يتابع يوسف فاضل في روايته الجديدة «مثل ملاكٍ في الظلام» (دار الآداب، 2018)، رسمَ عوالمه المستوحية لهوامش المجتمع ضمن تقنياتٍ مُميّزة في السرد وفي توظيف لغةِ الكلام، متوخياً إبراز تلك العلائق الكاشفة بين الهامش والمركز… في «مثل ملاكٍ في الظلام»، يستفيد الكاتب من خبرته في كتابة السيناريو، فيقسم زمنَ النص إلى تاريخيْن: أحدهما، يحيل على 12 نوفمبر 2012 أي الحاضر الذي تنطلق منه أحداث الرواية، والآخر يمتد من 12 أبريل إلى 15 يوليو 1958، وهي الفترة التي دارت فيها أحداث الرواية. في الزمن الأول تطالعنا ثلاث شخصيات ارتادت فترة الكهولة والشيخوخة، هي: إدريس الأول وإدريس الثاني، ضابطا الاستعلامات اللذان أوفدهما القصر الملكي للبحث في منطقة الصحراء وما جاورها، عن العبد الناقص من لائحة العبيد المخصيين الذين يضطلعون بمهمة مرافقة نساء القصر؛ وشخصية نافع الأسود الذي كان ساعي بريد في مدينة كلميمْ ومُنخرطاً في حركة المقاومة…هم الثلاثة، على اختلاف مواقعهم، جمعتهم الظروف ومخيلة الكاتب، في الدارالبيضاء حيث يتسلون بركوب الترمواي الجديد وهو ينطلق في أول رحلة له. أما زمن ماضي الرواية الأطول، فتدور أحداثه في مدن الهامش المتاخمة للصحراء المغربية: كلميم، آسّا، ورزازات، إيفني… حيث تعيش أسرة نافع المكونة من الأب «بابا» الذي يعود أصله إلى مملكة الداهومي، والأخ سائق الشاحنة الملقب بالدّابة، والأم، وكذلك أسرة الفتاة البيضاء التي عشقت نافع وأمها وابنة خالتها، وشخصيات القايد بوزيدْ والمعلم بْراهيمْ، وفندق الحظ السعيد وصاحبته مدامْ جيجي…ويتوزّع الحكيُ على محوريْن: أحدهما يتابع مهمة ضابطيْ الاستعلامات في بحثهما عن العبْد الآبِق الذي يجب خصيُه قبل نقله إلى القصر، والمحور الثاني يسرد مسار نافع، ساعي البريد في عمله وترصُّده للقايد قبل اغتياله، وأيضاً في مغامرته مع البنت البيضاء التي تعلقت به وَهربتْ معه إلى الدارالبيضاء. يسير السرد في خطوط متوازية على لسان كل واحد من تلك الشخصيات، مع وقفات قصيرة عند تاريخ حاضر الرواية (12 نوفمبر 2012) تُروى بضمير الغائب. وما يلفتُ النظر، أن شكل السرد يضطلع بدورٍ أساس في تحديد أبعاد الدلالة والارتقاء بوعي الشخصيات الهامشية، ليصبح وعيا يضيء مسارها ويُعبّر عن عواطفها بصورةٍ تبدو أعلى من مستواها الفكري. ذلك أن الكاتب يلجأ إلى ما يمكن تسميتُه السرد الافتراضي الذي يضيف صورا مُختلَقة، مُفارقة لسياقِ جَرَيان الأحداث، فيكتسب السرد بُعداً سُريالياً يضيء الدلالة ويُضيف إلى غناها. فنحن نجد، مثلاً، نافع وهو يتحدث عن شجرة الأركان، يُضفي عليها روحاً وإحساساً: «شجرة الأركان شجرة صحراوية، تتفتح في السّر، وتزهِر في السرّ. هكذا أراها دائماً مُكتفية ومنطوية على نفسها، ولا تضحك سوى مع نفسها؛ ربما لأنها تكبر من دون حاجة إلى ماء» (ص144). وفي سياق آخر، يلجأ نافع إلى تخيلات تضيف إلى لحظة اغتيال القايد بوزيد أبعاداً أخرى: «… طائر في حجم الديكِ الرومي، جناحاه كبيران كالخيمة، رمَيا فوقنا ظلمة حجبتْنا جميعاً لِثوانٍ طويلة طويلة، أطول من الوقت الذي يحتاج إليه أيّ رجل ليستغفر عن كل ذنوبه. وهذا ما حدث. استمرّ القايد ينظر مفتوناً إلى الطائر الذي استقرّ فوق فرع شجرة كثيرة الضوء، وراح يُراقبه ناسياً ماضيَه وحاضرَه، قبل أن تنطلق الرصاصتان وتستقران في رأسه وقلبه، ويخرّ على وجهه (ص235)». الهامش يُضيء المركز داخل فضاءات نائية عن المركز، عن عاصمة المغرب ومُدنه الكبرى، وعبْر شخوصٍ هامشية، ينسج يوسف فاضل حكاياته التي تستوحي عناصرها من ذلك الواقع المنسيّ، وتضفي عل السرد حُلة مطرّزة من تفاصيل مُتخيّلة وافتراضات سُريالية، فيغدو النصّ الروائي ضاجّاً بالأصوات والنماذج الكاشفة لحقيقةِ ما هو بعيد عن الهامش، وأقرب ما يكون إلى المركز المُحاط بهالةٍ من التقاليد العتيقة والهيْبة المخزنية المخيفة… ووسط هذا النسيج الروائي الزاخر، تبرز ثيمتان تتصل إحداهما بوضعية السودِ، العبيد في جنوب المغرب، وما يصاحب ذلك من عنصرية متغلغلة في لاوَعي السكان البيضِ الذين ألفوا التعالي ونظرة الاحتقار إليهم…ثم المسألة الثانية المتصلة بإجهاض مشروع جيش التحرير الذي نذر نفسه لتخليص الصحراء المغربية من بقايا الاستعمار الإسباني. وهذه قضية مفصلية في تاريخ المغرب الحديث الموسوم بذلك الصراع الساخن بين الملَكية المخزنية والقوى الوطنية الحريصة على استكمال شروط السيادة… عن الموضوع الأول، تطالِعنا فقراتٌ تصور وضعية السودِ الحراطين في المناطق الهامشية، على لسان «نافع» موزع البريد، الأسود: «هذا حيّ لا يمكن مغادرة المدينةكلميم من دون زيارته. ستبقى رحلتكم ناقصة من دون إطلالة ولو سريعة على هذا الحيّ، حيّ السود، هذا المعلم التاريخي. كل تاريخ المدينة هنا، خلف هذه الجدران كنهايةٍ لا تكتمل الرحلة من دونها. الأزقة الضيّقة والدهاليز المعتمة التي يسكنها السّودُ. لا جنس غير الجنس الأسود. يحلّ الليل بمجرّد الإطلالة عليه. حيّ كامل لا يسكنه غير السودِ، كما هي الحال في زاكورة أوْ ورزازاتْ، وفي كل المدن التي مرّتْ بها قوافلُ العبيد…» (ص 126). ونقرأ على لسان نافع وهو يحكي عن أبيه الذي أصلُه من مملكة الدّاهومي: «الوالد الذي نسمّيه «بابا» ما زال يحتفظ في جيْبه بالأوراق التي بيعَ بها، بكلّ التفاصيل. الثمن مكتوب أمام كل صفقة. المكان وتاريخ الصفقة وثمنها. كل شيء مُسجل. (منذ الصفقة الأولى في 1900 حتى آخر صفقة في سنة 1924). وحتى بعد هذه السنة فإنه ظلّ ينتقل لسنواتٍ بين أسواق العبيد السريّة بعد أن أصبحت السوق الرسمية مهجورة» (ص141). ويمكن أن نعتبر مهمة ضابطي الاستعلامات الموفديْن من القصر الملكي إلى الجنوب بحثا عن عبدٍ يُخصى، جزء من مسألة العنصرية تجاه السود. وقد خصص الكاتب عدة صفحات لوصف الإخصاء الذي يمارسه الضابطان على الكلاب والبشر… ويشخص مآلُ «نافع» ساعي البريد والمقاوم الذي طُلب منه تصفية القايد، انتصار «المخزن» وعودة سلطته الأوتوقراطية بعد الاستقلال، إذ نجح في حلّ جيش التحرير ومطاردة المقاومين الذين رفضوا إلقاء السلاح. من ثمّ كان اعتقال نافع وإيداعه السجن حيث علِم بانضمام المقاومة إلى الجيش الرسمي: «دار المفتاح في القفل وظهر مبارك فرحا بكسوته الجديدة. يضحك ويُشير إلى الشارة على صدره. ذلك بأنهم ينتمون الآن إلى القوات المسلحة الملكية. نعم، قايَضوا النعال المُرتّقة بأحذية عالية العنق؛ والبنادق لم تعد مشدودة بالأسلاك» (ص357). إلا أن خيوط الدلالة في هذه الرواية لا تكتمل إلا باستحضار قصة الحب العارم بين نافع والفتاة البيضاء ذات اللغة المبتورة التي لا نجد لها اسما، لكنها حاضرة كملاكٍ مضيء يبدد الظلمة التي تكتنف المنطقة، ويمنح للمحبوب القوة ليقاوم العقبات التي تُحرّم الحب بين إنسانيْن من لونيْن مختلفيْن. ومن أجل الحب، رضيت «البنت المسكونة» كما كانت تسميها أمها، أن تتزوج نافع الأسود وتعيش معه في بيت صغير بالدارالبيضاء حيث أصبح يعمل بواباً لعمارة يسكنها الأغنياء…ولعل هذه النفحات الرومانسية التي تتخلل فصول الرواية بِلُغتها المجنّحة، هي التي تسمح بتسريبِ بذور وعيٍ متمرد داخل فضاءات ترزح تحت وطأة العنصرية وسطوة تقاليد السلطة البالية. لقد أضاف يوسف فاضل بكتابته «مثل ملاكٍ في الظلام» إلى مُنجزه الروائي دعامة كبيرة تسهم بقوةٍ في بلورة مقاصده السردية والشكلية والجمالية، وتؤكد اهتمامه المتواصل باستيحاء الموضوعات والأسئلة التي يُهملها التاريخ الرسمي.