لا يختلف اثنان حول الدور الباهت الذي تلعبه المرأة في الشأن السياسي الحالي في كل الأقطار العربية عامة والمغرب خاصة. ولعل كل مهتم بهذا المجال، وكل مطلع على دور المرأة السياسي ونضالها في العصور الماضية خاصة عصر الجاهلية، وعصر صدر الإسلام يطرح السؤال: ما الذي جعل المرأة العربية تتراجع عن دورها الريادي في هذا المجال؟ ونحن نستحضر دور المرأة السياسي في هذا المقال، ارتأينا من الأفضل أن نقف عند هذا الدور في عصري الجاهلية، وصدر الإسلام. وذلك للأسباب التالية. أولا، لأنهما عصرا بيئة ثقافية اتسمت بسيادة العقلية الذكورية التي كانت لا ترى في المرأة سوى أنوثتها التي يجب أن تستغل من لدن ذكورة الرجل داخل البيت. وثانيا، لأنهما عصرا بيئة سياسية بامتياز، نظرا للحروب الطاحنة بين القبائل التي عرفها عصر الجاهلية، والفتوحات والصراعات حول الخلافة التي شهدها عصر صدر الإسلام. وثالثا لأن المرأة استطاعت أن تلمع صورتها، وأن تكسر الصورة السلبية التي كانت في ذهن الرجل عنها رغم هذه الثقافة التي كانت تحاصرها، ورغم هذه البيئة السياسية التي كان الكثير يعتقد أنها حكر على الرجل ولا دخل للمرأة فيها. في هذه الظروف المذكورة، التي تبتعد كثيرا عن الظروف الحالية، برزت المرأة ككيان له قدرات ذاتية وفكرية خولت لها المشاركة والمساهمة في الأحداث التي كانت تشهدها الساحة السياسية. ويتجلى ذلك في مشاركتها في الحروب الطاحنة، كذات فاعلة، جنبا إلى جنب الرجل دون استحضار الفرق الفيزيولوجي الذي يميزه عنها، من ناحية. ومن ناحية أخرى، بفرض رأيها السياسي ببلاغة وفصاحة وجرأة لا تقل عن جرأة الرجل، بعدما فطنت بذكاء إلى وقع الكلمة على النفوس، ودورها في شحذ الهمم. وتذكر كتب التاريخ والأدب هذه القدرات رغم التشويش عليها من لدن بعض المراجع الأدبية، التي حصرت كل ما جادت به قريحة المرأة، في باب الرثاء دون ذكر ما جاء في الأبواب الأخرى. وكأن المرأة ما خلقت سوى للبكاء وتعداد خصال الميت وشمائله، والتضرر حزنا بسبب الانفصال والفراق الوجداني. وتعد حماسة أبي تمام والبحتري من الأقدمين، ومختارات البارودي وأمثاله من المتأخرين، أبرز دليل على هذا التشويش، إذ تكاد تخلوا من أسماء النساء الشاعرات عامة، ومن الشعر السياسي للمرأة خاصة. وتعد الشموس حسب المراجع التاريخية، أول امرأة في الجاهلية ساهمت في التغيير السياسي وفي الثورة على الظلم والاستبداد والطغيان، وذلك من خلال تقريع قومها وشحنه واستنهاض هممه من أجل الثورة على الطاغية عمليق ملك طسم بعدما استشعرت ظلمه وجوره. هي القائلة: أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم وأنتم رجال فيكم عدد النمل وتصبح تمشي في الدماء عفيرة جهارا وزفت في النساء إلى بعل ولو أننا كنا رجالا وكنتم نساء لكنا لا نقر لذا الفعل فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم وذبوا لنار الحرب بالحطب لجزل وإلا فخلوا بطنها وتحملوا إلى بلد قفر وموتوا من الهزل فللبين خير من مقام على الأذى وللموت خير من مقام على الذل وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه فكونوا نساء لا تعيب من الكحل ودونكم طيب النساء فإنما خلقتم لأثواب العروس وللغسل فبعدا وسحقا للذي ليس دافعا ويختال يمشي بيننا مشية الفحل حشدت هذه الأبيات عزائم القوم، وأوقدت نخوة الرجال، فقاموا لمحاربة عمليق في معركة كان النصر فيها لقوم شموس، التي أدركت بوعيها المتقدم دور المرأة في مناهضة الظلم، وفي التغيير، وفي استثبات العدل وعدم الطغيان. وشاركت المرأة في عصر صدر الإسلام في بيعة الرسول محمد (ص) عند دخوله إلى مكة، مشاركة سياسية تلتها مشاركات أخرى تمثلت خاصة، في التجاذب السياسي بين الخليفة معاوية، وعلي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول. ودون شعور بأي نقص، أدلت المرأة برأيها بكل استماتة وثقة في النفس. فبرزت الزرقاء بنت عدي ذات اللسان الفصيح، والرأي السديد والعقل الرزين كما تقول مصادر التاريخ والأدب العربيين، مناصرة لعلي رأيا وفعلا، مظهرة مناصرتها له، بخروجها يوم معركة (صفين) للدفاع عن قناعتها دون أن تضع في حسبانها أن القتال حكرا على الرجال لا النساء، كما يروج له، فكانت من بين المقاتلين والمحرضين على القتال، قائلة: « أيها الناس إنكم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم ودارت بكم عن المحجة فيالها من فتنة عمياء صماء تسمع لنا عقها ولا تسلس لقائد ما، إن المصباح لا يضيء في الشمس، وإن الكواكب لا تنير مع القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، وإن الزن لا يوازن الحجر ولا يقطع الحديد إلا الحديد». وهي القائلة أيضا: «ألا أن خضب النساء الحناء وخضب الرجال الدماء والصبر خير عواقب الأمور. أيهًا إلى الحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين فهذا يوم له ما بعده». واعتبرها معاوية انطلاقا من أقوالها، وخروجها إلى المعركة، مشاركة لعلي في كل دم سال في هذه المعركة. وقامت أم الخير بنت الحريش البارقية، التي تعد هي الأخرى من ربات الفصاحة وحرية الرأي، بالدور نفسه. حيث تذكر كتب التاريخ، أنها كانت على جمل أرمك، كالفحل يهدر في شقشقته، وبيدها سوط يوم قتل عمار بن ياسر، وهي تقول: «أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق وتعطل الحدود ويظهر الظالمون وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون رحمكم الله.» وناضلت ودافعت بكارة الهلالية عن قناعتها بأحقية علي للخلافة، وأرسلت ابنها إلى ساحة المعركة دون أن تخشى عليه من القتل، وخاطبته قائلة: « يا زيد دونك فاستشر من دارنا سيفا حساما في التراب دفينا قد كان مذخورا لكل عظيمة فاليوم أبرزه الزمان مصونا وتذكر كتب التاريخ أن أم البراء بنت صفوان دخلت على معاوية بشجاعة الرجال، دون خوف، ودون خشية رد فعله، على مناصرتها لعلي، بعدما شاركت في معركة صفين إلى جانب أخيها عمرو، مقاتلة ومشجعة على القتال قائلة: يا عمرو دونك صارما ذا رونق عضب المهزة ليس بالخوار اسرج جوادك مسرعا ومشمرا للحرب غير معرد لفرار أجب الإمام ودب تحت لوائه وافر العدو بصارم بتار تعد هذه النماذج القليلة التي ذكرنا في هذه المقالة، لإبراز دور المرأة السياسي، من الصفوة النسائية، التي تؤرخ لقدرة المرأة على التعبير عن موقفها السياسي بكل سداد وفصاحة وبلاغة وجرأة، وعلى مساهمتها الذاتية، والفكرية في صنع القرار، ودورها المؤثر داخل بيئة ثقافية تختلف كل الاختلاف عن البيئة الحالية. هذه البيئة التي تتسم بتحرر العقليات من بعض الممارسات التي تحد من طموح المرأة، وتتوفر على العديد من القوانين التي تتبناها وتقرها مؤسسات جل الدول العربية وضمنها المغرب، والتي تدفع في اتجاه المشاركة الفاعلة للنساء سياسيا. وعلى الدساتير التي تنص على المساواة بين المرأة والرجل، والعمل جنبا إلى جنب في كل مناحي الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية. بيئة توجد فيها كل معايير الحياة السياسية، كمبدأ المواطنة القائم على عدم التمييز في المشاركة في صنع القرار بين النساء والرجال. ومع ذلك خفتَ صوت المرأة، وانتكست مساهمتها حتى أصبحت على هامش الحياة السياسية. وبعدما كانت تسعى إلى المشاركة، أصبحت الأجهزة السياسية تسعى إلى إشراكها. ربط العديد هذه المفارقة بالمعيقات النفسية التي وضعها الرجل بوعي منه أو بغير وعي، أمام المرأة، من خلال خلق ثقافة الحريم التي تعززت أكثر في عصور التراجع والانحطاط. ثقافة غيرت نظرة المجتمع إلى المرأة، ونظرة المرأة إلى نفسها، وأقصت معها نفسها بتواطؤ مع نفسها في كل مجال لا يخدم ويعزز هذه الثقافة، خاصة في السياسة، مستسلمة كلما قالوا لها أنت لست قادرة، ولست مؤهلة في هذا المجال بالذات، ومستكينة إلى الدونية التاريخية التي ورثتها عن أجيال ما بعد الجاهلية وعصر صدر الإسلام، رغم أنها كشفت عن قدرات فكرية تفوق أحيانا قدرات الرجل في مجالات أخرى عديدة. قدرات تخول لها استرجاع مكانتها السياسية إذا عادت إلى ذاتها، وتخلصت من الإقصاء الذي مارسته على ذاتها، واستردت ثقتها في نفسها وفي إمكاناتها، ورفضت كل أشكال الوصاية التي تنبطح لها، وتحجب فاعليتها، كي تكون حرة كاملة الإرادة، مشاركة في رسم خطوات فعالة في كافة هياكل وسياسات الدولة، بالتوازي على ما يضمن وجود تمثيل عددي بكافة الحقائب الوزارية، خاصة في مواقع صنع القرار بم يتوافق مع واقع النساء ومراكزهن في المجالات الأخرى، غير آبهة بالتضييق الذي يمارس عليها من خلال عدم مراعاة خصوصياتها كامرأة، وذلك حتى لا تختزل مشاركتها في ناخبة فحسب، كما نرى اليوم، بل منتخبة تتواجد في المجال العام تواجدا سياسيا فاعلا ومناصفة مع الرجل. المراجع: – أعلام النساء. عمر رضا كحالة – بلاغات النساء لابن طيفور – المرأة في ظل الإسلام، جهاد المرأة المسلمة. مريم نور الدين فضل الله – العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي – شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام. جمعه وحققه الكاتب اللبناني بشير يمّون