أنا لم أمت، إنما اختفيت… اختفيت مثل الملح في الماء… لم أمت و لم أنتحر كما روج لذلك بين أعضاء جمعية الضحايا. وبدل أن يصفقوا ويهللوا لموهبتي النادرة والخارقة، ناصبوني العداء والكراهية ولفقوا لي تهمة الكذب. أنا لم أكذب، أعني لم أفتعل الكذب على أحد. فرق كبير بين أن تكون كذابا بالفطرة وكذابا للظروف الاجتماعية التي تفرض عليك أن تحتال على الناس لابتزازهم أو تقويض أركان بيوتهم… هؤلاء، قد يتسبب كذبهم في نزاعات تنتهي بكوارث… أنا لم أبتز أحدا.. لم أحدث تصدعا في أسرة، ولا خصومة بين صديقين، أو صراعا بين أفراد عائلة.. أنا هكذا. يقول المثل: من شب على شيء شاب عليه. والدي وشقيقي لهما سوابق في الكذب والخداع والتدليس. وقد سبق لهما أن تورطا في قضايا اختلاسات.. لكني أنا، وبفضل ذكائي، تحاشيت الوقوع في مثل أخطائهم، لنقل إني أخذت العبرة منها فانتهجت لي طريقةً خاصة. قد يكذب المرء على كل الناس بعض الوقت، ولكن لن يستطيع أن يكذب على كل الناس كل الوقت.. لكن ما العمل؟.. الكذب متأصل في ذاتي، غير أنه كذب يحرك في الناس أحاسيسهم، يجعلهم يفكرون في الآخر، ذاك الذي تعذبه أحزانه وتؤرقه صدماته وكبواته. أنا أبرع في نسج أكذوبات تريح الأنفس بمنحها لحظات مواساة وانفراج.. المعذبون، حين يجدون من يقاسمهم أحزانهم، ترتاح أنفسهم، و لا يهم إن كان صادقا أم كاذبا… أعني أساسا من يملك الأسباب التي تجعل أولئك الحزانى الذين استعصى عليهم البكاء،، يذرفون دموعا حرى، ويشعرون بالراحة، و بصدورهم تخففت من حمل ثقيل.. بعد الحرب العالمية الثانية، في ألمانيا وقد تحولت خرابا، أنشئت أقبية تحت مقاه وحانات، تكاد تكون سرية، لاستحلاب الدموع من أعين بات البكاء عليها عصيا، وأطلقوا عليها أقبية البصل.. أجل ، البصل. يشتري الزبون ربطة بصل، ويجلس إلى مائدة يقطعها فتدمع عيناه، وسرعان ما يشرع في البكاء، إلى أن يتخفف من عبئه النفسي ويرتاح. فلم كل هذا الهرج والضوضاء؟ ألأني، وفي أكبر إنجاز لي، أبكيت العالم بقصة نجاتي من الموت؟.. لم كل هذا الحسد، وخصوصا من لدن مئات الكتاب؟ ألأن كتابي بعت منه ملايين النسخ فحققت أرباحا خيالية؟ عجبا، أ لهذا الحد أغاظهم كتابي !؟.. وما الحدود الفاصلة،عندهم، بين الصدق والكذب في ما يكتبون؟.. أليست خيالاتهم كذبا !.. هم أيضا يمارسون الكذب وعلتهم في ذلك أنه كذب فني.. بارعون في المشي على حبل الكلمات لم لا يقولون صراحة : « فن الكذب» !؟ أيجوز لهم ممارسة فن الكذب، ولا يجوز لغيرهم؟ لكن من برأيكم أخطر الكذابين على وجه الإطلاق؟ المخرج السينمائي الشهير ستانلي كوبريك اعترف أنه هو من صوّر وأخرج الهبوط على سطح القمر في رحلات أبولو الأمريكية نهاية الستينات والسبعينات. وأنه أمضى على عقد مع الحكومة أن لا يدلي بأي اعتراف وإلا يُقتل، صرح بذلك في فيديو وأخبر المصور أن لا ينشره إلا بعد مرور 15 سنة من وفاته. يقول في الفيديو: « أنا قمت بعملية احتيال كبيرة على الشعب الأمريكي بمشاركة كل من حكومة الولاياتالمتحدة وناسا.. عملية احتيال ضخمة تم القيام بها ضدهم، فلا بد أن يعلموا..».. ويحكي عن نيل أمسترونغ، فيقول: «هو أيضا كان منزعجا من هذا الأمر.. لقد عذبه الأمر بقية أيام حياته.. كان مكتئبا، فزعا ويشعر بالمرارة ويدمن شرب الخمر… كان خائفا ويتحاشى الناس.. «… أنا أشك في صحة الفيديو رغم ظهور ستانلي كوبريك وهو يتكلم، وأشك في سلامة عقله لاسيما وقد بدا منهكا، هرما يتكلم بصعوبة.. والواعدون زيفا بالفردوس.. وعودهم وحروبهم قائمة على الكذب.. سجل ضخم من الخديعة.. والعامة يصدقونهم… كل الناس كاذبون.. يكذبون على بعضهم البعض، يكذبون على أنفسهم أيضا، و كل واحد منهم يتفنن بحسب موهبته في ذلك.. نحن نعيش في عالم تسوده الأكاذيب.. أنا أبكيت العالم.. وكل ما فعلته أني قمت بتأليف كتاب عن قصة نجاتي من الموت في أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001، و أنا في الطابق الثامن والسبعين حيث لم ينج أحد… أنا الأمريكية (تانيا هيد)، وأنا الإسبانية أليشيا ايفيتس هيد.. ملأت قصة نجاتي بالأحداث الدرامية، و بدأتها مقدمة نفسي على أني خطيبة شاب يدعى ديفيد كان من بين المحاصرين في البرج الآخر..ذاعت شهرتي.. وعندما سألني إعلامي عن أصعب موقف واجهته أثناء محاولة النجاة؟ أجبت بأن الموقف الأصعب كان إعطاء أحد الضحايا خاتم زواجه لي، وكان يحتضر، وطلب مني تسليمه لزوجته. وأضفت للإعلامي قائلة بأني كدت ألحق به لولا شجاعة (ويلز ويمي) الذي أنقذ حياتي. (ويلز ويمي) كان أحد أبرز المنقذين البارزين في حادثة 11 سبتمبر، توفي فعلا بسبب محاولة إنقاذ المزيد. وخطيبي (ديفيد) مات في البرج الشمالي. فعلا حبل الكذب مهما طال فهو قصير.. اهتمت الصحافة بأمري، وفي النهاية، تبين أن قصتي ملفقة من الباب إلى المحراب.. وهكذا، جاء الخبر اليقين عندما تأكدوا من هويتي، وأني كنت في إسبانيا أثناء حادثة 11 شتنبر، إلا أنني كنت قد أسدلت الستار خلفي وتواريت عن الأنظار.. بعد أسابيع قليلة، توصلت جمعية الضحايا برسالة عبر الإنترنت من مصدر مجهول، تقول إنني قد انتحرت، وبعد أسابيع ظهرت الحقيقة أني ما زلت على قيد الحياة بعد نجاحي في خداع وسائل إعلام المجتمع الأمريكي وحكومته لمدة خمس سنوات. لكن المحير في أمري، أني، بعد شهور، أصبحت أعيش حالة غريبة، صار عندي إحساس بأحداث تتراءى لي قبل أن تقع، ولست أدري إن كان ذلك بتأثير من قراءتي المتكررة لتنبؤات نوستراداموس*. هو الذي قال في إحدى رباعيات تنبؤاته: « نار تزلزل الأرض تخرج من مركزها، ستسبب هزات حول المدينةالجديدة، وتشتعل النار في التوأمين العملاقين لفترة طويلة وستلون أريثوسا* نهرا آخر بالأحمر…».. في إشارة إلى برجي منهاتن..»… قال ذلك منذ أزيد من أربعمئة سنة… تساءلت مع نفسي: ماذا لو بدأت أنشر تنبؤاتي؟… وانتبهت إلى أني مختفية، ثم إن تنبؤاتي ليست ذات قيمة أو أهمية تذكر، هي تنبؤات عادية، كأن أرى «جورجيو» جاري العجوز يتعثر في آخر درج من السلم و هو نازل من الطابق الثالث… واليوم أؤكد أمامكم: لو لم يمت ويلز ويمي، لما جعلت منه البطل المنقذ لحياتي. وخطيبي المزعوم ديفيد جعلته يموت في البرج الشمالي. لست بليدة إلى حد أن أجعل من شخصية حقيقية ناجية بطلة في قصتي… حرصت كل الحرص على ألا أترك معي شاهدا حيا.. و خاتم الرجل الضحية، جعلته يضيع مني و أما عنوان بيته فصرحت بأنه انمحى من ذاكرتي. مشهد الضحية وهو يسلمني الخاتم، أخذته من فيلم قديم بالأسود والأبيض يحكي قصة جنديين صديقين وهما على جبهة القتال. لم أكن في البرج، بل كنت يومها في إسبانيا، وسافرت بعد الحادث إلى أمريكا ولفقت كل القصة المفعمة بأجواء الفزع والخوف. الجميل أنني ألهمت كاتبين* لسرد تفاصيل قصتي المفبركة في كتاب: « المرأة التي لم تكن موجودة هناك: القصة الحقيقية للخداع المُدهش». 1 نوستراداموس: نوستراداموس أو ميشيل دي نوسترادام (14 ديسمبر أو 21 ديسمبر 1503 – 2 يوليو 1566)، وعادة ما يسمى باسمه اللاتيني نوستراداموس Nostradamus، وهو صيدلاني ومنجم فرنسي. نشر مجموعات من النبوءات في كتابه (Propheties « النبوءات»)، وصدرت الطبعة الأولى في عام 1555 والتي أصبحت منذ ذلك الحين مشهورة في أنحاء العالم. ويحتوي كتاب التنبؤات الأحداث التي اعتقد أنها ستحدث في زمانه وإلى نهاية العالم الذي توقع أن يكون في عام 3797 م. وكان يقوم بكتابة الأحداث على شكل رباعيات غير مفهومة. 2 أريثوسا من آلهة الإغريق وتعني الماء