الخسارة بعد لازم في روايات المصائر الجماعية، تبدو ثابتا جوهريا في هذا الصنف من السرود الذي يعج بالأسماء الشخصية والعائلية المنذورة للاختفاء، والأمكنة المتحولة المحكومة بالتلاشي والانهيار، والأخبار الواقعية والمتخيلة، التي تحكي سير أفراح ولوعات منقضية، وأخرى في طريقها للانتهاء، والزمن الهادر دون حد، العابث بأقدار تبدو تقاطعاتها وكأنما رسمت لتحاكي أوجه الألم والخيبة والفقدان الإنساني. وغالبا ما تكون روايات هذا الصنف ممتدة عبر سجلات أجيال وذاكرات شتى، ممتدة عبر مساحات نصيّة طويلة. كذلك كانت جل روايات القرن التاسع عشر الأوروبية، وأيضا الروايات الأمريكو لاتينية المتأخرة، ذات العمق الوجودي المتأمل في كنه الفقدان. ولعل رواية محمد الأشعري الأخيرة «علبة الأسماء » (منشورات المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، 2014) تنويع على ذلك التوق الروائي القديم إلى تدوين الخسارات الملتبسة بالنهايات الجماعية الأسيّة، فقدان الحلم الأندلسي ثانية، في حصنه الرباطي، بالتوازي مع انقراض العائلات الموريسكية من قصبة «لوداية»، وخسارة المكان مع اجتياح الوافدين الغرباء، وهروب من بقي إلى المحيط المديني الجديد، واندثار العقب والثروة... وبعد ذلك وقبله خيبة الأمل، وضياع أحلام جيل انتهى به الأمر في قلعة صماء مقابلة لقلعة «لوداية»، لن تكون إلا «سجن العلو» الشهير بالرباط. الأندلس المغربي تتألف الرواية من فصلين أولهما بعنوان «الطفل الذي تبع النورس» والثاني بعنوان «الكورال» ومن خلال تقاطع مشاهد الفصلين الطويلين ومواقفهما الدرامية، تشكلت سردية بديعة عن المدينة الأندلسية الأصلية التي بنيت على ضفاف أبي رقراق، التي فقدت عبر انقراض الأسماء الأولى التي حرست المدينة العتيقة لسنوات، تلك الأسماء الممتدة من «شيمرات» إلى «بيدرو» ف«مولاطو» و«فنجيرو» و«سكالانت» و«بركاش»...، ليست فقط عمقها الوجودي، وإنما سطحها الرمزي، بكل ما يتصل بمفهوم الاسم من سلطة، فنحن نعيش بأسمائنا ونكتشف العالم ونعيه عبر أسماء بذاتها، وحين تغيب يغيب معها وعينا القديم.. لكنها أيضا رواية «السجن» المسيّج بالأسوار القديمة، القلعة التي احتضنت خيبات الحالمين بالثروة والسلطة والحرية، ممن تاقوا إلى الفردوس فانتهوا في قبر منسي، القلعة النقيضة في كل شيء للقصبة الأندلسية، حيث الأسماء تراوح بين: «القرصان» و«الهبيل» و«الخرموزي» و«النمرود» و«البودالي»، وغيرها من متواليات الأسماء البربرية المجتاحة للأصل المديني. على هذا النحو لن تكون التركيبة الروائية المستندة لدعامات الأسماء والقلاع والخسارات، إلا صيغة جمالية جديدة للألم الروائي الذي يسكن عمق كل روايات المدن والسجون والعائلات القديمة، المتساكن مع موضوعات «الصخب» و«العنف» و«المتعة» و«الجريمة» و«الحب» والجنس» و«الخيانة» و«السقوط و«الوهم» و«الحضارة» و«خيبة الأمل» المقيمة. وفي بنية ملتبسة مفتوحة على احتمالات التأويل، وبقدر ما تتجاور «علبة الأسماء» في هذا السياق الموضوعي مع عشرات الروايات العربية والغربية التي كتبت عن العذاب الموريسكي، وخسارة الفردوس الأندلسي، فإنها تندرج في سياق مقابل مع تصانيف السجن والاعتقال التي تواترت عبر أصناف وتجارب سردية شتى في الرواية العربية منذ منتصف القرن الماضي. حكاية ثريا تحكي «علبة الأسماء» لمحمد الأشعري عن الأنثى القديمة «شيمرات» المرأة الأندلسية التي عاشت وحيدة في بيتها العتيق بالقصبة، حاملة الاسم الفريد من الأصل اليهودي الموريسكي، الشخصية التي تلتقي عندها كل خيوط الاختفاءات والانقراضات المتوالية في النص، بدءا بضياع اسمها الشخصي من سجلات المواليد الجدد، إلى اختفائها الشخصي الملغز لأسبوع بين مآثر غرناطة في خاتمة الرواية، وما بين فقدها لابنتها فاطمة، وطلاقها المطّرد من أزواجها العابرين، ثمة خسارات مقيمة في الوجدان، تعلو فيها ملاوعات عبثية للحبيب «بيدرو» وصدوده النكدة، إلى أن يستكين فقدها الموجع لحفيدها عماد بزواجه من «بديعة» المرعبة، ويسلس اختفاء كنزها الأسطوري المتخيل، مع موتها المخملي على إيقاع موازين الغرناطي، في النهاية، بعدما واكبت انقراض المحيط. وفي غضون حكاية «شيمرات» «الحارسة» (ص 440)، حارسة الكنز التخييلي الممتد، تتبرعم حياة «ثريا» و«عماد» المفعمة أيضا بالخسارات ما بين منزل قريبتهما في القصبة الرباطة الأثيرة، و«سجن لعلو» الرهيب، مرصعتين معا هيكل الوصل بين حصني الوجود المغلق، شديدي التناقض، الحافلين بالمغامرات والمكائد الأليفة والممتنعة، والحوارات والمواقف المأساوية والهزلية، والمسكونين في كل مرة بألوان التعابير الموسيقية التي تنوب عن عمق النشوة والوجد (الطرب الأندلسي والغرناطي في القصبة) و(أغاني مجموعة الغيوان في السجن). والعاجين معا بالشخصيات القلقة والملتبسة، والساخرة والمتقلبة، التي تتلاشى تدريجيا عبر تعاقب الوفيات وانقراض الأسماء في القصبة، وبانتشار وباء الكوليرا في السجن. وفي النهاية بتعبير السارد تتجلى الفقرات المطّردة وكأنها سجن مجازي ف: «الحياة سجن، والقبر سجن، ولا أمل إطلاقا في الحرية» (ص 93). لا جرم إذن أن تكون «ثريا» بطلة تسعى لتخطي الخسارات، يسوقها السياق الروائي المتشعب إلى الإيغال في حلمها بالتحقق الفني والجسدي، وإلى الزواج خارج المواضعات الاجتماعية، بمغامر إنكليزي جاء للمغرب لتصيد فرص الثراء، فأثمرت علاقتهما ولدا سمياه «مصطفى» اختزل في شكله الذميم روح الرفض العائلي لتلك العلاقة المتمردة على الدين والعرف، وسرعان ما يهلك لعجز المحيط عن استيعابه وتعميقا لمسارات الفقد في النص الروائي، سيسقط من شرفة في مشهد ملتبس لا يميز فيه القارئ كنه النوايا، وهو الحادث الذي ساق «ثريا بركاش» سليلة العائلة الرباطية العريقة إلى القلعة السجنية النقيضة، حيث يستدرج «عماد» المحامي الأنيق صاحب الشخصية المسطحة في الظاهر والمعقدة في العمق، إلى عوالم التحقيق والمرافعات المتراسلة في مساعيه لإطلاق سراح قريبته المتهمة. بين قلعتين هكذا يكون السياق الروائي قد هيأ الصيغة السردية المثلى للانتقال من الفضاء الأصلي إلى نقيضه، من قلعة الخاصة إلى حصن العامة، ومن حكاية زوج «ثريا» الإنكليزي المخملي، إلى تفاصيل مسار حبيبها النقيض، المناضل «مالك الرامي» المعتقل السياسي الحالم بالتغيير، الذي ساقه اجتهاده العابر في تعقب المقابر الجماعية للمتظاهرين في أحداث سنة 1984 بمدن شمال المغرب، إلى الاعتقال ثم السجن. وبينما وجد «ريتشارد» زوج «ثريا» المغامر، في النهاية، نفسه قد خسر العائلة والثروة والآمال الشرقية، يخسر مالك سنوات من عمره وأحلامه وحبيبته الخارجية «هدى» ثم حبيبته السجنية البديلة «ثريا» بعد أن تبرأ من التهمة. تنبني الرواية إذن على لعبة تقابل، بين قلعتين أولاهما قصبة الرباط الأصلية التي تدين لأسماء قديمة وافدة من الضفة الأخرى، والثانية رباط مصطنعة محصورة بين أسوار سجنية، ومطلة على امتداد هجين، لن تكون إلا مقبرة للحالمين بالثروة المحرمة والسلطة البعيدة والحرية المشتهاة، ومعبرا رماديا لمجرد هُبْل ألقى بهم قدر الخسارة هناك.. وما بين القلعتين تنتسج «علبة الأسماء» ولعبتها معا، ففي البداية ثمة علبة الجدول الجفري المتصل بالكنز المخفي، جدول ينطوي على أسماء أغلب العائلات الأندلسية القاطنة للقصبة، مع اسم شخصي واحد للشخصية النسائية المركزية في الرواية هو «شيمرات».. ثم بعد ذلك ستصير علب الثقاب العديدة التي يتقاذفها السجناء عبر الأسوار حاملة لرسائل الشوق والتوق من السجناء إلى السجينات، ثم لتتحول العلب إلى مجرد لعبة للنسيان، يشرحها السارد حبرا على بياض حين يقول: «يتصور المرء أن سكان المدينة القديمة بما أنهم يتزوجون فيما بينهم ويتناسلون في علبة بأسوار عالية، فإنهم يعرفون بعضهم بعضا كما يعرف المرء أصابع كفه، ولكن الواقع غير ذلك، فهم يحفظون شجرة الأنساب عن ظهر قلب دون أن يعني ذلك أنهم يعرفون أشخاصها واحدا واحدا» (ص 238). الاسم والمسمى غير أن الرواية في النهاية ليست إلا لعبة تكشف تدريجيا ألغاز العلب، العلب المغلقة التي يستدرجها قدر الخسارة إلى النسيان والمحو، إلى تدوين تفاصيل الهروب المطرد للروح الرباطية من داخل الأسوار إلى خارجها، ومن اعترافات السجناء بالأسماء المكتومة إلى إعلان أسماء الشوارع والأزقة المؤبّنة لروح الشهداء والقتلى والملوك والأبطال المنسيين. لكن حين تلتئم في السياق الروائي مكونات العلبة التي تكشف الأسماء وتداريها، تبني القلاع وتهدمها، يضعنا السارد أمام النص المفتاح الذي يقول: «سيموت الاسم ويبقى المسمى، أو يموت المسمى ويبقى الاسم، يا له من تحول ساحر، كل حدائق الأندلس ومدنها وأزقتها وشرفاتها وأسمائها وخفتها وجذلها يندثر شيئا فشيئا ولا يبقى منه سوى غناء رقيق يتوزع بين نوبات وموازين ، بين رباب وعود، بين صنعة وشغل وتوشيح.. تندثر الأسماء كأن أرضة عملاقة تأكل منها كل يوم، تأكل من الحرف والجلد، وتتبع أثر الشجرة، لا تجتثها ولا تحرقها بل تشرب نسغها وتقضم أوراقها ولحاءها وتترك مكانها عزفا منفردا على المندلينا» (ص 441).