كان الرئيس التونسي، الباجي قايد السبسي، حذرا في الحديث عن المساواة في الميراث، أو زواج المسلمة من غير المسلم، مقدما إياها كاجتهاد في الدين، معددا تجارب تونسية سابقة في الاجتهاد منذ ما قبل بورقيبة، ومعتبرا أن «الإسلام في جوهره عادل»، و»لا يُعقل أن يقبل التمييز بينما رفض التفريق بين عباده إلاّ بدرجة التقوى، لا بحسب جنسهم إن كان ذكرا أو أنثى». لقد كانت رسائل السبسي في اتجاهات مختلفة، أهمها للجبهة الواسعة التي تشكلت في 2013 و2014 وكانت وراء انتخابه رئيسا لتونس، ومضمون الرسالة هنا أنه لم يتخل عن الأرضية الجامعة المدافعة عن هوية مدنية وحداثية للبلاد، وأن كل ما حدث هو توافق ظرفي مع حركة النهضة أملته الأوضاع الداخلية والضغوط الخارجية، وليس خيارا استراتيجيا. ولا شك أن قدرة السبسي على المناورة تظهر هنا في كونه أقدم على خطوة تعيد لنداء تونس وله شخصيا قرابة مليون صوت نسائي كان قد حصل عليه في انتخابات 2014، كما أنها تعطي مبررا للعودة لمن انشقوا عن نداء تونس من قيادات بارزة أو من أحزاب يسارية وليبرالية، سبق أن اعتبرت الانفتاح على النهضة التفافا على جبهة الإنقاذ التي أوصلت الرئيس وحزبه إلى السلطة. ويظهر الخطاب الرئاسي بمناسبة عيد المرأة بمثابة اعتذار ذكي يسمح بإعادة تشكيل الجبهة المدنية الواسعة واستعادة الغاضبين، وخاصة الشق الذي يقوده المستشار السابق للسبسي محسن مرزوق، وشق رضا بالحاج، وجنيدي عبدالجواد مهندس مشاركة وسط اليسار (حركة التجديد، والمسار، والاشتراكي اليساري) في جبهة الإنقاذ. وفيما رمم خطاب الرئيس التونسي جبهة القوى المدنية الواسعة، فإنه زج بحركة النهضة في معركة داخلية يصعب عليها أن تخرج منها بسهولة لأن الأمر يتجاوز الخلاف في التقدير السياسي إلى قضايا مرجعية للتنظيم من الصعب قبول المس بها. ودأب جمهور الحركة على ترك التكتيك والتنازل لرئيس الحركة راشد الغنوشي، وحتى وإن قدم تنازلات سياسية مؤلمة فإن الجمهور يجد نفسه مجبرا على القبول بالأمر المقضي، لكن المسألة هنا صعبة ومعقدة لأنها تتعلق بنص ديني أو بقراءة لنص ديني تتعاطى مع النص باعتباره قطعي الثبوت قطعي الدلالة، أي لا مجال فيه للتأويل أو التفسير المقاصدي، بمعنى أنه ليس من حق أحد بمن في ذلك الغنوشي نفسه أن يحدث تغييرا في أحكام الميراث تحت مسوغ تجدد الواقع أو الضرورات تبيح المحظورات. صحيح أن التركيز في ساحة النهضة منصب الآن على نقد دعوة السبسي إلى الاجتهاد والاحتكام إلى مدنية القوانين، لكن بعد وقت قصير سيكون الغنوشي أمام المعادلة الصعبة وسيجد نفسه مجبرا على تحديد خياراته: مع اجتهاد السبسي أو ضده، ولكل حالة من الحالتين نتيجة مؤثرة في استراتيجية النهضة ووضعها. هناك قراءة تقول إن الغنوشي سيضع استمرار التحالف مع نداء تونس، والتوافق مع الباجي أولوية، وأنه سيبحث عن مخارج ذكية لا تصدم جمهوره الذي يمكن أن يسترضيه بفتوى على المقاس، وأنه ربما يدعو إلى استفتاء على التعديلات التي يدعو لها السبسي، والهدف ربح الوقت، والسماح للإعلام، وخاصة الإعلام الاجتماعي بإطالة النقاش حولها ما يسمح بامتصاص غضب الجمهور. ويبقى على الغنوشي فقط أن يواجه غضب قيادات تاريخية بعضها لا يزال مؤثرا في مؤسسات الحركة، فضلا عن أئمة سليطي اللسان محسوبين على الغنوشي لكنهم يمكن أن ينقلبوا عليه في أي لحظة تحت شعار "حماية حدود الله". وتشمل قائمة الغاضبين عبداللطيف المكي، القيادي الذي يوصف الآن داخل النهضة وخارجها بأنه على رأس فريق الصقور، وجاهر المكي، الرئيس السابق لاتحاد الطلبة المحسوبين على الحركة، برفضه لتصريحات السبسي في رسالة مزدوجة ترفض دعوة الاجتهاد الصادرة عن الرئيس التونسي، وتقطع الطريق على أي فتوى سياسية من رئيس حركة النهضة لتمرير تعديلات داخل البرلمان تنتهي إلى إقرار المساواة في الميراث. وقال المكّي إن ما جاء على لسان السبسي يتطلّب تفسيرا لأنه أمر خطير، مشددا على أن "موضوع المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة أمر مفصول ومضبوط في المدوّنة الفقهية الإسلامية"، وأن "الدستور التونسي يتضمن نصا واضحا في عدم مخالفة النص القانوني لما جاء في النّص الديني". وسحب العربي القاسمي عضو مجلس الشورى من الغنوشي ومن الحركة صفة التحدث باسم الشعب حين قال "النّهضة ليست ناطقا باسم الشّعب ولا وكيلا عنه في الدّفاع عن مقدّساته ومكوّنات هويّته. واجبها لا يسقط واجبات الأفراد والمنظّمات"، وهو ما يعني آليا أن أي فتوى أو "تخريجة" من الغنوشي لن تكون مبررا للقبول بالتعديلات المعنية. ويقول المحيطون بالغنوشي إنه لا يمكن الآن أن يجازف بتوتير علاقته بالسبسي لأنه سيهدم بذلك تفاهما تمت رعايته خارجيا في اللقاء التاريخي بباريس 2013، وهو اتفاق تريد النهضة من بوابته تسويق نفسها كطرف مقبول دوليا ولو أدى الأمر إلى تقديم الكثير من التنازلات للإقناع بأن الحركة راغبة عن السلطة وتريد إنجاح المسار السياسي. ويبقى السيناريو الأقرب أن الغنوشي سيضطر إلى تحمل نتائج الغضب الداخلي، وهو غضب لم يهدأ منذ المؤتمر العاشر، ويتوقع أن يكون أقوى هذه المرة، خاصة من الاحتياطي الدعوي للنهضة، أي الأئمة المحسوبين على الحركة والذين مثلوا في السابق رأس حربة ضد خصومها. ومن بين هؤلاء يمكن أن نشير إلى الإمام المثير للجدل رضا الجوادي الذي كتب رسالة مفتوحة ظاهرها للسبسي وباطنها لمن يجيز التعديلات التي اقترحها الرئيس التونسي، بمن في ذلك الغنوشي نفسه. وعزا القيادي في المهجر عبدالقادر الونيسي جرأة السبسي في الدعوة إلى التعديلات إلى ضعف النهضة التي ما فتئت تبعث برسائل سلبية لعموم قاعدتها ولشريكها في الحكم وللباجي بصفة خاصة، معتقدا بأن الرئيس التونسي التقط "هذا الهلع المرضي عند جزء من قيادة الحركة ليطوعها أكثر وتصبح رهينة إشاراته ورغباته". ويعكس هذا التصريح قناعة واسعة داخل التنظيم يحمّل تكتيك القيادة السياسية مسؤولية اجتراء الخصوم عليها، وهو نقد مبطن للغنوشي بالدرجة الأولى وللقيادات المقربة منه المدافعة عن البراغماتية. ولم ينتظر رئيس المكتب السياسي للحركة نورالدين العرباوي قرار المؤسسات، أو نقاشات مجلس النواب، أو انتظار الحصول على تنازل مقابل ليقول في حوار مع إذاعة محلية "نحن مع خطاب رئيس الجمهورية والموضوع ليس فيه أي حرج (...) ورأيي الشخصي أنا مع المساواة التامة" في الميراث.