يتحاشى الكثير من الفقهاء الاعتراف بأن نفاق بعض الصحابة احتل ركنا بارزا في تاريخ الإسلام، ذلك أن هؤلاء الفقهاء دأبوا على استعمال الغرابيل والمصافي من أجل «تطهيره» من كل الشوائب التي علقت به، وعلى محو كل ما من شأنه أن يفضح اشتغال النّظام الديني وآليّاته وغاياته، علما أن الشروط التاريخية لنزول القرآن (أسباب النزول) تفشي العديد من أخبار «المنافقين» الذين كانوا يجالسون النبي، ويلازمونه في مواقف الوحي؛ ومن هؤلاء عبد لله بن أبي سَرْح الذي كان «كاتب وحي» يأخذ عن النبي، ثم ارتدّ عن الإسلام ولَحِق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسّرون أنه لما نزلت الآية 14 من سورة المؤمنون ونصها «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ» دعاه النبيّ فأملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله «ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ» عجِب عبد لله في تفصيل خلق الإنسان فقال: «تبارك لله أحسن الخالقين»، فقال النبي: «هكذا أُنزلت عليّ»، فشكّ عبد لله حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أُوحي إليّ كما أُوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلتُ كما قال. فارتدّ عن الإسلام ولحِق بالمشركين، فنزلت الآية 93 من سورة الأنعام: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى للَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ للَّهُ». ويعتبر عبد الله بن أبي السرح، الذي «كان أخا لعثمان بن عفان من الرضاعة»، من أكثر الشخصيات إثارة للانتباه في تاريخ الإسلام، ذلك لأنه يمثل حالة تكاد تكون فريدة في لحظة التأسيس الأولى، فهو من الصّحابة، ومن المبشّرين بالجنّة، وأيضا من المرتدين عن الإسلام الذين قال فيهم القرآن «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»(سورة البقرة، 217). إنه عبد لله بن سعد بن أبى السرح بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش، العامري القرشي. أسلم عبد لله بن أبى السرح، أوّل مرّة، قبل صلح الحديبية وأوكل إليه محمّد مهمّة كتابة الوحي. ثم ارتدّ عن الإسلام. وهو الذي قيل أنه نزلت في شأنه الآية: «ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل لله» (الأنعام، 93). إن هذه الآية، كما يتضح، تتّهم عبد لله بن أبي سرح صراحة بالافتراء على لله وادّعاء النبوّة، أي الخروج عن النبي محمّد والكفر بربّه. ولما كان النبي يدرك جيّدا التّهديد الكامن وراء هذا الارتداد، فقد كان يعتزم قتله. ولما كان فتح مكة، في السنة الثامنة للهجرة، وكان هُناك أحد عشر شخصاً، من بينهم عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكلهم أمر النبي بقتلهِم ولو وجودوا مُتعلقين بأستار الكعبة. لكنهم لم يُقتلوا جميعاً وإنما قُتل بعضهم وعفى عن بعضهم بعد أن توسط لهم أقاربهم ومعارفهم وأشقائهم وأزواجهم لدى النبي. فأما عبد لله بن خطل فأُدْرِك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله. وأما مقيس بن صبابة فأدركه الناسُ في السوق فقتلوه وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصفة، فقال أصحاب السفينة أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا. هاهنا فقال عكرمة ولله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا (ص) حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء فأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان. ولما وجده عُثمان، قال له عبد لله، «يا أخى إنى ولله اخترتُك فأحتسبني ها هنا، واذهب إلى مُحمد وكلمه في أمري، فإن محمداً إن رآنى ضرب الذي فيه عيناي. إن جُرمى أعظم الجُرم، وقد جئت تائبا. فقال له عُثمان بل تذهب معي، فقال عبد لله: ولله لئن رآنى ليضرب عُنقى ولا يناظرنى، فقد أهدر دمي وأصحابه يطلبوننى في كل موضع، فقال له عُثمان بل تنطلق معى ولا يقتُلك إن شاء لله، فلم يرع النبي أثناء تقديم البيعة إلا بعثمان أخذ بيد عبد الله بن سعد بن أبى السرح واقفين بين يديه فأقبل عُثمان على النبي فقال يا رسول لله إن أمه كانت تحملنى وتمشيه وترضعنى وتقطعه وكانت تلطفنى وتتركه فهبه لي، فأعرض عنهُ النبي وجعل عُثمان كلما أعرض عنه رسول لله بوجهه أستقبله فيعيد عليه هذا الكلام فإنما أعرض عن النبي إرادة أن يقوم رجُل فيضرب عُنقه، لأنه لم يؤمنه فلما رأى ألا يُقدم أحداً، وعُثمان قد أكب على رسول لله يُقبل رأسه وهو يقول يا رسول لله، تُبايعه، فداك أبى وأمي يا رسول لله، فداك أبى وأمى يا رسول لله، تُبايعه، فداك أبى وأمى يا رسول لله…، فقال رسول لله نعم، وبعد رحيلهما التفت إلى أصحابه وقال ما منعكم أن يقوم أحدكم إلى هذا فيقتُله؟ فقال عباد بن بشر ألا أومأت إلى يا رسول لله؟ فوالذي بعثك بالحق إنى لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلى فأضرب عُنقه، فقال النبي: إنهُ لا ينبغي لنبي أن يكون خائنة أعيُن.