هل عادت المياه إلى مجاريها بين الرئيس ايمانييل ماكرون ووسائل الاعلام الفرنسية؟ مناسبة هذا الكلام هو الحوار المطول الذي خص به ايمانييل ماكرون أسبوعية فرنسية ( أسبوعية لوبوان)، بعد أن امتنع عن لقاء أية صحيفة أو أية وسيلة إعلامية فرنسية منذ انتخابه رئيسا للجمهورية، وفضل على ذلك طرق التواصل الاجتماعي وتويتر، وإعطاء مضامين وفيديوهات جاهزة إلى وسائل الإعلام يقوم بإنجازها فريقه الإعلامي، وهو ما يعكس علاقة الخوف وعدم الثقة بينه وبين الصحافة، حيث لم يتردد في انتقادها ولو بشكل غير مباشر. وكان اللقاء الوحيد مع الصحافة قد خصصه الرئيس ل9 منابر أوربية دفعة واحدة حول سياسة الاليزيه الأوربية. كما أن قمة هذه القطيعة تجلت في إلغائه التقليد الذي تركه أسلافه والحوار المتلفز الذي كان يتم في 14 يوليوز أي في العيد الوطني لفرنسا والذي عوضه بخطاب أمام البرلمان الفرنسي بغرفتيه. لقد تراجعت اليوم شعبية الرئيس بشكل مهول، بل لم تعد تتجاوز 40 في المئة بعد ثلاثة أشهر مرت على فترة حكمه، وهو تراجع لم يتعرض له الرئيسين السابقين نيكولا ساركوزي (شعبيته في نفس الفترة 67 في المئة ) أو الرئيس فرنسوا هولاند ( شعبيته في نفس الفترة54 في المئة ) فهل هذا التراجع يعود إلى هذه العلاقة المتوترة مع الإعلام في بلده أو إلى الإصلاحات الاجتماعية والضريبية التي أراد الرئيس إنجازها في بداية فترته الرئاسية وتراجعه عن بعض الوعود الانتخابية، كتخفيض الضرائب المحلية؟ أم أن تراجع شعبيته الكبير والمفاجئ يعود إلى هذه العوامل مجتمعة؟ واليوم، يقوم الرئيس الفرنسي وفريقه بعدد من التغييرات في سياستهم الإعلامية التي كانت تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي وإنتاج وصلات إعلامية تعطى جاهزة لوسائل الإعلام. فهو يريد فتح صفحة جديدة من خلال الانفتاح على وسائل الإعلام ببلده، وفي هذا الصدد عين صحفيا وهو برونو روجي بوتي كناطق رسمي باسم الاليزيه، لهذا بدأت التساؤلات تطرح حول هذا التعيين وهذا التحول في سياسة الرئيس تجاه وسائل الإعلام التي تعتبر شريكا ضروريا في أي نظام ديمقراطي. وجاءت هذه العلاقة المتوترة مع الإعلام ومحاولة التحكم فيه والابتعاد عنه حتى قبل انتخاب ايمانييل ماكرون رئيسا للجمهورية، أي منذ الحملة الانتخابية للرئاسيات التي مرت عليها مدة خمسة أشهر. وهذا الخوف كان من خلال ملاحظة ومتابعة ما جرى لرئيسين سابقين وهما: نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند اللذين كانا مقربين كثيرا من الإعلام ومن الصحافة بشكل عام، لكن هذه العلاقة انتهت بنتائج سلبية على مسارهما السياسي، خاصة بالنسبة للرئيس هولاند الذي خصص حوارا مطولا لصحفيين من جريدة» لوموند» نشر تحت اسم «الرئيس ليس عليه قول ذلك»، وهو كتاب مقابلة مع «جيرار دافي» و»دافيد لوم « ، هذا الكتاب الذي تحول إلى قضية دولة من خلال المعلومات التي وردت به وجعل العديد من الوزراء بمن فيهم وزير الدفاع آنذاك «جون ايف لودريون» يعبر عن عدم رضاه عن تصريحات رئيس الجمهورية السابق. فالتصريحات التي وردت فيه كان لها أثر سلبي جدا على مسار الرئيس السابق حيث ساهمت في إضعافه وكانت إحدى العوامل التي أضعفت ترشحه لولاية ثانية. وكل هذه العوامل جعلت الرئيس ماكرون وفريقه يتعاملان بحذر كبير مع الصحافة ويسعيان إلى التحكم في هذه العلاقة و تأطيرها وكذا التحكم في المضامين التي تقدم إليها، بل إن حركة الرئيس التي تحولت إلى حزب « الجمهورية إلى الأمام» لها فريق إعلامي ينتج مضامين ويصور فيديوهات يتم تقديمها إلى مختلف وسائل الإعلام لتجنب اللقاءات والحوارات، سواء أثناء الحملة الانتخابية أو عندما أصبح ايمانييل ماكرون رئيسا للجمهورية، فقد قام بإلغاء اللقاء الصحفي ل14 يوليوز كما حاول فريقه التحكم في الصحفيين الذي يرافقون الرئيس إلى الخارج بمناسبة زيارته إلى مالي بعد أن كان يتم اللجوء إلى القرعة في السابق لاختيار من يرافق الرئيس في رحلته وهو ما جعل العديد منهم يقوم بكتابة رسالة مفتوحة لإدانة هذا السلوك الذي لم يمارس في السابق على الصحفيين أثناء مرافقة الرئيس. هذا السلوك الذي يسعى إلى التحكم في وسائل الإعلام وإنتاج مضمون إعلامي، ليس جديدا في تاريخ السياسة بفرنسا وعلاقتها بالصحافة والصحافيين، فهي سياسة تعود إلى القرن التاسع عشر، ألم يؤسس السياسي الشهير جون جوريس جريدة «ليمانيتي» وكذلك جورج كليمونسو الذي أسس جريدة «اورور»؟ ولائحة الرؤساء والسياسيين الفرنسيين ومحاولتهم التأثير في الإعلام طويلة جدا وكبيرة لا يسع هذا الحيز لعرضها مجتمعة. إن تعيين صحفي ناطق رسمي باسم الاليزيه وهو برونو روجي بوتي، وهو منصب تم تأسيسه سنة 2007 من طرف نيكولا ساركوزي قبل إلغائه، ربما هو محاولة لتحسين هذه العلاقة لكن التعليقات على هذا التعيين لم تكن إيجابية حتى الآن. وما يطبع العلاقة بين الصحفيين و الرئيس وفريقه، اليوم، هو الشك والريبة، حيث قامت السلطة التنفيذية والرئاسة بإقفال كل أشكال التسريبات والأخبار للصحفيين حول مختلف القوانين والمشاريع التي تشتغل عليها الأغلبية الحالية. وهذا الواقع تذمرت منه الصحافة والإعلام الفرنسي، وتعيين ناطق باسم القصر الرئاسي هو محاولة لخلق الثقة وتأسيس علاقة بين الصحافة والرئاسة كما كانت في السابق، والتواصل معها لتفسير السياسة التي يريد أن يتتبعها الرئيس لإصلاح فرنسا. لقد اعتمدت علاقة الرئيس وفريقه وكذلك حركة إلى الأمام في السابق،بشكل أساسي، على وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة أساسية للتواصل مع الفرنسيين، وكذلك من خلال إنتاج المضامين الصحافية. لكن التراجع المخيف لشعبية الرئيس في مختلف استطلاعات الرأي بشكل لم يتعرض له مختلف أسلافه دفعت الرئيس وفريقه إلى تغيير السياسة الإعلامية، وإدخال تعديلات على التعامل مع وسائل الاعلام التي تعد ركنا أساسيا من اركان الديمقراطية بفرنسا. وتجلت رغبة الرئيس الفرنسي في تطبيع العلاقة التي تجمعه بوسائل إعلام بلده في العديد من المؤشرات التي برزت مؤخرا، أهمها تخصيص أول حوار لوسيلة إعلام فرنسية، وكذلك تعيين صحفي معروف هو برونو روجي لوبوتي كناطق رسمي باسم قصر الاليزيه، وتصريحه في الأسبوع الماضي أمام سفراء بلده في الخارج وقوله إنه يلتزم بصون الحريات الإعلامية في بلده وفي الخارج وعزمه الحديث مع الفرنسيين . هذه كلها مؤشرات عن ارادة الرئيس وفريقه تغيير علاقتهم بالصحافة، وتجاوز فترة الحيطة والحذر والتهرب من مواجهة الإعلام وأسئلته. فهل وضع علاقة طبيعية مع الاعلام لحاجة الرئيس إلى التعريف بإصلاحاته للرأي العام ، لأن وسائل الاتصال الاجتماعي وتويتر التي يتعامل بها ،بكثافة، بينت محدوديتها في الوصول إلى كل الرأي العام ببلده؟ وهل سينجح الرئيس الفرنسي في هذا التحدي الجديد وهو التصالح مع إعلام بلده لكي يقوم بدوره كشريك له في عمل المؤسسات الديمقراطية بالجمهورية، أم أن الريبة وعدم الثقة التي سادت هذه العلاقة منذ البداية سوف تستمر خلال ما تبقى من ولاية الرئيس؟ هذه التساؤلات ستجيب عنها الأيام والأسابيع المقبلة، في انتظار رؤية هذه التحولات التي بدأت في أرض الواقع.