هل لا تزال اليابان تشكل موضوعا للتأمل والسؤال عالميا، أمام الصعود الهائل المسجل للصين، وكوريا الجنوبية والهند؟. إنه واحد من الأسئلة التي تفرض نفسها أمام كل لقاء علمي، يكون موضوعه مقاربة «الظاهرة اليابانية» كما تحققت في العالم منذ قرن من الزمان. وهو السؤال الذي ظل يجلل سماء النقاش، بقاعة الندوات الكبرى، بمقر مكتبة آل سعود الفخمة والرفيعة علميا وأكاديميا، بالدار البيضاء، مساء الخميس 14 شتنبر 2017، من خلال اللقاء/ المناقشة، الذي نظم مع مؤلف كتاب جديد صدر بباريس تحت عنوان جريئ «الحداثة دون أن تكون غربية»، ضمن منشورات غاليمار، المتخصص في تاريخ اليابان، الأستاذ بجامعة جنيف السويسرية، الفرنسي «بيير فرانسوا سويري». وهو اللقاء الذي أداره باقتدار معرفي وتواصلي رفيع، الباحث المغربي محمد الصغير جنجار، مدير المكتبة بالنيابة. كان الباحث والمؤرخ الفرنسي، حييا، وهو يقدم عرضه المطول (69 دقيقة)، حول قصة كتابه وقصة اليابان وقصة عشقه للتجربة اليابانية وشغفه المعرفي بها، هو الذي أصدر حتى الآن 5 كتب موضوعها المشترك هو «التجربة اليابانية» حضاريا وتاريخيا. وكان، وهو يؤكد أنها أول زيارة له للدار البيضاء، أشبه بمن يحاول أن يقنع ساكنة قارة بعيدة بسحر اليابان، ذلك الشرق الأقصى، الذي تولد فيه الشمس. كانت حركات جسده كلها، تعمل دفعة واحدة، في ما يشبه رقصة عاشقة لإغراء الحضور بالوقوع في «حب بلاد الساموراي». لكنها رقصة عالمة طبعا، وليست مجرد لغو كلام. قبل أن يكتشف بعد فتح باب المناقشة (دامت 115 دقيقة)، أننا مغربيا أصلا مصابون بلوثة سؤال اليابان منذ عقود، ومنذ أجيال، وأن تجربتها، ظلت دوما مجال مقارنات بين نجاحها التاريخي وفشلنا التاريخي كمغاربة. لأننا بقينا دوما نقنع أنفسنا، أننا واليابان (من خلال بعثات طلابنا إلى أروبا في القرن 19)، قد طرقنا باب «الحداثة الغربية» في ذات الزمن، وأن شبيبتها عادت إلى طوكيو لتبني عناصر التحول، بعد عصر ميجي، المفضية إلى «الإمبريالية اليابانية» في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. فيما طوت الأزمة المركبة للبنية المؤسساتية بالمغرب (في الدولة وفي المجتمع) محاولات عناصرنا الشابة المغربية، وأفشلت كل طموح ل «الحداثة» بالمغرب. قوة اللقاء، الذي احتضنته قاعة الندوات الأنيقة، بمكتبة آل سعود بعين الذئاب بالدار البيضاء، آتية من عنوان الكتاب نفسه «الحداثة دون أن تكون غربية». أي أنها مقاربة مختلفة للرؤية التاريخية، من خارج المركزية الغربية، قوتها في أنها أخيرا صادرة من قلب تلك المركزية الغربية نفسها (أروبا). لأنه لقرون، ظلت تلك الرؤية تحصر معنى «الحداثة» في قصة ميلاد التحول الأروبي الغربي، الذي ظلت بحيرة المتوسط مجال اشتغاله الكبير لعقود طويلة، منذ القرن 15. وإذا كان عرض المؤرخ «سويري»، قد سعى إلى تبيان أن نجاح التجربة اليابانية كامن في وجود بنية اجتماعية منذ قرون هناك، مجدت العمل ومجدت التعليم ومجدت القانون، بشكل متساوق مع ذات ما حدث في أروبا في القرنين 18 و19. وأن ما اقتنصته بلاد الساموراي، من أروبا، هو بعض عناوين التقنية الصناعية. فإنه قد خلص إلى فكرة ذكية، من خلال التوقف عند مجال استقرار النخب اليابانية الزائرة لأروبا في نهاية القرن 19، التي لم تكن جغرافيتها هي فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا أو الموانئ الإيطالية، بل كانت المدن السويسرية. ليس لرغبة في الإستجمام السياحي عند مرتفعات جبال الألب، بل لحاجة إلى فهم، سر ذلك التعايش في الجمهورية الوحيدة بأروبا حينها (كل عواصم أروبا كانت ملكيات)، بين أقاليم ثلاث ألمانية، فرنسية وإيطالية، وكيف يمارس فيها معنى ل «المواطنة» متأسس على قيمة المشترك، وقوة التنظيم المؤسساتي لدولة القانون. ذلك ما كان يهم اليابانيين، الذين عملوا على نقله إلى بلادهم، وبلوروه من خلال دستور سنة 1889. نحن، هنا، بإزاء مشروع مجتمعي جديد، بنى ذاته، من خارج المركزية الغربية، وقعد ل «حداثة» مستقلة، مختلفة عن «الحداثة الغربية». وهنا يكمن السر الأكبر لليابان، أنهم تصالحوا مع التقدم، انطلاقا من التصالح مع خصوصيتهم، التي صالحوها مع الزمن العالمي. أغلب مداخلات النقاش، ركزت على سؤال دور الدين في تحقق «الحداثة اليابانية»، من موقع أنها حداثة لم تجد نفسها في خصومة مع الدين. وهو الأمر الذي قاد إلى التأكيد على أن «دين اليابانيين» هو احترام قانون الجماعة، أي احترام المشترك بين الناس، وأن المقياس هو العمل والإنضباط لقوة وسيادة القانون. بينما انتبهت مداخلة قصيرة ومركزة للباحث المغربي، المتخصص في تاريخ اليابان «يحيا بولحية»، إلى أن سر «الحداثة» اليابانية كامن في التحول الإجتماعي لطبقات الإنتاج، عبر بوابة توحيد اللغة، وعبر بوابة إصلاح التعليم، وعبر بنية القراءة الجديدة في نهاية القرن 19 (دور النشر والكتاب والصحافة)، الذي اشتغل على الوعي، المفضي إلى بلورة نموذج مختلف للفرد هناك، سهل منظومة تحقق «الإمبريالية اليابانية» التي توازت مع ميلاد الإمبريالية الأروبية والأمريكية الغربيتان. جانب آخر، طرحته باسم يومية «الإتحاد الإشتراكي»، من موقع الرؤية إلى القصة اليابانية من داخل الجغرافية المغربية والعربية والإسلامية، هو أن حظ اليابان كامن في ما وهبته لها الجغرافية من موقع ضمن الكرة الأرضية، حيث إنها أرخبيل جزر، محمي بالبحر، وأنها أساسا بعيدة جغرافيا عن بحيرة المتوسط، حيث ظل الصراع محتدما بين الديانات السماوية الثلاث لقرون. وأن الصراع بين شمال المتوسط وجنوبه، بين شرقه وغربه، قد جعلنا في النهاية ضحية الجوار الأروبي الغربي، الذي تعتبر المرحلة الإستعمارية عنوانه الأبرز، منذ بدايات القرن 19 حتى أواسط القرن 20. وهي المقاربة، التي لم يتفق معها تماما المؤرخ الباحث بيير فرانسوا سويري (أو لم يتفهمها كما يجب). بينما الحقيقة، أن «الحداثة» اليابانية، قد بنيت باستقلالية عن الغرب، ذلك البعيد عنها جغرافيا، وأنها ظلت تعيد بناء ذاتها، وتختار ما يخدم مصلحتها الحيوية في التحول والتقدم من العالم، وضمنه الغرب الأروبي والأمريكي. ولم يفرض عليها شئ، سوى بعد 1945، زمن الحرب العالمية الثانية، بسبب التنافس الإمبريالي بين الإمبريالية اليابانية والإمبريالية الأمريكية (صراع جبابرة) الذي كانت فاتورته رهيبة من خلال إسقاط أول وآخر قنبلة نووية على مدن آهلة بالسكان، بكل من ناكازاكي وهيروشيما اليابانيتان.