امرأة من قرنفل ورياحين وحجر… لم يرعها سوى اليتم والسقم والضياع… ولدت يتيمة الأب في العقد الثالث من القرن الذي انقضى، وعاشت يتيمة الأبوين منذ الطفولة التي ما زالت تروي لي مآسيها بكثير من السخرية الجارفة أحينا، وبكثير من الدمع الدافئ الضحوك أحيانا أخرى. هي جدتي: رقية بنت أحمد بندحمان السيودي، سليل «سيدي وسيدي»، أحد صلحاء تارودانت، من مدشر«تلمات» بقبيلة بني زروال الجبلية التي حل بها جد رقية بداية القرن التاسع عشر الميلادي. هذه المرأة التي هي جدتي وصديقتي، هي ملهمتي الصبر على المحن والسخرية من القدر، ظالما كان أم يفيض نشوة وسعادة، هي معلمتي الفلسفة في صيغتها الوجودية الطبيعية التي نحياها ولا ندرسها. ليست جدتي فقط، ولا أغرق في حبها لأنها جدتي فحسب. أنا أعشقها ومتيم بحكيها وقوة سخريتها لأشياء أخرى لا يعلمها إلا المقربون، ولا يدرك قدرها سوى من احتضنتهم في بيتها البسيط، وحمتهم من عواصف الشتاء الجبلي القاسي، ومن عيون العدو المتربصة بمن نذروا أنفسهم لتحرير الوطن من براثن الاغتصاب. رقية المقاومة لا تحمل بطاقة تشهد على سيرتها، ولم تسع أبدا لتعويض عما أسدته لوطنها في صمت وخشوع، ماديا كان أم معنويا. يقينا، أن رقية لم تقرأ ولم توزع منشورا سريا، ولم تسمع ب«بيان القاهرة» ولا ب «وثيقة الاستقلال». لكنها لم تتردد لحظة في استضافة رجال أشاوس يحطون الرحال ب«غرس علي»، التي لا يدخلونها إلا تحت جنح الظلام. متى أقبلوا، متعبين، جائعين، تشعل رقية المواقد، تقدم لهم الماء الدافئ، تهيأ على عجل ما تيسر من زاد، وقبل طلوع الفجر، تصاحبهم حتى البوابة الشرقية للمدشر، تدلهم على الطريق، تودعهم السلامة وتدعو لهم بالنصر… هي الآن تتذكر كثيرا منهم، تتذكر سحناتهم وأسماءهم وبنادقهم الرشاشة وقليلا من أحاديثهم المختصرة. تتذكر سي محمد المكناسي المعروف، ببني زروال، ب «ولدعلي»، وطافوس، ولولوط ، والسيقال، وأحمد الأعور. عن علاقتها بهؤلاء حكت لي جدتي ذات أصيل: «كان جدك في الجيش الفرنسي، وكنا نسكن في حي «رسراس» إلى جوار دار القبطان، كانت غفساي حديقة غناء… فيلات فسيحة يسكنها الفرنسيون. حينذاك، لم أرزق بعد بعبد النبي ولا العلمي، أبوك كان صبيا، ومنانة في حولها الخامس. أما فاطمة فقد تركتها لجدتها… ذات ليلة من شتاء 1955، لم يعد جدك للمنزل، وهو أمر اعتبرته عاديا بحكم مهنته أولا، ونظرا لحالة التأهب التي كانت تخيم على الثكنة جراء عمليات جيش التحرير بالمنطقة. وسط الليل البهيم، والعواصف الهوجاء، لعلع الرصاص في أرجاء الثكنة، طلقات متقطعة ثم دفقات. استيقظت في هلع، وتملكني الخوف. أيقظت أباك ومنانة بحثا عمن يؤنسني… استمر إطلاق النار ما يناهز الساعتين، ثم خيم على الثكنة صمت رهيب، انبثق من جوفه نواح جماعي وعويل النصارى… في عتمة الليل ورائحة البارود، سمعت دقات خفيفة على النافذة. خلتها لجدك. لما أطللت من شقوق النافذة المغلقة، همس صوت ليس بغريب: «يوصيك سي المهدي أن تخلي الدار حالا قبل أن يلقي عليك النصارى القبض… دبري أمرك وأمر الأطفال…». انسحب الصوت وغاص في الظلام. تذكرت حينها أن جدك كان قد لمَّح لي مرة أنه ينوي الالتحاق بجيش التحرير. وهاهو قد فعلها. دون تفكير، حملت أباك فوق ظهري وأمسكت منانة من يدها، وانسحبنا إلى خارج الثكنة… لم نحمل معنا سوى ثيابنا، ومذياعا كانت بطاريته أوزن منه. اختبأنا بفناء الجامع الكبير إلى الصباح. كان يوما أسود، لم تفتح الدكاكين أبوابها وأضحى الشارع والدروب المتفرعة عنه يبابا بعد أن لزم الناس ديارهم… دوريات «الكوم» (فصيل من القوات الاستعمارية الفرنسية أيام الحماية بالمغرب، يتكون من المغاربة) تجوب الأزقة والساحات، وعساكر كثيفة تطوق القرية وتحرس مداخلها… وطائرات حربية تغير على جبل «ودكة»… وأخرى من طراز الهيلوكوبتر تنقل جثث الموتى جنوبا… بمحاذاة الجامع، جلست القرفصاء، متنكرة في «حايك» جبلي، وطفليَّ يمسكان بأهدابه. خفت … بكيت في صمت… كلما مرت قربي دورية عسكرية زاد خفقان قلبي… لا يهدئ من روعي سوى عبارة يكررها قائد الدورية» فاطمة، ما تخفيشي…». آه لو علم أني رقية زوجة سي المهدي. كان يوما مشهودا، وكنت عليه شاهدة… لم تكن بيدي حيلة، ولم يكن لي بد من طرق دار سي الأمين القريبة من المسجد. أدخلني الرجل خفية، والاضطراب باد على محياه. لم أخبره عن جدك شيئا، واكتفيت برجائه بأن يقبلنا بين أسرته حتى الغد. لم ينتظر سي الأمين غدا ولا بعد غد… يبدو أنه اعتبرنا وزرا وجب التخلص منه في أسرع وقت. خرج ثم عاد بعد آذان الظهر ليخبرني أنه التقى بأحد شرفاء» القليعة»(مدشر من أجمل وأهم مداشر بني زروال، تقطنه عائلة علوية ) الذي سيعود إلى قريته عند العشي، وأن الشريف وافق على أن نرافقه إلى القليعة، ثم نتدبر وصولنا إلى «غرس علي». قبلت الاقتراح على مضض… لقد فهمت من تصرفات الرجل وزوجته أنه غير مرغوب فينا. كانت الرحلة قطعة من جهنم… ظلام… ظلام … ظلام… على طريق موحلة، سرت حافية القدمين… أحمل على ظهري عبد السلام الذي لم يكف عن البكاء… ومنانة في كنف الشريف الذي امتطى فرسا شهباء ترمي الوحل بحوافرها. تمسكت بذيل الفرس وهي تطوي الظلام طيا. والشريف في برنوسه الملكي يشد من عضدي كلما شعر بلهاثي يشتد. لم يكن يا أبنائي من اختيار سوى أن أتشبث بذيل الدابة وأواصل السير وسط العتمة وتحت وابل ليلة ماطرة من ليالي دجنبر، لم آبه بالطين وقد تجاوز مني الركبتين، ولا بالريح العاتية وقد استشرى قرها في دواخلي… أتشبث بذيل الدابة وأخطو وسط الليل البهيم والمكان الموحش واللحظة العصيبة. عند آذان العشاء، كنا قد تجاوزنا «وادي الصباب»، وبدأنا نتسلق السفح الذي تعلوه بلدة» القليعة» التي بلغناها بعد ساعة من الخطو أنهك قواي وأدمى قدمي. وصل مني البلل مبلغه وارتوى بدني الارتواء كله، وكذلك بدن والدك، أما منانة فقد كان برنوس الشريف بها أرحم. استقبلتنا زوجة الشريف وفي عينيها ريب وغيرة. لما أوصاها الشريف بالاعتناء بنا، زاد غيظها. أشارت إلى غرفة جانبية حيث يمكننا قضاء الليلة وأومأت لأحد الخماسين بأن يناولنا كسرات خبز أسود وبعض حبات زيتون. تألمت كثيرا لما صدر عن زوجة الشريف الذي اكتفى بالإشارة على الخماس نفسه بأن يصاحبنا غدا حتى مشارف مدشرنا. لم يراود النوم جفوني تلك الليلة … كانت ليلة ماطرة، لا تسمع فيها إلا رعودا تشق السماء وعواصف تعوي بين الفجاج. رجوت لله ومولاي العربي أن يفتر المطر وأن يكون صباح الغد صحوا، وأن تتيسر رحلتنا إلى حيث الأهل…»…. «بعد التحاق أبيكما بجيش التحرير، وعودتي وأبنائي من «غفساي»، قررت أن أبني فوق هذه الأرض بيتا صغيرا، شمرت على ساعدي فهيأت ما يناهز ألفي لبنة من طوب، وجمعت ما يكفي من الحجارة. بمؤازرة أهل المدشر قاطبة. تم بناء الدار الصغيرة في زمن قياسي، منهم من تبرع بأعمدة، ومنهم من ساهم في البناء، ومنهم من تكفل بالنجارة. بعد البناء تطوعت نساء الحومة لتبليط الجدران وتزيين الغرف…. أقبل الناس طوعا، تقديرا للموقف الشجاع لجدك الذي ضحى بكل شيء من أجل الوطن. استكمالا لجميل صنيعهم، أجمع أهل الدوار على تنظيم اكتتاب عيني لفائدة الأسرة المجاهدة، فزودونا من كل الغلال. في تلك الأثناء كانت بني زروال منطقة شبه محررة، يحكمها في الواقع جيش التحرير. استقررنا ب«التغزازة»، فعملت على غرس هذه الأشجار، وسيجت الدمنة، وعشت في رغد وهناء ووقار. تعاطف معنا الجميع واحتضننا أهل القبيلة جمعاء…. في هذه الدار استقبلت عددا من رجال التحرير، آويتهم وغسلت ثيابهم وسهرت على راحتهم وأمنهم، كانوا يأتون الدار في الليالي الدامسة، ويدقون طاقة الغرفة العالية، فأدخلهم في حفظ الله وأطعمهم ما تيسر، ثم يغادرون قبل انبلاج الصبح… زارنا جدك مرارا، وكانت زيارات خاطفة وسرية، في هذه الدار، ولد عبد النبي قبيل عودة محمد الخامس…». هكذا تحكي جدتي سيرتها الكفاحية غير آبهة بما جرى وبما كان بعد الاستقلال… ولا شيء غير الحكي…