منذ ميلادها، شهر ماي 1948، تعيش إسرائيل في مناخ جهوي يطبعه اللايقين والحذر الدائمين. فبما أنها تعاني من انعدام العمق الاستراتيجي والضعف الديموغرافي، راهنت إسرائيل، منذ البداية، على درجة عليا من الاحترافية في عمل مصالحها السرية. ويعتبر ذلك ضروريا أكثر بالنسبة لها اليوم بالنظر لعلاقة العداء التي تربطها بمعظم جيرانها، وكذلك لوجود عدد كبير من الفاعلين غير المؤسساتيين الراغبين في دمارها (أبرز هؤلاء حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان ) لذلك، فإن إسرائيل تعمل على ضمان بقائها باعتماد ثقافة متقدمة في مجال الاستخبارات التي ترجع جذورها إلى العهد القديم. إنها جولة في عالم الظل، عتمة التجسس، المؤامرات والخيانات تلك التي يقترحها علينا إيريك دينيسي، مدير المركز الفرنسي للبحث في الاستخبارات، ودافيد إيلكايم، الباحث بنفس المركز والمكلف بالمحاضرات في العلوم السياسية. لقد اعتمدا في كتابهما « المصالح السرية الإسرائيلية: « أمان «، « الموساد « و « الشين بيت «، الثري بالوثائق مقاربة ديداكتيكية ولا انفعالية. بعيدا كل البعد عن الثناء على جهاز أمني إسرائيلي معقد إلى حد كبير، فضلا تفكيكه بشكل دقيق، ودون أحكام مسبقة. ولا يتعلق الأمر عند إلقاء نظرة نقدية على السياسة التي تنهجها حكومة بنيامين نتانياهو المحافظة، بل بفهم كيف بُنيت دولة إسرائيل، مع مرور السنين، كترسانة بإمكانها رد كل الأخطار الخارجية. كعمل غير مسبوق، لم يتوقف الباحثان فقط عند الموساد، مصلحة المخابرات الخارجية التي تأسست خلال خريف 1951، بل فككا أيضا، وعلى نحو معمق، تنظيم وسير الشين بيث ( أو الشاباك، الجهاز المسؤول عن الأمن الداخلي ومكافحة التجسس )، وأمان (الاستخبارات العسكرية) وأجهزة القوى الخاصة، على غرار سايريت 13، نخبة البحرية الإسرائيلية. إضافة إلى كل ذلك، يعرض البحث للمنهجيات المعتمدة من قبل التراتبية الاستخباراتية الإسرائيلية لمواجهة كل التهديدات المقلقة، سواء تعلق الأمر بتسرب عملاء تابعين للعدو، عمليات سرية، اعتداءات محددة الأهداف (يسمونها بحياء « معالجات سلبية «) أو كوموندوهات. ولا يمكن نسيان مفهوم « الحرب الوقائية «، التي استغلها ميناحيم بيغين كمبرر لدمار المولد النووي العراقي خلال شهر يونيو 1981 ( عملية 3 أوبيرا). إن لها بالفعل أهميتها الأساسية في بلد حيث « لا يمثل الانهزام في حرب، خيارا «. هذه المقاربة، التي يرافقها عزم كبير، جعلت مختلف فروع الاستخبارات الإسرائيلية تحقق نجاحات كثيرة، من بينها اغتيال مصطفى حافي، رئيس المصالح السرية المصرية في شريط غزة، سنة 1956 (أول تصفية تقوم بها إسرائيل)، وتصفية عماد مغنية أحد قادة حزب الله، سنة 2008 . وبعيدا عن هذه « الانتصارات « الرمزية - التي تدخل ضمنها حرب الستة أيام (1967) وعملية « غضب الرب « ضد المقترفين المباشرين أو غير المباشرين لمذبحة الألعاب الأولمبية (( 1972 - تكبدت إسرائيل خسارات كبيرة في بعض الأحيان. يقدم الكاتبان جردا غير مكتمل بالتأكيد - خطأ في تقدير حرب رمضان ((1973، محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، في الأردن ((1997 -، إلا أنه يساهم في القضاء على بعض الاستيهامات: ليس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي متعذر الاختراق فقط، بل ليس في منأى عن بعض الانحرافات. وتؤكد ذلك فضيحة المهدي بنبركة (( 1965، المعارض المغربي المختطف بباريس، أو قضية الحافلة رقم 300 ((1984 ، حين أعدم رجال الشين بيث « مقاتلين فلسطينيين، جرحى، ببرودة دم، بأمر من أبراهام شالوم، مدير الجهاز آنذاك. « كما توقف الكاتبان عند البعد الالكتروني للاستخبارات ، المطلوب منها لعب دور حاسم خلال السنوات القادمة، أي في مواجهة إيران. و المسؤول عن هذا القطاع الفائق الحساسية، الوحدة 8200 (أمان) يتمتع بميزانية مريحة إلى حد كبير، واحدة من أهم ميزانيات الساحل، ويعتمد على طاقم بشري عالي الكفاءة، لا يلتحق به سوى الفائق الموهبة في المجال. في هذا السياق، وبينما يمكن أن يأتي الخطر من ساحة المعركة العسكرية أو من الفضاء الافتراضي، كيف سيكون مستقبل المخابرات الإسرائيلية؟ سيكون الأبطال الإسرائيليون في الحروب القادمة... أنظمة معلوماتية وأنظمة الكترونية جديدة ! غزة: دور المخابرات الإسرائيلية إيريك دينيسي - ضابط فرنسي سابق هيأت المخابرات الإسرائيلية للتدخل في شريط غزة، من خلال تحديد مواقع الخَزانات بوجه خاص. وقد تستغرق المعارك مدة طويلة، كما صرح بذلك يوفال ستينيتز، الوزير الإسرائيلي المكلف بمصالح الاستخبارات الإسرائيلية، وواحد من البلدان القليلة في العالم حيث للمصالح السرية وزيرا خاصا بها، ما يؤكد أهميتها، سياسيا كذلك، في عملية غزة. كما يوضح إيريك دينيسي، مدير المركز الفرنسي للبحث في الاستخبارات. إن الشين بيث وأمان هما اللذان أنجزا 80 في المائة من العمل الإعدادي، أي اختراق الشبكات، التعامل مع مخبرين يتواجدون بعين المكان، الاستماع، التعرف على الزعماء، تحديد موقع المستودعات والصواريخ، إلخ. من المؤكد أن الوحدة 504، التابعة لأمان والمتخصصة في الاستخبارات التقنية (التنصت الالكتروني، التقاط الصور وتحليلها ، إلخ )، قد زودت بأهداف محددة الجيش الإسرائيلي الذي دخل غزة والذي سيحاول تدمير خزانات الذخيرة أولا.» إنهم لا يتقدمون بطريقة عمياء أو بالصدفة «، يشير دينيسي. مع ذلك، هل ينبغي أن ننظر إلى « خسارات الطرفين « باعتبارها فشلا للمخابرات؟ « كانت استراتيجية حماس تتمثل في إقحام المواطنين الذكور والسلاح «، يردد إيريك دينيسي ، « لذلك كانت إسرائيل تخبر أحيانا المواطنين المقيمين في العمارات التي تستخدمها حماس، بالاتصال المباشر بهم على هواتفهم المحمولة «. والمؤكد أن المصالح السرية هي التي جمعت تلك الأرقام. مع ذلك، قُتل أبرياء... « كانت إسرائيل تعرف أنها ستخسر حرب التواصل بالصور، مهما فعلت ؛ لذلك، وبعد إخبار الناس، فإن الجيش لا ينشغل بمعرفة إذا ما كان الناس الذين تم إخبارهم استجابوا أم لا «. يرى إيريك دينيسي أنه « حتى لو قال قدماء قادة الشين بيث بأن قمع الفلسطينيين يؤدي إلى المأزق، فإن نتانياهو هو الذي يقرر في مجرى العمليات «. 22 يوليوز 2014 عن موقع المركز الفلسطيني للبحث في الاستخبارات المصالح السرية الإسرائيلية اختراق العملاء لتنظيمات العدو، عمليات تخريب سرية، تصفيات محددة الأهداف، كوموندوهات... وغيرها من المهام التي تتكفل بها المصالح السرية الإسرائيلية، التي تعتبر اليوم من أنجع المصالح في العالم. لكن، هل تمتلك هذه السمعة ما يبررها؟ كيف تشتغل؟ كيف يتم تكوين عناصرها؟ ما هي نجاحاتها وما هي إخفاقاتها؟ الطريقة الوحيدة التي تمكن إسرائيل من تجنب المصير المشؤوم الذي يريده لها أعداؤها، هي استباق أي عمل يمكن أن يقوم به الخصوم. لذلك أكدت إسرائيل منذ بداياتها في مجال الاستخبارات، على العمليات السرية وعلى الهجمات الاحتياطية لإبطال أي تهديد. باعتبارهما متخصصين في الاستخبارات في الشرق الأوسط، يساعدنا إيريك دينيسي ودافيد إلكايم، بكتابهما الصادر خلال شهر أبريل 2014، على فهم مكونات الاستخبارات الإسرائيلية في مجموعها: شين بيت (الأمن الداخلي)، أمان (الاستخبارات العسكرية)، الموساد (الاستخبارات الخارجية)، بالإضافة إلى سايروت (قوات الجيش الخاصة ). يتناول الكاتبان كيفية تنظيم تلك الأجهزة، مختلف الأعمال التي سبق لها القيام بها، علاقاتها بعالم السياسة وفشلها كذلك. ويتطرق الكتاب للعديد من الأجهزة والعمليات التي يتم تناولها لأول مرة: قدرات التنصت والحرب المعلوماتية التي تخوضها الوحدة 8200؛ شبكات المخبرين الموزعين في لبنان؛ « مصلحة عمل « التابعة للموساد؛ الهجمات السرية التي شنتها القوات الخاصة في سوريا بحثا عن أسلحة كيماوية؛ وبوجه خاص الحرب السرية ضد إيران، للحيلولة دون تطور البرنامج النووي لطهران والتحضير لهجمات جوية محتملة. ديودوني: « أشتغل لحساب الموساد منذ 2003» اتخذت قضية ديودوني منعطفا جديدا. خلال هذا الصباح، كان الفنان الساخر، ديودوني مبالا مبالا، المثير للنقاش، يعقد ندوة صحافية مفاجئة قي مسرح « لا مان دور « بباريس. كشف الممثل أنه عمل في الحقيقة، ومنذ أزيد من عشر سنوات، لحساب المخابرات الإسرائيلية. كانت مهمته تتلخص في التسلل إلى الشبكات المناهضة للسامية بفرنسا للحصول على أكبر قدر من المعلومات حولها ومحاولة إضعافها ماليا. ضجة 2002 الثلاثاء، تشير الساعة إلى العاشرة والربع صباحا. فتحت أبواب مسرح ديودوني لكي تدخل أمواج من الصحافيين ومن المعجبين غير المعروفين. امتلأت القاعة عن آخرها، ثم ظهر الفنان المختلف حوله على الخشبة، والجدية بادية على محياه. لا مجال للطرائف أو لمهاجمة الجالية اليهودية. يتحدث الممثل بكل هدوء: « أواخر 2002، اكتشفت بالصدفة أنني سليل الفلاشا، اليهود الإثيوبيين، وقد قضيت سنة محاولا تصديق ذلك. تقبلت الأمر في النهاية وأخذت أفكر في طريقة أخدم بها جماعتي، شعبي. عندها ربطت الموساد اتصالها بي «. فكرت وكالة الاستخبارات الإسرائيلية في طريقة لتشغيل هذا العنصر الجديد. أسابيع قليلة بعد ذلك، اقترحت الموساد على الفكاهي أن يصبح « عاشقا لمناهضة السامية « بتقديم نفسه كشخصية مناهضة لليهود تحت غطاء مناهضة الصهيونية. عملية فوجييل لإطلاق هذه العملية الكبيرة، كان على الموساد وديودوني أن يضربا بقوة. وكانت الضربة هي السكيتش الشهير لديودوني عند فوجييل خلال شهر دجنبر 2003 حيث جسد دور مستوطن إسرائيلي متطرف وهو يوجه تحية شبيهة بتحية نازية. إنه عمل كُتب وتم التدريب عليه، في الحقيقة، بسرية تامة داخل تل أبيب قبل عرضه. بعد عرضه عند فوجييل، انطلقت الآلة وقدم ديودوني العديد من التصريحات الصادمة حيث يهاجم العديد من الشخصيات ذات العقيدة اليهودية. يوم 26 دجنبر 2008، جعل الأخير الكاتب السلبي روبير فوريسون يصعد إلى الخشية مثيرا موجة سخط: « لم أجد ذلك غريبا إلا أن الأوامر هي الأوامر. كلفني ذلك الكثير من الناحية المعنوية، إلا أن العملية دخلت بعد ذلك مرحلة ثانية وأصبح كل مناهضي السامية يتجهون إلي «. يقول ديودوني خلال الندوة الصحافية. كان جهاز الموساد قد جنى كما هائلا من المعلومات بفضل نظام بيع تذاكر مسرح « لا مان دور « عبر القنوات الاجتماعية. « إنه أفضل عناصرنا. في غضون عشر سنوات، جمعنا من المعطيات القابلة للاستغلال على الشبكات المناهضة للسامية، أكثر مما تمكنا من تجميعه خلال نصف قرن. وبكل صراحة، فالسكيتش الذي تناول السرطان غريب جدا «، صرح الناطق الرسمي للموساد في مكالمة هاتفية. كانت الدعامة الثانية لهذه العملية تقوم على إفراغ الصناديق المناهضة للساميين التي أخذت تجمع حول الفكاهي الذي تحول إلى جاسوس. من هذا المنظور، عمل ديودوني على تأطير مجموعة من السلع الموجهة للتسويق كالقمصان القصيرة، الاٌقراص المدمجة. الأمر الذي أفضى إلى توقيع اتفاقية بين الفنان وإدارة الموساد: يحتفظ الفكاهي ب 50% من مداخيل المبيعات كتعويض له على المصاريف في إطار الخدمة التي كان يقدمها. إنها استراتيجيا مربحة. للدفع بالعملية أبعد، اشترك ديودوني مع أرنو كلاسفيلد، المحامي ابن العائلة التي اشتهرت ب « مطاردية النازيين «. « قبل أرنو مشاركتي اللعبة بأن يصبح عدوي المزيف. إنه رجل وطني. لولاه، لما ظهرتُ كمناهض للنازية بالشكل الذي ترسخ في عقول الناس «. أخيرا، ولضمان حسن سير العملية، ألحق جهاز الموساد بديودوني ضابطا عميلا سيحمل خاصيات جاكي، المحافظ المزيف للفكاهي، وبينما هو في الحقيقة قبطان في الجيش الإسرائيلي وابن أخ أرييل شارون. إنه مكون إضافي جعل الخدعة تنطلي على فرنسا كلها. الكذب المتعب لماذا إذن وقف عملية الاستخبارات وهي في أوج عطائها؟ يقدم السيد مبالا مبالا جوابه في نهاية الندوة الصحافية: « لقد تعبت وسئمت أن أواصل الكذب على كل هؤلاء الناس الذين أصبحوا معجبين بي والذين قمت ببيعهم لجهاز الموساد. كل سكيتشات الحقد على اليهود جعلتني أشعر بالاشمئزاز. أرغب في تقديم عرض حول الأحذية الرياضية مثلا ». من بين الأسباب كذلك، الإجراءات المتخذة ضده من قبل مانويل فالس وعمدات مختلف المدن التي كان يفترض أن يقدم ديودوني عروضه بها : « قرر ألان جيبي منع عرض ببوردو. إذا أصبحت أشعر أنه أصبح يتعذر علي مزاولة المهنة التي اعتبرها ولعي الحقيقي، فعندها ينبغي وقف هذه العميلة. إنها الحدود التي رسمتها لنفسي «. كان ألان سورال أول شخص من محيط ديودوني يرد على كشف الحقيقة. عبر الدارس المثير للنقاش بغضب من كونه تعرض للخيانة من رفيق درب إيديولوجي، إلا أنه لا يندهش لذلك: « لقد سخر منا جميعا حين كان يطلب منا أن ندفع ضرائبه قبل أن تعتقله العدالة. لدينا الدليل اليوم على أن مناهضة السامية نفسها، مؤامرة يهودية «، كتب سورال على موقع العدالة والمصالحة.