الإستطيقا مبحث من مباحث الفلسفة ، وسينما المؤلف موجة من الموجات السينمائية الطلائعية . الأولى لو أخذناها في تشقيقها اليوناني تعني الإحساس بما هو جميل ، وما يوفر هذا الشعور هو الجمال و الذوق و السامي والعبقرية والحكم الجمالي … وهي كلها مفاهيم وإشكالات جمالية تنتمي إلى الفنون الجميلة . الثانية لا تعني بالضرورة نقل مؤلف أدبي (جارات أبي موسى ، الحرب و السلم) إلى الشاشة و لا تعني الاقتباس من الآداب قط ،إنما هي جعل الكاميرا كالقلم .. منحها شاعرية ما كما هي متوفرة للقلم لدى المؤلف فتتوفر للمخرج عبر كاميرته . قديما : من بين الذين جسدوا هذا الاختيار الفني و السينمائي الفنان جان كوكتو(1889 / 1963) روائي ، شاعر ، مخرج ، رسام … من أعماله السينمائية التي يمكن عدّها في خانة سينما المؤلف : 1- « العود الأبدي « وهو يحكي أسطورة الحب الأبدي الشهير بين تريستان و إيسولت من تمثيل جون ماري و مادلين صولوني . يعالج الشريط إشكالية الغيرة و الكراهية المرافقتين لكل حب أبدي مثلما حصل مع روميو وجولييت وقبلهما قيس وليلى ، من إخراج جون دولانوي مدته ساعة و خمسين دقيقة تقريبا .أسطورة الحب هذه هي أسطورة أدبية خلّدها شعراء من النورماندي بإيرلندا . بدأت شفاهية ثم في القرن الثاني عشر ظهرت مكتوبة وفيها نسخ عدة متضاربة . لا يخفي كوكتو تأثره بنيتشه . هذا الأخير يعالج العود الأبدي في العديد من مؤلفاته ( هذا الرجل ،هكذا تكلم زاردشت ، اعتبارات غير راهنية ، المعرفة البهيجة ) . العود الأبدي «أسطورة» أساسية لفكر نيتشه وهو مرتبط بكلمة جارية في الألمانية (دي أهنونك) أي الإحساس القبلي ، كتذكر أو كمعرفة سابقة لما قد يقع أو كما لو أن كل شيء قد حصل. العود الأبدي هو «مرة أخرى أيضا» ما يتكرر دوما ، ما هو جديد مما هو قديم … وهو يشير إلى دائرية الزمن ( الزمن شبيه بالدائرة). عرف منذ القدم في العديد من الحضارات ، لكنه فلسفيا عند نيتشه يعني أمرين أو ثلاثة : 1- كل شيء يعود ويتكرر والفكر لا ينحصر في تعبيراته . 2- عودة الصباحات والمساءات والفصول واللحظات . 3- التكرار رمز لإيجابية الحياة لخصوبتها وتوالدها .. الحب الأبدي في الشريط يجسد كل هذه الأبعاد الفلسفية للعود الأبدي . 2- وصية أورفيوس : شريط أنتج سنة 1960 . يحكي موت شاعر قتل بالرصاص و انبعث في زمن آخرغير زمانه . حينها سيقرر كتابة وصيته . إنها سيرة ذاتية لا تحترم السرد الكرونولوجي . الشاعرهو جون كوكتو نفسه و هو الممثل الرئيسي في الشريط . مثّل فيه أيضا الفنان بيكاسو وكان صديقا له . لحضور بيكاسو دلالة كبرى . وهو شريط يخلد خلود الشعر. يقول كوكتو :» الشعراء لا يموتون، إنما يبدون وكأنهم ماتوا» للشريط عنوان آخر هو : «دم الشاعر» . يتكون الشريط من أربعة مشاهد. لا يتوفر على عقدة تستدعي الحل أو النهاية السعيدة . ما دام كله شعرا، فهو في غنى عن الزوائد . المشهد الأول : يبدأ الشريط من لقطة مدخنة ضخمة آيلة للسقوط . الشاعر وقتها في بيته . يدعوه تمثال امرأة بدون أذرع للغوص في المرآة . حين يلج عالمها يكتشف عالما غريبا فيقرر العودة إلى بيته ، بعدها يقرر تحطيم التمثال فيتحول هو نفسه إلى تمثال آخر . المشهد الثاني : في المدرسة هناك معركة بين الأطفال بكرات ثلجية . تنفلت منها كرة بلورية بيضاء تصيب طفلا فيموت . المشهد الثالث : في المسرح طفل يحتضر ممددا. بجواره على الطاولة يلعب الشاعر لعبة الورق مع فتاة شابة صديقته . في الجيب الداخلي لمعطف الطفل الورقة الرابحة ، يسرقها الشاعر ، تفضحه الحسناء ، فينتحر الشاعر. المشهد الرابع : تظهر المرأة التمثال كلوحة و في يدها قيتارة. نهاية الشريط . زمن كل هذه المشاهد لا يتعدى دقيقة واحدة هو مدة سقوط المدخنة .وكأننا في حلم أو الأصح في كابوس . أورفيوس شاعر و موسيقي حكمت عليه الآلهة بألا ينظر إلى وجه حبيبته وهو ينقذها من الجب الذي سقطت فيه إلى أن يخرجا منه معا سالمين ، لكن شغفه ولهفته كانا من القوة والزخم أنه نكث الحكم ففلتت منه مرة أخرى ووقعت في غياهب البئر . منذ ذلك الحين وهو يغني وينشد وهي تحولت إلى شجرة ذات أوراق سيدنا موسى . التقاطعات بين الشريط و الأسطورة بادية للعيان . آنيا : سينما المؤلف من خلال كتاب «العرض السينمائي» تصورا للعالم للناقد محمد شويكة . يعد هذا الكتاب الذي لم يترجمه الناقد محمد شويكة وإنما قرأه و درسه وقدّمه لنا كتابا في الفلسفة وبالضبط في «الأونطولوجيا» وفي السينما و بالضبط في» سينما المؤلف». « عرض العالم « تأملات في أونطولوجيا السينما للمؤلف الفيلسوف الأمريكي ستانلي كافل اسمه الحقيقي هو والتر م كابو. من مواليد 1926 بأطلانطا ولاية جورجيا ، موسيقي دكتورة في الفلسفة من جامعة هارفارد . يدرّس الإستطيقا و القيم منذ 1963 ، من أساتذته جون أوستين اللساني المشهور الّذي أدخل فيدجنشتين والوضعية المنطقية إلى الجامعات الأمريكية . « ما لا نستطيع قوله يجب أن نصمت حياله « كما ورد في كتاب فيدجنشتين «البيان» (تراكتاتوس). ويعد هذا الأخير إنجيلا لهذا الجيل من الفلاسفة ، منه تعلموا تصورات دقيقة عن العالم و اللغة و الإنسان : – حدود العالم هي حدود اللغة . – ما يمكن قوله يجب قوله بوضوح أو تركه . – القضايا الميتافزيقية قضايا فارغة و طوطولوجية . الوضعية هي اللغة التجريبية والمنطقية هي السير الواضح للأفكار . له أكثر من مؤلفين : الأول تحت عنوان «يجب علينا أن نعني ما نقول» و الثاني «احتجاج العقل» و هما يندرجان ضمن هذا السياق التحليلي المنطقي .إلا أن جديده الفلسفي لا ينحصر في تطوير و تأويل الوضعية المنطقية، بل يتعداها إلى اكتشاف منطقة كانت تشكل أرضا فارغة حتى لا أقول يبابا (نو مانس لاند): هي تقاطع السينما و الفلسفة أو الأصح تباصرهما انطلاقا من زاوية جمالية تعود في خصوصيتها لكل منهما (الفلسفة و السينما )هي «الاستطيقا». فدروسه في الاستطيقا والقيم دعته إلى ابتكار اتجاه فلسفي سماه «النزعة الكمالية» و لمّا ربط هذه النزعة بالقيم جعل منها إيتيقا حتى لا نقول أخلاقا . «إيتيقا النزوع إلى الكمال» ، وهي ميل أخلاقي ينشد الفضيلة ويعود بالفلسفة والسينما إلى هدفهما الأول والبدئي ألا وهو «السعادة» . يقول الناقد محمد شويكة بهذا الصدد :» ..ذلك أن الفلسفة تدعم القيم التي ترقى بها نحو الكمال الذي يصبو بدوره إلى تحقيق الغايات الإنسانية الكبرى «(ص19). وهذا الكتاب كما أشرت سابقا ويمكن تسميته ب»إسقاط العالم» ،يدعّم بعنوان فرعي هو «تأملات في أونطولوجيا السينما» و ليس المقصود بالأونطولوجيا هنا تلك التي تصنف وتؤرخ للسينما كما يصنف ويرتب الشعر والشعراء مثلا بل المقصود هو علم الوجود الذي يبحث في الأونطوس . وهنا يبدو تميز هذا الفيلسوف . فهو لا يريد البحث المقارن بين الفضاء الميتافزيقي للسينما والفضاء الفزيقي للشاشة ولا الوقوف عند تشابه قاعة العرض السينمائي بمغارة أفلاطون .. و إنما أراد أن يفكر فلسفيا أي أونطولوجيا في السينما .متسائلا ما هو العالم الذي تصوّره لنا الكاميرا و تعرضه علينا ؟و ما علاقته بالعالم الذي يحدثنا عنه تمثلا هيراقليطس مثلا ؟ من أين يتأتى القول بأن السينما تشبه بشكل طبيعي الواقع ؟ ما هي الحقيقة في الفلسفة وما هي الحقيقة الخائلية في السينما ؟ ما هي سعادة الإنسان ؟ و أين تكمن ؟ عناوين كتب ستانلي كافل الأخرى تطمئننا أكثر على هذه التساؤلات ، مثل : «فلسفة القاعات المظلمة» و»هل تجعلنا السينما أفضل ؟» و «في البحث عن السعادة».. الكتاب الأول تدفعنا فيه المشاهدة في القاعة المظلمة إلى نوع من التأمل الفردي من خلال الصور واللقطات و المشاهد المختلفة والإنارة والصوت ، في الوجود الحاضر بدرامية أحداثه وكثافة واقعيته .. والثاني والثالث يسائلان دور السينما في سعادتنا وحبورنا بنوع من الكاتارسيس الذي يطهّر النفوس .. طبعا كل هذا يعود فيه الفضل إلى الناقد محمد شويكة …حيث التقط النجم الصاعد لهذا الفيلسوف السينمائي وعرّفنا به و بأهم منجزاته وبفلسفته و سينمائيته ، ولم يكتف بالتعريف والوصف إنما تجاوزه جاهدا إلى البحث والدراسة والتنقيب، معتمدا على خبرته الفلسفية المدركة لأهم الاختيارات والمدارس التي أثرت في فيلسوفنا وعلى علمه الأكاديمي ونقده السينمائي في تبويب الكتاب و إبراز تيماته، وعلى حسه النقدي في المساءلة والاستشكال . طبعا كل هذا ، مرة أخرى ،ونصب أعين الناقد محمد شويكة السينما المغربية تأليفا (سيناريو) و إخراجا، و النقد السينمائي المغربي و التقويم الفيلمي سواء في المهرجانات أو في المسابقات أو في الدعم . يعد هذا الكتاب قيمة مضافة إلى المكتبة المغربية والثقافة العربية .