الهايكو فن شعري- منثور على ثلاثة أسطر في نفس شعري واحد، بسيط بلا خدع لغوية أو استعارات مفتعلة، يكون بأسلوب موجز وموح، يهيمن عليه تمثل المشهد الطبيعي هنا/الآن في صورة شعرية موحية وبعمق تأملي ، يتفاعل فيها الحس والحدس والتأمل . ويعتبر سامح درويش أحد أصوات الحساسية الشعرية التي برزت في مغرب الثمانينيات والتسعينيات، وأحد الاصوات العربية التي تنحت وجودها الشعري بكل أناة وعمق وإدهاش، بما يختزنه من تجريب إبداعي وتجارب في الحياة . لذا فإبداع الهايكو- ومداراته- ليس مجرد نزوة عابرة بل مراهنة على جمالية شعرية جديدة مختلفة ومغايرة. مقاوما «المجتمع النصي»(د.عبد الرحيم جيران) الذي بلور سلطة قرار في المجال الثقافي- الادبي، تقصي الهايكو من مملكة الشعر العربي أو تشكك في أدبيته بذريعة كونه دخيلا وهو نفس المنطق الذي ووجهت به قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر يعد باشوBASHO (1644- 1694م ) أحد الاعمدة الراسخة في شعر الهايكو الياباني ، بل ان نص «الضفدع» – بترجمة الشاعر عبد القادر الجموسي في» أنطولوجيا الهايكو العربي»2016 – ليعتبر الأكثر ورودا في تاريخ تلقي الهايكو عالميا: بركة قديمة نطة ضفدع صوت الماء نص يشعرنا بأن الهايكو ولد من رحم الماء.. لكن أليس الشعر العربي شكلا من أشكال مكر «الماء» وتمويهاته ؟ ..بدءا من معلقة امرئ القيس :»وليل كموج البحر «مرورا بالسياب «أنشودة المطر» وانتهاء بملاحم محمود درويش البحرية، في هذا الكون المائي المتنوع يبزغ صوت سامح درويش بالإقامة الابدية في الوادي :»وادي- زا» حيث نهر السر الابدي وفضاء الرؤية والرؤيا. هنا حيث تظهر الأشياء أشياءها، دونما قوة من إرادة الشاعر نفسه، وهذا لا يتأتى إلا من خلال اللغة التي تمثل التجلي الساطع للعالم باعتباره سر الاسرار، علما بأن «السر» من معاني الاضداد في اللغة العربية، يجمع معنى الخفاء والحجب ومعنى الوصال والانفصال، وهو ما ينهض به الكلام الشعري. بِصدْقِه الرّقْراقِ، اليوْمَ أسَرَّ لِي وادِي «زَا» : أنْتَ ضِفّتِي الثّالثَة !. وادي يجد مجراه الحي في ديوان «خنافس مضيئة»، وما شعر الشاعر إلا الامتداد الطبيعي لنهر الوادي، لا لأن الماء هو رمز الحياة الطبيعية بإطلاق – فحسب- بل لأنه شكل روحه جماليا حجَرة الوادِي الملْساءْ، ما صقَلَها غيْرُ حنَان الماءْ. تتراءى صورة المشهد الشعري عبر رصد متقابلات دلالية مبنية على المفارقة بين الحجر/الماء ..المادة الصلبة/اللينة ..النتوء/ التقعر.. الثبات/الحركة .. ثنائيات لا يمكن أن تكشف عن القيمة الشعرية الحقيقية ما لم يتم استكناه إيحاءات النص الحيوية وتفاعلاته الجدلية مع الطبيعة ، مجسدة في بنية «كينونة « لا يكتمل تناغمها الجنسي إلا بالماء. إن الجسد باعتباره مادة صلبة وكتلة متنامية، لم يكن له وجود لولا الوجد والوجدان، وما كان ليلين لولا الحنان الانثوي المتجسد في صورة الأم. الماء هو الطاقة اللينة الهشة التي تروض الطبيعة الغريزية ..وتنمي في الطفولة الاحساس برقة الكائن وفي الشاعر عميق الشجن . إن الحجر بما يختزنه من مقدس لهو عند سامح المعادل الموضوعي للغة الموروثة التي يلزم تخليصها من القواعد المحنطة للفكر والشعور وتليينها بماء الشعر، و كأني به يسعى الى رسم صورة خالدة جدلية مبنية على ايقاع البناء/الهدم ..السكون/الحركة ، لتجاوز الراهن المتحجر المعيق لانسياب الجسد وسيولته الشاعرية. بدغْدغَاتِ ظِلّ يدِي، تطِيرُ بهْجةً سمَكاتُ الوَادي. الارتباط الوثيق بالماء لا يمكن إدراك عمقه الا بتأويل عابر للإيحاءات ..التي ينتجها التناظر الخفي بين فعل اليد وأثره ..ألسنا هنا أمام فعل الكتابة باعتباره فعلا يدويا؟ ..وما السمكات إلا الشكل الرمزي لكلمات القصيدة المبهجة، وهي تهم بالطيران، بل إنها تطير من زاوية الرائي، نحو عالم متحرر من شباك الصيادين.. وفخاخ العقلاء… أثر لا يزال مستمرا في الزمن مادام الفعل المضارع هو «حاضر لا ينقطع» بتعبير سيبويه. وقد يستغني الشاعر عن الفعل تماما لأن انكشاف اللحظة يستدعي مدار الهايكو كما في : يا لَصُحْبَةِ الوَادِي ! علَى حَوافِّ قلْبِيَ أيْضًا طُحْلُبٌ أخْضَر. الشعر -هنا – بسيط لكنه متاخم للحافة، يدفع عربة المعنى نحو أفق مغاير لاقتناص غرابة مدهشة. إن ارتياد الشاعر للوادي جعله مسكونا بنهره وكائناته، ومنها الطحلب الاخضر الحي العالق بحافة القلب ،فصرنا نصدق ان الماء هو نفسه جسد الشاعر وقناعه ، كما لو كان الطحلب قصيدة لم تغادر شغاف القلب. إن عالم الوادي ليس إذن مجرد نهر جغرافي ..بل هو المجال الحي الاخضر أيضا الذي خبره الشاعر عبر صحبة طفولية بالغة الاثر، بعيدة المدى، عميقة الغور وبالتالي فالعلاقة بين الطحلب والقلب ليست مجرد علاقة مجاورة، بل علاقة اتحاد طبيعي بما يؤشر على نوع من الحلول بينهما في علاقة عشق أبدية. الهايكو احتفاء عالم الكائنات الضئيلة وشهادة على وجودها، ودون تسميتها الشعرية لن يكون لها وجود. إنه إعلان عن مقاومة النسيان أو اللاوجود، لذا استدعى استحضار السلطعون بالتعريف والتوصيف : بِلا جدْوَى، يُحاوِلُ السّلْطَعُونُ الصّغير عَضّ حِذائي الجَدِيدْ. ..فمن جهة نلاحظ هذا العداء الخفي بين الطبيعي «السلطعون» و»الثقافي» الحذاء على خلاف الطحلب ..ومن جهة أخرى ندرك رغبة الشاعر- الطفل في التضحية بالحذاء الجديد في سبيل متعة قد لا تتكرر. ولعل عزلة الطفل الذي استبدل ملاعبة الاقران بمشاغبة السلطعون لهي ذاتها عزلة الشاعر في استكشاف العالم واختبار نهر الحياة وتحوير الألم الى متعة كما في : غيْر آبِهَةٍ بِطعْمِهِ المُرّْ، بِلهْفَة تجَمّعتْ حَلازِينُ المَاءِ علَى غُصْنِ الدّفْلَى. لكم هي جحودة هاته الحلازين التي تخون الماء الحلو لتختار مرارة الدفلى. الوادي ليس ماء فحسب بل هو فضاء الاحلام وأحلام اليقظة التي توقظ الطفولة من مخملها : بِمَلْمَسِها النّاعمِ، في المَنامِ تُوقِظُني حيّةُ المَاءِ. للماء ملذات وللنهر متعة لا تكتمل إلا بتجاوز مهالكه، ومنها حية الماء التي تشكل كابوس المنام ..إننا أمام رغبة في النوم في حضن الماء المنساب والناعم كالحية التي تجسد الموت ونقيضه.. المعادل الموضوعي لحنان المرأة ورقتها وفي الآن نفسه الرغبة المكبوتة في الاحتماء من عاديات الزمن. نستشعر أن لا شيء يعوق صفو المتعة سوى الخوف اللاشعوري والغريزي من اليباب، وإحباطات اليقظة المدمرة. ألسنا هنا أمام قوة بدائية أسطورية للشعور الذاتي بالرجوع الى الرحم؟ لكن أليست القصيدة هي رحم الشاعر وبها يتحقق ميلاده وانبعاثه؟ كل شيء في الديوان له صلة ما بالماء : حيوانا كان أو نباتا ..رطبا أو يابسا ..وكل شيء يضج بالحياة التي يهددها الفقدان والنسيان ..نقرا : يحُشُّ قَصَب الوَادِي بِمنْجَلِه، يحشُّ ذكْرياتِ العُشّاق. تمنح نصوص سامح إحساسا بالتفاعل النوعي مع الهايكو الياباني في أصوله الكلاسيكية خاصة عند» بوسون» و «إيسا» و» شيكي» حيث يحضر ال»سابي» أي الهدوء والسكينة المشحونة بالشجى و الشجن ، بعين راصدة لصيرورة الكائنات وحدس فعل الزمن في الاشياء والانسان، وتأمل ما تحتفي به الطبيعة من فراغ ونور.. لذا فتيمة الماء لا تحضر فقط في النهر إلا لإضاءة كينونة الشاعر التي تشع فيها عوالم مندمجة ومنسابة في صيرورة للنسخ والاشباه والنظائر. .انزياح عن أصل لا يفتأ يحضر دون أن يكف عن الغياب : الماء هو الأمومة الفائضة بحنانها. والماء هو العشق الراسخ رسوخ الطحلب في القلب والذي لا يتبقى منه غير وشم أو وسم، والماء هو الكلمات الشعرية الممتعة والقصائد المتمنعة التي هي سمكات الوادي المبهجة المنفلتة من اليد .. *** الام والعشيقة والكتابة : تلك تمويهات الماء الماكرة والمخاتلة التي تعطي للجسد الشعري حضوره الوجودي القلق