مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2025    رئيس الحكومة الإسبانية يشكر المغرب على دعم جهود الإغاثة في فيضانات فالينسيا    هولندا.. استقالة وزيرة مغربية بسبب احداث امستردام الاخيرة    مجلس النواب يصادق بأغلبية على مشروع قانون المالية لسنة 2025    السعدي: حكومة أخنوش تمتلك المشروعية الانتخابية من حصولها على تفويض من 5 ملايين مغربي    الركراكي يكشف تشكيلة الأسود لمواجهة الغابون    زخات مطرية مصحوبة بتساقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية بعدد من أقاليم المملكة    جائزة المغرب للشباب.. احتفاء بالإبداع والابتكار لبناء مستقبل مشرق (صور)    شراكة مؤسسة "المدى" ووزارة التربية    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    جورج عبد الله.. مقاتل من أجل فلسطين قضى أكثر من نصف عمره في السجن    الصحراوي يغادر معسكر المنتخب…والركراكي يواجه التحدي بقائمة غير مكتملة    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت" (فيديو)    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة :جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم        حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل    إجلاء 3 مهاجرين وصلوا الى جزيرة البوران في المتوسط    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    جثة عالقة بشباك صيد بسواحل الحسيمة    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    حماس "مستعدة" للتوصل لوقف لإطلاق النار    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت        هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق        الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماهية الخطأ المهني القضائي الموجب للمساءلة التأديبية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 31 - 07 - 2014

نص الفصل 58 من النظام الأساسي للقضاة على أنه « يكون كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو بالوقار أو الكرامة خطأ من شأنه أن يكون محل متابعة تأديبية».
إن القاضي لا يمكن أن يسأل تأديبيا إلا عن الأخطاء الخطيرة المرتبطة بسلوكيات الوظيفة أو أعمالها ، و تلك قاعدة تهدف إلى تجنيب المجلس الأعلى للقضاء من النظر في الكثير من الأخطاء التي من شأن تحريك المتابعة بشأنها إضفاء مجرد تراكم عددي يضاعف من عمل المجلس ويأخذ من وقته ويبعده عن دراسة الملفات الشائكة التي تقتضي بحثا وتحقيقا معمقا ومداولات وقرارات حاسمة ينتظرها الجميع.
لا شك أن كثيرا من واجبات القاضي ترجع إلى الضمير و إلى المسلك العام ، لكن ذلك لا يمنع من مساءلته عن أفعال محددة وليس عن أفعال عامة، حتى لا يتم النفخ والتضخيم من سلطة التأديب و إبعادها عن تحقيق أهدافها لتشمل أمورا سطحية ومختلقة .
فالخطأ المهني القضائي هو الخطأ الذي يقع من القاضي أثناء ممارسة عمله أو بمناسبته، وبهذا التعريف يخرج عن ماهية الخطأ المهني التصرفات والالتزامات والعقود الصادرة عن القاضي في المجال الأسري والعقاري والمدني كالبيع والشراء والكراء والرهن ونحوه ،لأنه يبرمها بصفته كمواطن له نفس الحقوق وعليه من الالتزامات، وهكذا فإن وقوع خلاف أو منازعة قانونية أو قضائية بشأنها يخول للطرف المتضرر اللجوء للقضاء ، ولا يمكنه التشكي أمام المجلس الأعلى للقضاء لأنه مجلس تأديبي مهني يحاكم تصرفات مهنية وليس محكمة ، ومن ثم لا يملك الفصل في المنازعات القانونية والقضائية المثارة سواء بين القضاة أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم من المواطنين،لأن تخويله النظر في مثل هذه القضايا فيه مصادرة لاختصاص القضاء الأصيل والطبيعي للفصل فيها ،لأن اختصاص القضاء متصل بالنظام العام ، وهو اختصاص مطلق لا يمكن أن تشاركه فيه أي جهة إدارية أخرى تحت طائلة اعتبار البت فيه قرارا إداريا مشوبا بالشطط في استعمال السلطة لخرق قواعد الاختصاص.
على أن هذه القاعدة البديهية يحدها قيدان استثنائيان مهمان ، أولاهما أن ارتكاب أفعال أو تصرفات غير أخلاقية ولو كانت خارج ممارسة المهنة تندرج في إطار الخطأ التأديبي ما لم يشكل الأمر جرما جنائيا ، نفس الأمر ينطبق على الجرائم القصدية المرتكبة من طرف القاضي التي تعد في جميع الأحوال خطأ تأديبيا ، وهنا يتعين إيقاف البت في المتابعة التأديبية إلى حين انتهاء المسطرة الزجرية تحت طائلة عدم المشروعية.
كما أن إبداء القاضي لرأي معين بمناسبة مقال أو ندوة معينة ، لا يمكن أن يعتبر مساسا بالوقار أو الكرامة ، لأن هذا المفهوم يتعلق بالمظهر اللائق أو السلوك الشائن الماس بسمعة القضاء أو بأدبياته ورسالته، فالرأي المندرج ضمن حرية التعبير المكرسة دستوريا يمكن أن يقع تحت طائلة مخالفة واجب التحفظ في حالتي إبداء الآراء السياسية أو النقابية والخروج عن مقتضيات التجرد بمناسبة قضية رائجة.
وفي هذا الإطار ينص الفصل 25 من الدستور على أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها: « حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة».
فالإبداع هو إنتاج الخيال ، وتستعمل فيه الدلالة الرمزية والتصويرية، ولا يمكن قراءته بالقانون الجنائي ولا القانون التأديبي ، إذ الأدب هو موضوع اللذة والقراءة النقدية ، وهو خيال حر وجمال لا يحاكم عليه الأديب .
وحيث إن حرية النقد صورة من صور حرية الرأي والتعبير ، تتيح للأفراد بطريقة غير مباشرة المشاركة في الحياة العامة والإسهام في مواجهة المشكلات وإدارة شؤون الوطن.
وهكذا جاء في قرار صادر عن محكمة النقض :
« القذف لا يتحقق الا بنسبة واقعة معينة مشينة الى الشخص المقذوف على سبيل التأكيد، أما مجرد انتقاد شخص دون توجيه اتهام له بما يشينه وذلك بالتساؤل عن طبيعة التسيير المالي للنادي محل النزاع فلا يعتبر قذفا حتى لو تضمن اسمه، اذ هو مجرد ممارسة لحرية التعبير». قرار محكمة النقض عدد 1643/10 صادر بتاريخ 25 نونبر 2009 ».
كما جاء في قرار قيم للمحكمة الدستورية المصرية ما مؤداه أن «الطعن في أعمال الموظفين العموميين أو المكلفين بالخدمة العامة باعتبار أن هذه الأعمال من الشؤون العامة التي لا يجوز أن يكون الاهتمام بالاستقامة في أدائها والالتزام بضوابطها ومتطلبتها وفقا للقانون مقصورا على فئة من المواطنين دون أخرى، بما مؤداه أن يكون انتقاد جوانبها السلبية وتعرية نواحي التقصير فيها وبيان أوجه مخالفة القانون في مجال ممارستها، حقا لكل مواطن وفاء بالمصلحة العامة التي يقتضيها النهوض بالمرافق العامة وأداء المسؤولية العامة على الوجه الأكمل، ولأن الوظيفة العامة وما يتصل بها من الشؤون العامة لا تعدو أن تكون تكليفا للقائمين عليها. والتزامهم الأصلي في شأنها مقصور على النهوض بتبعاتها بما لا مخالفة فيه للقانون» .
وهكذا فإن نقد الأشخاص المكلفين بمهام إدارة عمومية أو مرفق إداري بشأن أعمالهم لا يقع تحت طائلة التأثيم طبقا لما استقر عليه القضاء المقارن بكون من لا تتسع نفسيته للنقد أن يلزم بيته وألا يقبل بأن يكون مسؤولا، وما خلص إليه قرار شهير لمحكمة النقض الفرنسية بأنه « يمكن لمن يتولى المناصب و المسؤولية في تسيير الشأن العام أن يحصن سياساته من النقد حتى لو تضمن عبارات تقدح في كفاءته و قدرته على حسن الإدارة».
إن الأجدى والأنفع أن لا تتم إحالة جميع المخالفات على المجلس الأعلى للقضاء بدون حصر و تحديد مواطن العثرات و مكامن الزلل بدون تساهل مما يسقطنا في خطر الجمود والتعميم وضررها على القاضي والعدالة أكثر من نفعها ، بأن ينصب روح عمل المجلس على ما يستحق ويصلح كأساس للعقاب بالنظر للاعتبارات العامة والغائية المستهدفة من تحقيق المصلحة القضائية وليس الردع بنوعيه العام و الخاص.
وفي هذا الصدد قال منتسكيو « إن القوانين غير المفيدة تضعف قيمة القوانين الضرورية ونقول في هذا المجال إن المتابعات غير الملائمة تضعف بل و تطرد المتابعات الضرورية»، لأن ما يهمنا هو ضمان فاعلية الجزاء التأديبي وضمان عدم إسراف السلطة التأديبية.
وحيث إن ذلك يستلزم تقييم الوقائع والتصرفات ذات الطبيعة المبررة لفتح المتابعات حتى لا نقول مثل ما قال به بعض الفقه الفرنسي أن القاضي يرتكب خطأ عندما يرتكب خطأ. Le juge commet une faute lorsq?il commet une faute .
ويجب أن تعزز المتابعة التأديبية بما يثبت توافر أركان المخالفة،وأن لا تتضمن ما يعدو أن يكون مجرد خلق لاتهامات وهمية عامة وتصريحات متناقضة لا تقوم على أساس صحيح من الواقع أو القانون .
وهكذا اعتبرت محكمة النقض في العديد من قراراتها منها القرار الصادر بتاريخ 5 فبراير 1962 «إن الادعاءات العارية من كل برهان لا يسوغ أن تعتبر حجة».
كما جاء في حكم للمحكمة الإدارية بمراكش صادر بتاريخ 11 دجنبر 1996 ، وحيث إن القرار التأديبي مبني على مجرد شكوك حول تصرفات الطاعن ،وما نسب إليه من اتهامات خطيرة دون بيان لمدى ثبوت هذه الاتهامات يكون مفتقدا لركن السبب وبالتالي عرضة للإلغاء. وحيث قضى المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 2 شتنبر 2009 «يتوجب على غرفة المشورة أن تكيف الوقائع المنسوبة إلى المتابع ،وهل يعتبر تصرفه إخلالا من جانبه بمبادئ المهنة أم لا » نشرة قرارات المجلس الأعلى المتخصصة الغرفة الإدارية الجزء السادس ص 151 .
جاء في قرار محكمة النقض المصرية « يشترط في الدليل أن يكون صريحا ، ودالا بنفسه على الواقعة المراد إثباتها ،فلا يكفي أن يكون ثبوتا عن طريق الاستنتاج ،مما تكشف من الظروف والقرائن العامة وغير المتناسقة والسائغة تصح لترتيب النتائج على المقدمات ».
جاء في حكم للمحكمة الإدارية بالرباط صادر بتاريخ 5 يناير 1995 «وحيث إن الإدارة ذكرت أسبابا لتبرير قرارها دون أن تدلي بما يثبت صحة هذه الأسباب من الناحية الواقعية ،الشيء الذي يجعل قرارها مشوبا بالتجاوز في استعمال السلطة مما يتعين معه الحكم بإلغائه».حكم عدد 7 ملف 82-94 .
كما جاء في قرار للمجلس الأعلى صادر بتاريخ 10 غشت 1984«إذا كانت للمجلس التأديبي صلاحية تقدير الحجج لتكوين قناعاته ، فإنه يجب أن يبني مقرره التأديبي على وقائع ثابتة ومعينة ومحددة فلا تكفي مجرد عموميات» مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 39 ص 162 .
ويتعين التمييز بين الفروق القانونية بين المشتكي والشاهد والمصرح والضحية، لكون الاعتماد على شكاية المشتكي للتحقق من المخالفة التأديبية دون إبراز الطبيعة القانونية والوصف القانوني للتصريح المعتمد لتبرير المستنتجات يجعله كأن لم يكن.
إن هذا الخلط في هذه المؤسسات القانونية التي تختلف اختلافا جذريا في تقدير تصريحاتها سيؤثرعلى الوصف القانوني للوقائع وعلى سوء تقديرها.ذلك أن تصريحات المشتكي لا تكتسي أي حجية قانونية في الإثبات لأنها دائما موضوع ريبة وشك نابعة من إرادة منحازة وحاقدة وعدوة .
وهكذا اعتبرت محكمة النقض في قرار صادر بتاريخ 19 نونبر 1982 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 31 ص 164 «أن تصريحات المشتكي لا تعتبر شهادة ولا تقوم كعنصر في الإثبات ولا تكفي للإدانة ».
كما اعتبر في قرار آخر صادر بتاريخ 14-4-1961 عدد 483 «المشتكي لا يعتبر شاهدا إلا بعد أدائه اليمين القانونية،وبذلك يجب تحليفه إياها وإلا كان الحكم باطلا» مجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية 1957-1961 ص 191 .
وهكذا اعتبر المجلس الدستوري في قراره الصادر بتاريخ 24 أبريل 1998 «إن التشكي وحده لا يعتبر حجة على الادعاء» القرارات الكبرى للمجلس الدستوري المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 30-2012 .
والثابت من الحديث النبوي الشريف «أنه لو صدق الناس بدعواهم لداعى أناس دماء الناس وأموالهم» .
ولاشك أن اتباع هذا النهج في الإثبات بتصديق المشتكين يشجع على المساومة ، لأنهم هم من يمنحون صك البراءة أو الإدانة وتوريط الأبرياء والاتجار في الشكايات لمجرد الرغبة في الانتقام،مما يضر بقدسية العدالة . وحيث إن علماء النفس الجنائي يرون بأنه يجب الحذر في تلقي أقوال المشتكي محمد الحسيني كروط ،المجني عليه في الخصومة، ص 347 جوزيف كرانيي :الدعوى الجنائية، مجلة العلوم الجنائية عدد 19 ص 7، أكرم نشأت إبراهيم، علم النفس الجنائي ص35 .
و فضلا عن ذلك فالقرائن المرتكز عليها في إثبات المخالفة يجب أن تتوافر فيها شروط صحة القرائن،بأن تكون قرائن متناسقة و قوية و منسجمة ولها صلة بالوقائع التأديبية .
وهكذا جاء في قرار لمحكمة النقض صادر بتاريخ 15-10-2008 «للقضاة كامل الصلاحية في تقدير مختلف وسائل الإثبات المعروضة عليهم ومن جملتها القرائن القضائية متى كانت القرائن قوية وخالية من اللبس ومستمدة من وقائع ثابتة بيقين ولا تقبل إثبات العكس»،الحسن هوداية «وسائل الإثبات من خلال اجتهادات المجلس الأعلى» ،ص 39 .
والمأمول بمناسبة مناقشة مسودة مشروع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة، السير نحو تبني مبدأ الشرعية المعمول بها في القانون الجنائي والقانون المقارن على المخالفات التأديبية للقضاة، وذلك بحصر جميع أنواع المخالفات حصرا مناسبا وتحديد جزاء لكل مخالفة، وذلك لتوفير إحدى الضمانات التأديبية للقضاة و أعضاء النيابة العامة، وهي عدم إساءة استعمال السلطة التأديبية في النيل من استقلال القضاء.
ومن المهم الإشارة في الأخير إلى أن التأديب ليس ملكية خاصة لجهة المتابعة تستعمله متى تشاء وبدون ضوابط قانونية ، وإنما نظام قانوني يستهدف تخليق الممارسة القضائية بهدف حماية حقوق وحريات المتقاضين وصيانة قواعد سير العدالة. لكن يبدو أن الانقلاب على مسلسل إصلاح منظومة العدالة قد تطور ، ما دام أن وزارة العدل قد جعلت رؤوس القضاة المحركين لدينامية هذا الإصلاح هدفا للمتابعات التأديبية والاستدعاءات الترهيبية من طرف المفتشية العامة التابعة لها، وهكذا أصبح التأديب مدخلا للتأثير على استقلالية القضاء كمؤسسة والقضاة كأفراد، لكبح جماح الجرأة والشجاعة الأدبية للقاضي وجعله آلية صماء لقضاء التعليمات .
الدكتور الهيني ومداس السنهوري
يجسد الدكتور محمد الهيني نموذج القاضي المثقف، الملتزم بالقضايا الكبرى للعدالة كقيمة فلسفية، المؤمن حد التوحد، بحق المغاربة في قضاء مستقل ، كفؤ ، وقوي. وبحكم وعيه الشقي بالاستقلالية واحتكاكه كمستشار في القضاء الإداري بشطط الإدارة في استعمال سلطها، وجنوحها عن المشروعية في كثير من القرارات الماسة بالحقوق المكرسة دستوريا للمواطنين، فقد أكسبه ذلك مناعة قوية تجاه الاحتواء والتدجين، ورسخ لديه الاعتقاد بإمكانية بروز قضاء إداري قوي، حام للشرعية، لاسيما بعدما أنصف في كثير من الأقضية المواطنين من تغول الإدارة. وسواء أتعلق الأمر بحق المعطلين في التشغيل وفاء من الحكومة بالتزامها الموثق بمحضر رسمي، أو بحق المعتقل احتياطيا في التعويض عن تقاعس النيابة العامة في السهر على إحضاره من السجن ليحاكم داخل أجل معقول، ظلت أحكام الأستاذ الهيني مرجعا مشرفا للقضاء الإداري والقضاء المغربي عامة ، بجودة عالمية، عاكسة لروح الدستور، ومبادئ العدالة، والمواثيق الدولية المشكلة لشرعة حقوق الإنسان.
ومشكلة الأستاذ الهيني أنه لم يقتصر على تصريف قناعاته الحقوقية في ممارساته المهنية، بل انخرط بكل قوة في الفعل الجمعوي، معبئا، ومشاركا، ككل مثقف عضوي ملتزم، مستفيدا من حضوره القوي في الجامعة، وعلاقات الصداقة العلمية التي نسجها مع أنتلجنسيا كليات الحقوق التي فتحت له أبوابها، مؤطرا، ومحاضرا، ومشرفا على البحوث والرسائل الجامعية.كما لم يتورع عن تقديم يد الدعم للقضاة الذين شاءت الأقدار أن يساقوا تأديبيا للمجلس الأعلى للقضاء، حيث ساهم بمذكرات رصينة في الدفاع عنهم بكل جدارة واقتدار.
إن مسارا كالذي اجترحه الدكتور الهيني لو كتب له أن ينحت في دولة تحترم كفاءاتها، لاستُدعي الرجل على عجل، ولطُلب منه أن يدخر الطاقة التي راح يصرفها مؤخرا منافحا عن مجلس الدولة، إلى حين تشكيل لجنة من خبراء، وفقهاء، وقضاة القضاء الإداري، تناط بها مهمة استكمال البنيان القانوني لدولة الحق، ولجرى تبشيره بعضويتها.
ولأننا في المغرب الذي لا شيء فيه يقع في الواقع كما نتوقعه منطقيا، تشاء إرادة الماسكين بزمام المرحلة أن توجه المفتشية العامة للدكتور استدعاء أشبه في إبهامه بتلك الورقة الزرقاء التي اعتادت الشرطة توجيهها لكل من تراه مفيدا في الاستماع إليه. في حين أن المسطرة الجنائية متعت مجرمي الحق العام بحق الدفع ببطلان الاستدعاء الذي لا يتضمن الأفعال المرتكبة وتكييفها القانوني.
وإذا كانت المفتشية العامة، تمارس مهامها تحت السلطة المباشرة للوزير طبقا للمادة 3 من مرسوم 11/4/2011 المنظم لوزارة العدل، فقد أوضحت التجارب ( استدعاء رئيس النادي، وذ أنس سعدون) أنها مازالت الأداة المثلى التي يمكن لوزير العدل، وهو جزء من السلطة التنفيذية، أن يستقوي بها على السلطة القضائية، لاسيما في غياب تحديد دقيق لمجالات تدخلها في الممارسة القضائية. ومن موقعها المؤسس على الصورة المرهبة المترسخة عبر التاريخ في الذاكرة الجمعية للقضاة، فقد اكتسبت المفتشية حصانة، وهيبة، جعلتها في منأى عن أي نقد، لذلك لم تجد نفسها مجبرة على تعليل استدعاءاتها، ولا تمكين القضاة الماثلين أمامها من حقهم في الاطلاع، والدفاع باعتبار التفتيش مرحلة، أشبه بالبحت التمهيدي الذي قد يفضي للمتابعة.
وإذا ثبت أن لاستدعاء الدكتور الهيني علاقة بممارسة حقه الدستوري في التعبير، فإن ذلك سيشكل لا محالة انتكاسة حقيقية، و نكوصا فوق كل الشبهات عن المكتسبات التي اعتقدنا أننا ننعم بها في ظل دستور 2011 . فضلا عن أنه سيقرأ بدون تأويل على أنه ترهيب للرسول، سعيا لقتل الرسالة، مادام أن الوزارة عبرت بوضوح لا غبار عليه ، بأن الظروف لم تنضج بعد لتأسيس مجلس الدولة، الهدف الذي نذر له الدكتور وقته ومتاعه.
ويبدو أن خطورة الإصرار على حشد الدعم لتأسيس مجلس الدولة، بعدما لاقت الفكرة مؤيدين مدافعين عنها، هي التي لربما عجلت باستدعاء الدكتور الذي يراه أصحاب الوقت عازفا خارجا عن الإيقاع، إيقاع الزمن المغربي الرتيب الذي لا يتحمل مؤسسة من حجم مجلس الدولة قادرة على إلغاء قرارات الدولة. إنه استدعاء بخلفية الخوف من « دولة القضاة» تلك العبارة السحرية التي يلوح بها السياسي كلما أدرك أن القضاء يقف في وجه طموحاته اللامتناهية.
ويكفي لإدراك خطورة مجلس الدولة أن نستحضر ما وقع للدكتور عبد الرزاق السنهوري أب القانون المدني ، والفقيه الذي صاغ الدساتير والقوانين، عندما بدأ وهو رئيس لمجلس الدولة المصري، زمن الثورة في إلغاء قرارات رجالاتها، فألبوا عليه الرعاع ظهيرة يوم 29 مارس 1954 الذين تظاهروا أمام المجلس، داعين إلى سقوطه ، ناعتين السنهوري بالخيانة، فلما طلب منه أحد الضباط الخروج لمخاطبة الجموع وتهدئة روعهم، انهالوا عليه بالسب والضرب، وفتكوا به فتكا في اعتداء مبيت مهين، جعل فقيهنا يغادر المجلس مدثرا في سجادة، موجها اتهامه عند الاستماع إليه بالمستشفى إلى جمال عبد الناصر.
وفي انتظار ما سيكشف عنه استدعاء الثلاثاء المقبل، لا نملك غير الالتفاف حول الدكتور محمد الهيني، مساندين له، ومعبرين عن استعدادنا للسعي معه في نفس الممشى الطاهر، وعبور ذات الصراط الصعب طالما أنه الصراط المستقيم لبناء دولة الحق بسيادة القانون.
الأستاذ حكيم الوردي (باحث في المجال القانوني والقضائي )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.