قبل انتخابات 2014 اختارت حركة النهضة تأجيل مؤتمرها العاشر إلى ما بعد الانتخابات، وكانت قد استفْتَتْ قواعدها في ذلك. وكان مؤتمرها الأخير التاسع قد أجري في يوليو 2012 بعد انتخابات 2011 التي فازت بأغلبيّة المقاعد فيها. الحركة تعيش اليوم تحولات عميقة صلبها لا تخفى على المتابعين. وهي تستعد لعقد مؤتمرها العاشر خلال الصيف المقبل. وقرار تأجيل المؤتمر ثبّت قيادات الحركة وجعلها تحافظ على مواقعها لاسيما رئيسها راشد الغنوشي وأغلب أعضاء حكومتي الترويكا الأولى التي ترأسها حمادي الجبالي، والثانية التي قادها علي لعريض. ولئن لم يشارك الجبالي في انتخابات 2014 بعد أن رفضت الحركة تزكية ترشحه للرئاسية، فإنّ بقية الوزراء المشاركين في الحكومتين نجدهم في البرلمان أو في الحكومة لاسيما علي لعريض وعبداللطيف المكي ونورالدين البحيري ومحمد بن سالم وسمير ديلو ومحرزية العبيدي وزياد العذاري وغيرهم. وحول عدم تزكية ترشيح الجبالي للرئاسية فإنه كان بإصرار من الغنوشي تحت يافطة فكرة الرئيس التوافقي التي كان قد اقترحها، ولكن السبب الأعمق كان فشل الجبالي في قيادة الحكومة واستقالته منها بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد، وهو ما جعل أسهمه في نزول مما لا يضمن فوزه الانتخابي. ولذلك لم يجازف الغنوشي بتزكيته. إن أغلب ما يحصل داخل النهضة وثيق الصلة برئيسها راشد الغنوشي الذي يمسك بأطرافها جيدا ويتحكم في توجيه دفتها نحو الوجهة التي يريد. في إدارة الحركة، يمارس الغنوشي سياسة مفادها ضمان عدم ابتعاد مناضليها وقيادييها بعيدا حتى وإن استقالوا منها، وترك الباب مواربا لهم للعودة. وهو ما حصل مع حمادي الجبالي وعبدالحميد الجلاصي، مثلا. ولو اضطرّت الحركة، تكتيكيا، إلى أن تطوي بعض قياديي صفها الأول مثل حبيب اللوز والصادق شورو وتبعدهم عن الصدارة بسبب تشددهم وأصوليتهم التي لم تعد تستجيب لتصورات رئيس الحركة ورؤاه لصورة الحركة وطبيعة وجودها داخل المجتمع التونسي وعلاقاتها مع حلفائها وخصومها، فإنها تضمن أن يبقوا داخل إجماعها العام. اقتراب الغنوشي من الباجي قايد السبسي منذ اعتصام الرحيل الذي خلص تونس من استبداد الترويكا صيف 2013، هو الذي رسم معالم الحياة السياسية التونسية إلى اليوم. بقي التنافس بين الرجليْن وحركتيهما على الحكم وقد نجحا في حصره بينهما. لم تحقق النهضة الفوز الانتخابي الذي كانت ترجوه. ورغم إبعادها عن إدارة الحكم، نجح الغنوشي في إقناع النهضويين والرأي العام التونسي بأن ما تم تحقيقه انتصار. بعد اعتصام الرحيل واستقالة حكومة لعريض كان الغنوشي قد قال ?إن النهضة خرجت من الحكومة ولم تخرج من الحكم?. ولكن بعد انتخابات 2014 أخرج الصندوق النهضة من الحكم ولم يخرجها من الحكومة بعد أن لانت حركتا نداء تونس والنهضة لبعضهما وقبلتا التشارك بعبارة النداء، والتحالف بعبارة النهضة، رغم أنهما بنتا حملتيهما الانتخابيتين على التعادي والاتهام والتخوين والتصويت المفيد. وقد نجح الغنوشي أيضا في اعتبار التحالف مع نداء تونس كسبا سياسيا عظيما. وهو ما جسده أعضاده ومساعدوه، لاسيما من قيادات الصف الأول الذين شاركوا في حكومتي الترويكا، على بلاتوهات الإعلام، وما يفعلونه داخل أطرهم الجهوية وهم يديرون النقاشات الإعدادية لمؤتمرهم العاشر. وفي الوقت الذي يشهد فيه الحزبان اللذان شاركا النهضة حكم الترويكا تشظيا وتلاشيا كبيرين، نجح الغنوشي في أن يبني لحمة وتماسكا وتآزرا في فريقه الذي يقود به الحركة. فلا تسمع داخله صوتا مختلفا رافضا لخيار، أو منتقدا لتوجه من التوجهات. فما يراه الغنوشي، ذو الصلاحيات الواسعة في رئاسة الحركة والتأثير الجم عليها، يراه الجميع ويتبنونه. وحتى الغاضبون منهم فإنهم يبقون داخل الإجماع ويكتمون غضبهم داخليا ولا يؤثرون كثيرا إعلاميا ولا سياسيا. الغنوشي رجل سجالي وقد كان سببا في مشاكل كثيرة لتونس، لاسيما في تعاطيه وحركته قبل حكم الترويكا وأثناءه مع السلفيين والمتشددين. فقد اعتبرهم أبناءه الذين يذكرونه بشبابه في محاولة لاستمالتهم وتوظيفهم، ولكنهم خرجوا عن السيطرة وأبانوا عن أجندة أبعد ممّا كانت تخطط له القاعدة والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين. وللتاريخ فإن الغنوشي لم يسمع نصيحة أحد في ما يتعلق بمساندته للمتشددين، بل إنه في فيديوهات مسجلة حرّض المتشددين على احتلال المساجد، وعلى الأمن والجيش التونسيين، وعلى إقامة الخيمات الدعوية، واحتلال المشهد العام. الغنوشي يستفيد من أحلافه التي يعقدها كما يفعل مع الأوراق التي بيد السبسي لاسيما الدبلوماسية والعدل والأمن. فهو يؤثر في مواقف تونس الخارجية كما في الشأن الليبي الذي اعترفت فيه تونس بحكومتين، رغم أن إحداهما غير شرعية وغير منتخبة ولكن تأثير النهضة واضح في طبيعة التعاطي الرسمي التونسي مع حكومة طرابلس الإخوانية. والنموذج الأبرز لهذا التأثير كان موقف تونس من النظام السوري، فبعد أن أعلن وزير الخارجية الطيب البكوش عن قرار إعادة تنشيط العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، يرفض الرئيس السبسي ذلك ويلتقي مع الغنوشي في نفس التفسير، ألا وهو الالتزام بالإجماع العربي. وهو ما يعني أن السبسي يعتبر أن حلفه مع الغنوشي إستراتيجي لا يجامل فيه حتى الطيب البكوش، أحد أعضاء حكومته سنة 2011 وشريكه المؤسس في نداء تونس ووزير خارجيته اليوم. الغنوشي كان يقسم التونسيين إلى إسلاميين وعلمانيين وكان لا يخفي امتعاضه من العلمانيين ويعتبرهم منبتّين. وقد بنى خطابه ومشروعه إبان عودته إلى تونس على فكرة أسلمة المجتمع التونسي، وهنا التقى مع السلفيين. اليوم صار الغنوشي يتحدث عن أن النهضة ليست بديلا عن المجتمع التونسي. وبعد أن كان الغنوشي يعتبر أن الشريعة والعقيدة هما أسسا حركته، صار يشيد بمنجزات الحركة الإصلاحية، ملتقيا في ذلك مع نداء تونس الذي يعتبر نفسه وريثا للحركة الإصلاحية التونسية. كما تبنى الغنوشي، بالكامل، فكرة المصالحة الوطنية التي أعلن عنها الرئيس السبسي يوم 20 مارس واعتبر أن تونس بها ثلاث عائلات سياسية وطنية كبرى هي العائلة الدستورية والعائلة الإسلامية والعائلة اليسارية. ويرى أن المصالحة قد تمّت بين الإسلاميين والدساترة وهو يأمل في أن يتصالح الإسلاميون مع اليساريين، وهو يقصد علاقة حركة النهضة بالجبهة الشعبية أساسا. ولكن يبدو أن ما يريده الغنوشي ما زال بعيد المنال باعتبار إصرار الجبهة الشعبية على اتهام النهضة أخلاقيا باغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. الجبهة الشعبية وهيئتا الدفاع عن الشهيدين تطالب بمحاسبة قيادات من النهضة وتتهمهما بزرع الأمن الموازي الذي يسّر سبل الاغتيال وعطّل مجريات البحث الجنائي والقضائي. لما كانت النهضة تقود الترويكا لم تكن تحتفل بالأعياد الوطنية مثل عيد الاستقلال وعيد الجمهورية وعيد الشغل. بل إن أحد أسوأ اعتداءاتها على النشطاء التونسيين كان يوم إحياء ذكرى عيد الشغل في 9 أبريل 2012 زمن وزارة علي لعريض للداخلية. والسبسي كان قد دعا النهضويين إلى أن يَتَتَوْنسوا. فهل يمكن أن تكون هذه التحولات المتعجّلة نحو التونسة نهائية صادقة، أم هي من تكتيكات المرحلة حتى تمر العاصفة؟ وهل سينجح الغنوشي في تجاوز تهمة الازدواج بين الخطاب والفعل؟ وإلى أين سيقود حركة النهضة؟