أحداث العنف المؤسفة التي عرفها السوق الأسبوعي لبيع الأضاحي بفاس ليلة عيد الأضحى المبارك، والتي خلفت حالة من الهلع والفوضى والاستنكار في صفوف المواطنين، تطرح في الحقيقة عدة قضايا وإشكالات تتجاوز في عمقها ودلالاتها وانعكاساتها، ما تناولته المنابر الصحفية المختلفة مقروءة وإلكترونية، والتي لم تركز سوى على جانب من الصورة، جانب المواطنين وهم يركضون فارين من جحيم المواجهة، وناقلات المواشي وهي تجري بسرعة جنونية مخلية المكان. إن تلك الأحداث تنطق في الحقيقة بوضعية الفوضى واللاتنظيم التي تعرفها أسواقنا داخل المدن الكبرى، وهي الوضعية التي تزداد استفحالا بمناسبة عيد الأضحى، حيث لا تخفى الرهانات و حيث لا تخفى كذلك الدلالات التي يكتسيها هذا العيد بالنسبة لعموم المواطنين، والذين سنة بعد أخرى تراهم يتضرعون للعلي القدير أن يحمل العيد رخاءا وسعة، تمكنهم من شراء الأضحية في وضع طبيعي لا يجعلهم يتحملون ما لا طاقة لهم به، فإذا بهم يواجهون كل سنة التسيب ذاته، واللامبالاة ذاتها، وغياب السلطة المنظمة والضابطة لحقيقة الأسعار، أي تلك الأسعار التي لا يدخل في تشكيلها عمل مدمر لوسطاء طفيليين، لا يهمهم سوى اقتناص الفرص والربح السريع. ذلك أنه على الرغم مما أثير أكثر من مرة من طرف معظم المنابر الإعلامية وبعض المنتخبين، من تنبيه إلى الخطورة التي يشكلها ما صار يعرف ب «الشناقة» بمناسبة موسم بيع الأضاحي، من مخاطر على جيوب المواطنين وراحتهم النفسية وفرحة أبنائهم، فإن كل سنة تحمل معها تضخما وتوالدا مضطردا في لأعداد هؤلاء «الشناقة»، وتفننا في الأساليب والتقنيات التي يلجؤون إليها لإلهاب الأسعار، والتي صارت حديث العام والخاص في الشارع العريض في مدينة فاس، فمثلا قبيل اندلاع تلك الأحداث لم يتورعوا في استعمال الهاتف النقال للتأثير على عملية العرض والطلب، من خلال التنقيل التعسفي للعرض المتوفر بين أرجاء المدن وأسواقها بما يؤثر على الأسعار في اتجاه . تلك هي الصورة والخلفية الأساسية التي صارت تعد إحدى المسببات الأساسية لاضطرابات الأسواق ومشاكلها، والتي لا يمكن لا يمكن اختزالها في مجرد وجود مجموعة من الجانحين وذوي السوابق العدلية، لأن مثل هذه الظواهر تكون دائما موجودة وعادة ما يحضر «الكسابة» والمواطنون سواء بسواء لاتقاء شرورها والتعامل مع الظرفية التي قد يخلقها هذا الوضع. لا يمكن اختزال الموضوع إذن في هذا المستوى، لأن اختزاله فقط في هذا المستوى، يترك جانبا المعضلات الأساسية والمتمثلة في دور السلطات العمومية والمؤسسات المختلفة التي أناط بها القانون عملية مراقبة الأسواق وحماية الجو المناسب لعمليات البيع والشراء في ظروف عادية ومرضية للجميع. إن توفير هذا الجو المناسب يمكن أن يقتصر على البحث عن قطعة هنا أو هناك وتخصيصها لهذا الغرض والإعلان عن تسمية للأسواق، كما أنه لا يمكن إطلاقا التذرع بوجود قانون العرض والطلب يسري على الجميع، لتنفض السلطة العامة يدها من أية مسؤولية في مراقبة السريان العادي والمنتج والطبيعي لقانون العرض والطلب، فغياب مثل هذه المراقبة وهذا التأطير يحول قانون العرض والطلب إلى نقيضه أي يحول إلى قانون للاحتكار. قد لا يملك المواطنون الشعبيون البسطاء رؤية منهجية في مجال الاقتصاد، ولكنهم يدركون بالحدس أن أسواق الأضاحي في الكثير من الحالات وفي العديد من المدن، لا يحكمها هكذا ببساطة قانون العرض والطلب بصورة تلقائية، بل يتحكم فيها وسطاء يمتهنون فيها بالمناسبة هذه المهنة الطفيلية مهنة «الشناقة» بعيدا عن أية محاسبة أو مراقبة أو زجر، وليس صدفة أن تتردد أحاديث المواطنين في مدينة فاس وشهاداتهم، حول أحداث سوق «بنسودة» قصة تلك السيدة العجوز التي خرجت لا تملك إلا ألف دلاهم، اعتقدت أنها ستكون كافية لشراء خروف صغير، فإذا بها تواجه بذلك اللهيب الكبير للأسعار، فتقضي وقتها وهي تتنقل باكية بين مجموعات قطعان الأغنام أمام تعاطف الجميع من أبناء طبقتها الاجتماعية، الذين كانوا يكتفون بالتأسف لحالها وترداد لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. بالطبع فإن من كان يراهن على حكومة بنكيران في لجم رعونة الأسعار، لا بد أنه سيصاب بخيبة أمل كبرى، وسيكتشف هول وعمق الهوة بين الخطاب الاجتماعي السخي للحكومة الملتحية، وسلوكها الذي لا يختلف في شيء عن سلوك أكثر الحكومات النيوليبرالية التي عرفتها البلاد في فترات سابقة، والتي تركت الحبل على الغارب مكتفية بخطاب اقتصادي فضفاض حول العدالة الاجتماعية والمساواة والتكافؤ. تبقى الإشارة عند استحضار مسؤولية الحكومة الإشارة إلى دور الإعلام على مستوى ما يعرف بالقطب العمومي. لقد كان حري بهذا القطب، أن يضع أمام الناس الحقائق بخصوص حجم الماشية وما يحيط بالموضوع من معطيات إحصائية وما هو متوقع في الأسواق، حتى يكون المواطنون على بينة من الحقيقة، تمييزا لما هو موضوعي من معطيات إحصائية واقتصادية، وما هو مفتعل من قبل الوسطاء والطفيليين. لكن مثل هذا لا لم يحدث وبقينا في نفس النعمة، نعمة الرضا عن الذات والقول بأن الأسواق بخير وأن التموين جيد وبأن لا شيء يدعو للقلق، نفس الخطاب الإعلامي المكرر والذي سئمه الناس. أحداث العنق المؤسفة التي عرفها سوق «بنسودة» ليلة عيد الأضحى، والتي أصيب فيها عدد من المواطنين يجب ألا تكون بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة، يجب أن ننفذ إلى عمق المشاكل وأن نناضل من أجل قانون عرض وطلب حقيقي لا مفتعل.