صدر يوم فاتح أكتوبر الجاري، ضمن منشورات دار النشر الفرنسية «غراسي» كتاب مشترك وقعه كل من الكاتب والباحث الكبير ريجيس دوبراي والصحفي رونو جيرار. وعلى هامش توزيع المؤلف، الذي يحمل عنوان «ما الذي تبقى من الغرب؟»، أجرى الصحفيان ماري-لايتيسيا بونافيتا وفانسون تريمولي دو فيليي حوار مطولا مع المؤلفين، نشرته يومية «لوفيغارو» في عدد المؤرخ في 28 شتنبر 2014. نقترح على القراء الترجمة الكاملة لهذا الحوار الذي تناول قضايا الشرق والغرب، والحركات الإسلامية المتطرفة وتنظيم الدولة الإسلامية، مثلما تناول جوانب عديدة من صراع الحضارات. لوفيغارو: بماذا يوحي لكما اغتيال الرهينة الفرنسي هيرفي غورديل من طرف جهاديين جزائريين؟ رونو جيرار: للأسف، هذه التصفية ليست سوى حلقة من حلقات «حرب المائة سنة» بين الإسلاميين المتطرفين والغرب، وهي حرب قديمة. لقد انطلقت من خلال الاستيلاء على مسجد مكة الكبير من قبل جماعة إسلامية متطرفة في سنة 1979، وتم إنهاء العملية عن طريق تدخل لفرقة التدخل التابعة للدرك الوطني الفرنسي. الأممية الإسلامية ليست حديثة، وهي تشغل عن طريق «حق الامتياز». في السابق، كان بن لادن هو من يسلح الجماعات الصغيرة الممنوحة الامتياز، أما اليوم، فالخليفة إبراهيم هو الذي يقوم بذلك. لقد رأينا، على سبيل المثال، كيفية اشتغال الأممية الإسلامية في أفغانستان منذ سنوات 1980، مثلما عايناها في طاجكستان والشيشان خلال سنوات 190. التزمت الإسلامي العنيف ليس حديث العهد في الجزائر كذلك، حيث خلفت الحرب الأهلية لحقبة 1990 أكثر من مائة ألف قتيل. لا يمكننا، في هذه الحرب إلى حد الموت التي تجعلنا في مواجهة المتزمتين السنة، أن نسمح بتسلل أدنى نقطة ضعف إلى صفوفنا. أتأسف على فرنسا أدت، في السابق، مبالغ مالية كفدية لهؤلاء المجرمين، وهي الأموال التي سمحت مثلا لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بتجهيز نفسه والتحول إلى جيش حقيقي في الساحل. الموقف المحترم والفعال عفي المدى البعيد هو موقف الحكومة البريطانية التي لا تدفع أبدا فديات. ريجيس دوبراي: أنا عائد التو من الصين، ولم أعرف الخبر إلا الآن، علما أنه ليس من طبيعتي التعليق على الأحداث في حينها. لنقل إن رد فعل مسلمي فرنسا يعتبر تعزية كبيرة، وإذا سمحتم لي بأخذ مسافة مع الأحداث، مثل رونو، فإنني سأرجع الأمور إلى حوالي ألف سنة وليس إلى مائة عام. لقد انطلقت أول حملة صليبية سنة 1906 في كليمون، لتليها الكثير من الفظاعات من كل طرف كم الطرفين. لوفيغارو: عل يبرر إعلان الجهاديين الجزائريين عن ولائهم لتنظيم الدولة الإسلامية أكثر إنشاء التحالف الغربي والعربي الحديث لمواجهة الإرهاب؟ ريجيس دوبراي: إن ما أطلقت عليه اسم التحالف الدولي، يشار إليه طرف الصحافة الدولية بنعت أكثر واقعية «التحالف الذي تقوده أمريكا». وبما أن الراية ذات النجوم تولد مشاعر عدائية بالأحرى، مثلها مثل الدولة الإسلامية المزعومة، فإن هذه القيادة ليست أفضل ضمانة للنجاح. أما الأنظمة العربية التي جندت نفسها في القضية في غياب أي قرار للأمم المتحدة، فإنها تزين اللوحة، لكنها الأكثر رجعية والأقل ديمقراطية ما يجعل الرفقة هذه غريبة. رونو جيرار: وجود هذا التحالف أمر جيد. وسيكون الوضع أفضل لو كفت تركيا عن اللعب على الحبلين وتوقفت عن مساعدة الدولة الإسلامية سريا. لكنه علينا ألا نعتقد في السراب: ليست طائراتنا بطيار أو بدونه هي التي ستقضي على الإسلام المتطرف والعنيف في العالم الإسلامي. لن يجتث هذا الورم إلا من طرف المسلمين أنفسهم، على غرار المسيحيين الذين ألغوا بأنفسهم محاكم التفتيش وقرروا بأنفسهم عدم الاستمرار في تلقيب اليهود بالشعب «قاتل الإله». يمكننا أن نساعد بين الفينة والأخرى الشعوب المسلمة على محاربة عدم التسامح والتزمت الديني، لكنها هي التي ستقوم أو لن تقوم بالإصلاح في بلدانها. إن القبائل السنية في شرق سوريا وغرب العراق هي التي ستمل من مجانين الدولة الإسلامية القتلة وتقوم بتصفيتهم. والشيء الوحيد الذي باستطاعتنا فعله في انتظار ذلك هو مساعدة دول المنطقة في سياساتها الرامية إلى احتواء هذا الداء. لوفيغارو: هل الحركات الجهادية الدولية هي العدو الجديد للغرب؟ ريجيس دوبراي: هل يمكننا اعتبار أن 10 آلاف أو 12 ألف فرد في صحراء يشكلون تهديدا مماثلا للرايخ الثالث؟ نهم سيلجأون إلى المدن لتنطلق الحفلة: الغرغرينة والهجمات المضادة المفاجئة. الحقيقة أنه بدون الشرق لن يكون هناك غرب. إننا نمتلك مع هؤلاء المجانين الغاضبين مصدر نبذ ممتاز، ومن قبل كان لدينا البيزنطيون والعثمانيون والمتوحشون والخطر الأصفر والاتحاد السوفييتي. الأمر لن يتوقف والسلفية عدو، أولا، للمسلمين. وبدون الخلط بينها وبين حركات جهاد المقاومات الوطنية، فإن الحركات الجهادية الشمولية والمصابة بالهذيان قد قتلت عددا من أبناء ديانتها يفوق بكثير ما قتلته من الغربيين. إن الانحياز إلى صف الملكيات البترولية ضد العالم الشيعي موقف لا منطقي ثقافيا وسياسيا. أما إيران، التي تحرك خيوط اللعبة في بغداد، فستنصر في هذه القضية في نهاية المطاف بدون أن تكون مضطرة لدفع أدنى مقابل، هنيئا لها إذن على دهائها! رونو جيرار: يجب الاحتراز للتمييز بين أصناف مختلفة من صراعات الحضارة. لبعض هذه الحضارات رؤية مختلفة فحسب حول تنظيم المجتمع. فروسيا بوتين لا تهتم مثلنا بالحرية الفردية وتفضل عليها هيبة المصير الجماعي. وهناك من جهة أخرى الصراعات التي تخلق حروبا قاتلة مثلما كان عليه الحال بين الغرب والنازية. الحركة الإسلامية العالمية تندرج ضمن هذا المنطق الأخير، فهو يسعى إلى تدمير قيمنا ويكره كل ما نمثله، أي الديمقراطية والمساواة بين النساء والرجال والتسامح الديني واحترام اللاأدرية، بل وحتى العلمانية. إن عدم الإيمان جريمة في السعودية، وكل من ارتد عن الإسلام واعتنق المسيحية يحكم عليه بالإعدام بتهمة الردة. أنا لن أقلل، مثل ريجيس، من الخطر الإسلامي. وإذا كان عدد الفرنسيين الذين ذهبوا للقتال في سوريا والذي صرح به رئيس الجمهورية صحيحا، فإنه عدد كبير، إذ ثمة خطر كبير يكمن في عودة هؤلاء الأشخاص إلى أراضينا قصد إطلاق النار من الرشاشات على أطفالنا حين مغادرتهم للمدرسة! لنتذكر بأن إسبانيا عرفت عقودا من العنف بسبب 250 أو 300 مناضل مصمم في صفوف منظمة إيتا. لوفيغارو: هل المانوية (الاعتقاد في الصراع بين النور والظلام) مضرة بالدبلوماسية الخارجية؟ رونو جيرار: المانوية نتيجة لدكتاتورية الانفعال، ولكن كذلك الجهل. هل نعلم أن الشيعة يقبلون بوجود عدة مدارس تفسيرية؟ وفي العراق، فإن أكبر مرجع شيعي معاصر، علي الحسيني السيستاني يرفض «ولاية الفقيه» التي هي نظام الحكم اللاهوتي في إيران. المنوية هي أيضا الإيمان بالتفوق المنهجي للغرب. أجل، إن هذا الأخير يمتلك قيما قوية مثل دولة الحق والقانون واحترام المرأة، لكنه ما زال يعرف سلوكات بربرية، وهاصة في أوربا العتيقة، سلوكات فظيعة من قبيل التخلي عن المسنين خلال فصل الصيف للتمتع بعطلة مريحة. يجب على الغرب العودة إلى فضيلة «اعرف نفسك بنفسك» لسقراط. وعليه أيضا أن يعرف بشكل أفضل تاريخه وتاريخ الحضارات الأخرى. - ريجيس دوبراي: يبدو أحيانا، مع أوباما، أكثر انتماء لأوربا منا، نحن الذي استوردنا أسلوب رعاة البقر المتمثل في: مواجهة الفضلاء للأشرار. إن النزعة الأخلاقية الإعلامية تعتمد على وجود اللونين الأبيض والأسود فقط، كما أن صناع القرار يوثرون الانفعالات اليومية، ورغم أن هذا أمر مبرر ، فإنه لا يصنع سياسة. ليست قوة الغرب، علما أن هذه الكلمة مدخنة، هي أسلحته، بل هي مساءلة الذات والفضول إزاء الآخر. لقد أبدعنا الإثنولوجية، وهذا الغرب الثقافي هو غرب مونتيني وليفي-ستراوس وإدوارد سنودن.وبما أنني سليل هؤلاء وفخور بذلك، فإنني أحارب العنصرية الحضارية التي يمكن وسمها بالنزعة الغربية، تلك النزعة التي يعتبر عدم اعتناقها لمدة طويلة من طرف فرنسا شرفا لهذه الأخيرة. هل خرجت أوربا من التاريخ؟ ريجيس دوبراي: بعد أن طوال خمسة قرون محركا للتاريخ، عن الطريق الدم والجهد، تطالب أوربا اليوم بحقها في التقاعد. ما تولد عنه تلك الآلة المضادة للسياسة التي هي الاتحاد الأوربي، والتي تفتت الدول القومية وتبخس المواطنين إلى وضع مستهلكين. أنا لا أتحدث هنا عن أوربا ال 6 أو ال 12، بل عن تلك الطبقة الهيولية البرانية المكون من 28 عضوا، أي القوة الاقتصادية الأولى في العالم التي ترغب في التحول إلى سويسرا عملاقة بدون التجنيد العسكري. إن فرنسا السيد ساركوزي، ومعها توأمتها فرنسا السيد هولاند، قد التحقت بالقيادة المشتركة للحلف الأطلسي الذي كان الجنرال ديغول يصفه ب «آلة مواراة السيطرة الأمريكية». ليقولوا لنا إن كان ديغول قد كذب، ووداعا للاستقلال في إطار احترام القانون الدولي! - رونو جيرار: أعتقد أن أوربا تمثل اكبر نجاح سياسي في القرن العشرين، وذلك منذ إنشائها. ومع ذلك، فإنها ضلت السبيل لاحقا لتتحول، في إطار علاقتها بالولاياتالمتحدةالأمريكية، من وضع الحليف إلى وضع التابع. هذا ليس فقط مؤلما بعض الشيء بالنسبة لكرامتنا، بل أيضا معاكسا لمصلحة أمريكا نفسها. كان ديغول يعرف كيف يجعل صوته مسموعا، كما حدث ذلك خلال ندواته الصحفية حول الدولار والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، أو خلال خطبه في بنوم بنه وكيبيك... وإذا كان التاريخ قد أبرز أن الجنرال كان على حق، فإن أول من زاره نيكسون عقب انتخابه رئيسا للولايات المتحدة هو شارل ديغول. ليست فرنسا اليوم تابعا فحسب، بل بل كذلك معرضة لسوء المعاملة. كيف نقبل أن يدفع البنك الوطني لباريس 9 مليارات دولار كغرامة بسبب تمويله لتصدير السيجار الكوبي؟ هل ما زال الإغراء الأمريكي ساري المفعول؟ ريجيس دوبراي: لقد خسرت أمريكا جميع الحروب العسكرية التي خاضتها منذ 45 سنة ?مع تخفيف الحكم هذا بالنسبة لحرب كوريا?، لكنها كسبت كل حروبها الأخرى: حروب الذهنية والمتخيل والمعايير التقنية والتكنولوجيات والعملات والمعارف والأحلام. وهي، بهذا المعنى، رسمت معالم الحداثة القصوى المعاصرة. وهذا يولد ظواهر لفظها ورفضها، وخاصة من طرف الإسلاميين. هل يمكن لهذه الهيمنة أن تستمر في الأجل المنظور؟ الجواب هو النفي بالطبع! لم يكن البرابرة يريدون تدمير روما، لكنهم فعلوا ذلك عن طريق اندماجهم فيها، وليس من المستحيل أن يحدد الأمريكيون اللاتينيون والأفارقة والصينيون ملامح مغايرة للمركز الإمبراطوري. رونو جيرار: رغم أن الولاياتالمتحدة خاضت 174 حربا وتتوفر على ميزانية عسكرية تصل إلى 600 مليار دولار، فهذا ليس كافيا. قوتها الحالية تتمثل في جامعاتها ?يال وهارفارد برينستون وستانفورد، الخ?، وهي الجامعات التي تسعى جميع النخب العالمية لتسجيل أبنائها فيها، سواء كانت تلك العائلات صينية أو منتمية للعالم الإسلامي، وسواء كانت منحدرة من أوربا العتيقة أو من أمريكا اللاتينية...