منطقة أنفكو دوار في أعالي جبال الأطلس المتوسط، موزع على حوالي 400 مسكن (إغرم)، ويبلغ عدد سكانه قرابة 4600 نسمة. محيطٌ جغرافي يعيش حالة يرثى لها ويندى لها الجبين من العزلة والتهميش والفقر، في مجال تنعدم فيه أدنى شروط العيش الرغد ويتسم بنوع من القساوة والتحقير. مظاهر وأخرى سنحاول تقصيها ورصدها في هذا التحقيق. "ماعرفنا واش تانسيفطو ولادنا يقراو ولا تانسيفطوهم اديروالماراطون؟؟" هكذا انفعل (م.ح) أحد ساكنة الدوار الغيورين على أبناء المنطقة، حين سألناه على المدرسة، وعن حال التعليم بالمنطقة، مردفا أن الدوار يتوفر على مدرسة واحدة من أربعة أقسام "مجموعة مدارس أنفكو"، وعلى إعدادية تبعد بحوالي ثلاثة كيلومترات عن الدوار، في حين يضطر كل من يرغب في إتمام دراسته الثانوية، إلى الالتحاق بمناطق تونفيت وبومية وميدلت؛ وهو الشيء الذي يكاد يستحيل في ظل الوضع المادي الهش الذي تعانيه الأسر، والذي يضطرها إلا فصل فلذات أكبادها عن الدراسة بمجرد معرفتهم أبجديات الكتابة والقراءة، والتي لن تمكنهم سوى من إدخال أرقام الهاتف صحيحةً، وقراءة بطاقة المعلومات المعلقة على ظهر المواد الغذائية... فضاءات للتعلم، يقول أحد الساكنة، وإن أُدخِلت عليها بعض التعديلات بعد الزيارة الملكية للمنطقة، إلا أنها تظل تعديلات شكلية ترقيعية لا غير، لم تطل البتَّة الجوهر التربوي ولا كُنْهَ العملية التعلمية، في ظل وجود - مثلا - أساتذة تدفعهم قساوة الطبيعة و"المنْفى لِّي عيشين فيه" إلى التعسف على التلاميذ واحتقارهم وضربهم دون مبرر في كثير من الأحيان. والخلاصة نسيج مجتمعي من شابات وشبان يغادرون الفضاء التعليمي في مقتبل أعمارهم في ظل نهج الدولة لمجموعة من السياسات التي تتوخى من خلالها ، كما تزعم، الحد من الهدر المدرسي ومحاربة الأمية.. !! إن كل إنسان تتملكه أدنى رغبات العيش الكريم، هو شخص أينما حل وارتحل لابد وأن يطمئن على "الصحة"، أحد أبرز القطاعات التي تراهن عليها الدول الطامحة للتقدم، وأحد أهم المحددات التي يقاس على إثرها مؤشر التنمية البشرية. هو أيضا أحد الفضاءات الذي كان من اللازم تتبعها ورصدها حين تواجُدنا بعين المكان... مصلحة صغيرة، غداةَ دخولها يخال المرء نفسه في منزل شبه مهجور؛ صدى يرتدّ، صمت موحش، وبيوت عنكبوت متناثرة هنا وهناك، طبيبة وثلاث ممرضات وسائق سيارة إسعاف هو إجمالي الطاقم الطبي المشتغل بالمصلحة المسماة تجاوُزا "مستشفى"، و"كينة الهلال" و"الكينة دراس" هو مخزون المشفى من الأدوية... قطاعُ الصحة هو الآخر ، يقول (ع.أ): لا يكاد يُشفِي غليل المواطنين الذي يواجَهون في أغلب الأحيان ب"ماعندناش الدوا ديال المرض اللي عندك، عاود رجع راه إقدرإجي"، ليضيف فيما بعدُ وعلامات الحزن والأسى بادية على مُحياه: نَمرض ونُشفى دون دواءٍ حتى اكتسب أجسادنا مناعةً عن كل الأوبئة.. كيف لا ونحن نعيش في وسط تقتل فيه الأمراض في تضامنها مع جل مظاهر القساوة الأخرى أزيد من خمس أشخاص كل سنة !؟. لم يكمل (ع.أ) حديثه حتى قاطعه أحد الحاضرين بنبرة كلها غضب: لم تعد تهمنا أجسادنا ولا أرواحنا، كل ما يؤلمنا هو مشاهدة الصبية والنسوة في أحوال مزرية، أضف إلى ذلك أن النساء يضعن حملهن في أدنى شروط السلامة، ذلك أن سائق سيارة الإسعاف يتماطل ويظل يساوم الساكنة على تكلفة البنزين، قبل أن يصرخ قائلا: "واش لقينا ماناكلو غير نيدو لمازوط لمخزن". "السكن اللائق لكافة المواطنين"، هو أيضا أحد أهم أكثر الشعارات الرنانة التي ترفعها الدولة، وهو أيضا من متطلبات "الخيال العلمي" لدى ساكنة دوار أنفكو، التي تتخذ من "تزاحموا تراحموا" شعارا لها في مآويها؛ شبه منزل من غرفتين ، على أكثر تقدير، إحداهما للطبخ والأخرى للنوم هو كل ما يأوي بين 7 إلى 16 شخصا، مساكن آيلة للسقوط خلقت حالة من الهلع في النفوس، ودفعت (خ.ف) وهي امرأة في الأربعين للبوح بخوفها المتكرر من أن تُدفن تحت أنقاض هذه البناية في يوم من الأيام.. لقد غاضني كثيرا حالي وحال شباب دواري لما "خرجت" وسافرت وفتحت عيني على ما يعرفه الشباب في مختلف مناطق المغرب" كان هذا كلام أحد مثقفي المنطقة المعدودين على رؤوس الأصابع والذي حظي بشرف متابعة دراسته الجامعية. قبل أن يضيف: إن قلبي يكاد ينفطر كلما سمعت إما أثناء مشاهدتي للتلفاز أو في إحدى الندوات على أن المغرب بلدٌ يراهن على الشباب، وبلدٌ يعمل على إعطاء الشباب فرصة المبادرة ويعزم على إدماجهم في كل الحقول والميادين؛ الاجتماعية منها والسياسية... فبمجرد أن تلتقط أذني مثل هاته العبارات حتى أشرع في معاودة مشاهدة شريط المعاناة والتهميش اللذين يطالان الشاب في مسقط رأسي، شريط درامي يلعب فيه الشباب دور ثانويا جدًّا يتمثل أساسا في الجري وراء الأغنام طيلة اليوم أو الاتكاء على جذع شجرة، أو الارتماء في أحضان الطبيعة. وحال الشباب هذا يردف (با.أ) لا يختلف كثيرا عن حال الرجال والنسوة، فالكل يغادر "الحيطان الأربعة" في تمام الساعة السادسة صباحا ضاربين لهم موعدا على الساعة السابعة مساءً حول مائدة العشاء، حيث يقضي الكل يومهم الطويل والشاق على ايقاع وجبة أو اثنتين لا أقل ولا أكثر، فالفقر جعل منهم خبراء في "سياسة التقشف"، لأن تلاوين الزمن علمتهم أن المؤونة قد تنقطع لأيام أو أسابيع أو شهور، وأن تكلفة المواد الغذائية الأولية قد ترتفع بحوالي الضعف في حالاتِ الشدة. لطالما عُرفت المنطقة على أنها موحشة ومعزولة في فصل الشتاء لما تخلفه الأمطارُ والثلوج من اختلالات في النُبَى "شبه التحتية للمنطقة"، لكن الذي يغيب عن علم عامة الناس أن لا شيء يَميزُ صيف أنفكو عن شتائه سوى طلوع الشمس في الصباح الباكر، ذلك أن المعاناة والتهميش رقم صعب في معادلة الحياة لدى ساكنة المنطقة، الذين يظنون أنهم يعيشون في "مغرب آخر، مغرب خاص، حيث لا تعنيهم لا شعارات التنمية، ولا لافتات التقدم، ولا النداءات الانسانية" على حد تعبير الساكنة. ليبقى الإنسان الذي يحمل في قلبه مثقال ذرة من إنسانية حائراً أمام العدد الهائل من الأسئلة التي تفرض نفسها في هذا السياق، من قبيل: لماذا كل هذا التهميش في ظل نهج المغرب لسياسات عدة تروم التقدم المضي قدما نحو الديموقراطية، ولماذا لا تتضافر الجهود للخروج بهذه المنطقة ومثيلاتها من صفحات النسيان، ألا يحق لسكان مثل هذه المناطق أن يحظوا بإجابة شافية كافية عن أب الأسئلة في الآونة الخيرة: أين الثروة؟؟؟.