أي غياب فتنك أيتها الشاعرة ؟ و ما الذي فتنك فيه ؟ أهو عظيم الغياب أم سمو فتنته ؟ إن المتأمل مليا في ديوان « فتنة غياب » للشاعرة لطيفة المسكيني ( فضاءات 2017) سيتساءل لا محالة عن موضوع الديوان . ما هو موضوع و تيمة هذا الديوان ؟ إنه ديوان يتكون من جزأين . الجزء الأول عبارة عن كتب تحتوي قصائد طويلة نسبيا مفتتحها « كتاب الوهم « . أما الجزء الثاني فهو عبارة عن نصوص قصيرة و جلّها قصيرة جدا . أيمكن جمع كل هذه القصائد ( 129 قصيدة ) في موضوع واحد ؟ أم هي موضوعات بعدّها و قدّها ؟ أ يمكن اعتبار العتبة هي الموضوع و فيها الفتنة و الغياب ؟ ولا قصيدة واحدة سميت بهذه الأسامي ، و سياقات ورودها مختلفة متعددة. موضوع هذه القصائد في اعتقادي هو : السامي ، العظيم ، المتعالي . و ليس هو السامي و لا العظيم و لا المتعالي في حد ذاته ، و إنما هو ما يؤدي إليه ، كما يشير إلى ذلك ميشال أونفري . + الوصول إلى العظيم أقل أهمية من الطريق : أيها المشّاء ليس هناك من طريق السير هو ما يصنع طريق . أونطونيو ماتشادو . العظيم هو العملية الإجرائية التي تسمح للحركة بلوغ مرتبة أعلى وأسمى . في الإيتيقا العظيم هو الاستقلال الذاتي و تحرر الشخصية المميزة للطبع و المزاج البهي. و في الاستطيقا هو،عند كانط ، ما يثير الخوف و الخشية فهو مهيب يذهل بفساحته و عظمته. ولدى هيجل هو ما يبهرنا و يفتننا و لا نستطيع التعبير عنه و لا بلوغه . و في لوحة بارنيت نيومان يرتدي «السوبليم» اللون الأحمر ..أحمر هائل مهيب . حيث يختلط الزمن بالتقدم و الغياب بالحضور و الافتتان بالذهول . الشاعرة البهية تشبه في كتاباتها الخميائي لأنها تحول العنف إلى قوة إيجابية و الالتباس إلى انسجام و الغياب إلى فتنة ، مثلما كان يفعل بروميثيوس محولا نار الآلهة إلى نور الشعراء ووهجهم . و مثلما فعل بوكوفسكي لما حوّل قبح الخلقة إلى مهابة الشعر و الكتابة . العظيم هاهنا هو بلاغة الشعر و جمالية اللغة و بديع الأسلوب . فالشعر العظيم هو القدرة على توهم فتل حبل من رمل . مثلما فعلت آن سيكستون في تسكعها الاستيهامي بله الاستمنائي الوحداني في بوحها : « و في الليل وحيدة أتزوج بالسرير ..» . كذلك أنشدت في ذلك القبو كارمن بويه : «أيها البحر قوي شرابك الذي تسقي . و برودتك العظمى تطهير شفاف و قدسي .» أما الشاعرة فردت : قلت أتركا لي بعض الأوراق بيضاء كما أشتهيها أتركاني هنا للأرق الكثيف أغرب ثالثة ثلاث بين منافي ثلاثة . (ص 72) كوهم الاقتراب من القصيدة العظمى حين يتحول الشفق و الغسق إلى الظلمة أوإلى بداية أو نهاية الليل . فيه بهيمه يرمي الشاعر شباكه كالصياد في البحر قصد اصطياد كل ما يتحرك وهو لامرئي . هذه الكائنات التي لا تحصى لا لون لها و لا نفس و لا وزن ، يلفّها الصمت . وفجأة يلتقط الشاعر عالما ممنوعا يجهل حدوده و قوته و يعمل جاهدا على ألا تفسد موجوداته الشبيهة بالسمك الذي يفضل الموت على مغادرة بحاره . (إدمون جابيس). ألم يكن توهّم مالارمي هو إبداع القصيدة الأخيرة ..العظيمة و السامقة ، بضربة نرد. و من ثمة بات النرد لعبة الشعراء ؟ لعبة تتجلى في سمو اللغة الشعرية لمّا تستطيع بلوغ وصف ما لايمكن وصفه . ما ليت و لا لو تمني غصني لأكمام الورد غنّى ريح الخزامى من عبيرك . لماما رأتك يدي لماما لامستك العين . (ص63). و لما تحاول رصد البهاء رغم الألم. ذلك أن العظيم يؤلم و يفرح معا . هات الألم على طبق البهاء الممعنى هاته بزرقة العمق الشاسع ماء سماء لا أبقيت رسما . (ص59). ولما تسخي السمع للموسيقى الداخلية للكلمات ذلك أن للأحرف روحا تسري دهاقا رقيقا .. رخيم مرمر صدره مرمر رخام نهدها . (ص73) و لمّا تؤلف انسجام الأضداد في حدود المستحيل ذلك لأن مقام النّهاوند يجمع الضدين في الموسيقى : الحزينة و المرحة . لعلها غمغمة النّهاوند …فرح يانع يفوح من صوت البزق ألم طافح بناي يؤجج إيقاعه النفخ كأنه الكور. ( ص 34). و يبدو العظيم في الأسلوب مع بناء اللغة . فهو معمار لغوي تشيد فيه الشاعرة تمثلاتها و أشجانها ، هواجسها وتوجساتها : واهب الشجو هادئ الخبب هذا الصوت واهب المعنى هذا الدف الكمنجة العود الطبلة السنتور السه تار التنبك و هذا البزق. (ص35). أليس البزق هو ما يسمو ويعلي من شأن زوربا الإغريقي ؟ العظيم في الأسلوب هو القدرة على تصور ما لا يخطر على بال و هو مزج المفردات التي تقول أكثر من معناها و ترتيب الكلام على منوال لا منوال له بل هو المنوال . السمو بالأسلوب اللغوي الخاص هو السلسبيل نحو العظيم . يقال أن « الأسلوب هو الإنسان» (بوفون). فالشاعر الإنسان حسب هذا الأخير ليس هو من يربط الكلمات فيما بينها إنما هو من يربط الأفكار والمشاعر بالكلمات الملائمة . و قوله أيضا « المزية الأولى للأسلوب هي الوضوح». . ذلك أن الأسلوب هو النظام و الحركة التي نمنحها لأفكارنا . الكتابة الجميلة هي امتلاك الموضوع و الامتلاء به . و ما الإيقاع سوى تلاؤم الأسلوب بموضوعه و الأسلوب هو اختيار لغة ضمن اختيارات أخرى . إذا كان ساميا نبيلا عظيما سيكون الشاعر محبوبا محمودا .العظيم لا يوجد سوى في الموضوعات الكبيرة .حسب مالارمي الشعر العظيم يرنو إلى إصلاح عطب ما في اللغة ، و تصحيح اعوجاج ما في الأسلوب و البحث عن الانزياحات الممكنة..كلما عظم الأسلوب بها كلما كان شعرا . و في الدرجة صفر للكتابة « الأسلوب حالة من التوفيق يعرفها الشعر لما يتخلص من كل الخطابات المزيفة « …………. كتاب أوهامك يقول: غيري بالسهل مقيم و لي الإقامة في المستحيل في الكلام الشارد في صراط الغربة في حدائق الوهم الإلهية في سواي ما لهذا الحبر كلّما وعد بالتكتم نقض ؟ (ص 15). شاعرة ليست كغيرها لكنها تقيم في سواها ، تقيم في المستحيل و في الكلام الشارد ، في صراط الغربة و في وهم الآلهة . و مع ذلك محبرة الحبر تبوح و تفشي السر. ما هو سرك أيتها الشاعرة ؟ ربما هو البوح بما لا يفشى هو الحبر المهروق المراق المارق الأبلق . هو وهم إلهي يقيم في مقام المستحيل . هيت لك أيتها الغريبة . لقد نسيت صراط الغريبة بل ظلالها فيها سكون و صرير الخطا و فوضى الوقت و فصول أخرى .. أليس هذا هو العظيم البلاغي و الجمالي و الشاعري؟؟