفية ووجدانية تتفاعل عبر المعانات والألم والانفعال، تم استغلالها لبناء جسر بين ألا شعور والواقع لإدماج المتناقضات والمفارقات، التي تُمكنها من تشكيل الذات عن طريق الحلم، من خلال الإسقاط والتجسيد والتشخيص، كما يبدو في هذه الصور الجميلة: الموج نغم تدركه روح الشمس تنحني أشعتها تعانق الخضرة تهب نسائم الثرى يعلن العبق خطو الانطلاق ينثر سر لوعة الاختراق نشوة النفوس بالحياة وألق إحساس الاشتياق. (ص 7) في سرد الحكي وبنائه اعتمد على حركات سريعة ضاغطة، تصل بسرعة عبر إشارات خاطفة تلمع كالبرق وسط تراتب الجمل وعلى أخرى بطيئة تتوهج وتتضح على امتداد النص، فيتمظهر بمستويات خطابية متعددة، تتمحور حول تجربة الشاعر في كل تجلياتها، البعيدة والقريبة. تعج النصوص وتخفق بنبضات تختلف ذبذباتها، حسب المحمول المعبر عنه، فهي تعلو وتنخفض مؤشرة على مستوى التأثير والتلقي واندماج الذات، تحكي عن مشهد بروح تتوق للتغير، تشعر بألمها، مرارتها، لوعتها، وغضبها. فالمحكي لا يأتي من فراغ يؤثث به النصوص،بل يتشكل من تجارب وليدة اللحظة والسياق، صورت بلغة شعرية قوية متماسكة سلسة محكمة البنيان، منقحة بحروف مختارة تدق بلجوج لتلج، و تتقدم بانسيابية، و تبتعد عن الحشو والرتابة و الإطناب. جاء الحقل الزمكاني منفتحا يتسع لأزمنة متعددة وأماكن مختلفة، كانت ترسم فقط لتجسد لحظة الكتابة، وتعكس الحالة النفسية التي تسيطر على لحظة البوح. لنصوص الشاعرة سعاد الطوسي ثيماتها الخاصة التي تعتمد على سرد ينفتح على الذات، ويتم توظيفُه بالاعتماد على شعرية اللغة، عبر الانطلاق من الأصل إلى الهامش، ومن الهامش تعود إلى الأصل، لفهم القصيدة في شموليتها. بذلك تكون القصائد مفتوحة لا تقيم حدودا بين الشعر والنثر، الذي ينفتح بدوره على تجارب وأحداث متجذرة في الدواخل، على شكل إرهاصات تعد منطلق البوح وتكسير الصمت. تأسيا على ما سبق، يمكن القول بأن الشاعرة تتعامل مع النصوص بتلقائيةٍ، بالحلمِ تارةً والوهمِ تارةً أخرى، وكذلك بإسقاط الحالات النفسية التي تعيشها في واقعها. بذلك تكون معرفتها عن العالم الخارجي ليست تجسيدا للواقع كما هو، ولكنها نتاج للذهن أي إعادة بناء المكتسب وفق معايير محددة، تكون نسيجا من مزيج من الانطباعات الحسية، والقدرات الإبداعية التي لا تتوفر إلا لذات تنضح شعرا.