ما يهمنا نحن في هذه «الحلقات الرمضانية» هو إلقاء بعض الضوء على «حياة محمد قبل النبوة»، وتحديدا على الفترة الممتدة ما بين زواجه من خديجة بنت خويلد ونزول الوحي؛ وهي مرحلة «مظلمة» تستغرق 15 سنة وتدخل بالمستطلع، حسب ما يراه الباحث سعيد السراج، «ظلاماً دامساً إلى حيث لايدري كيف يسير وإلى أين يمضي وماذا يلاقي، فهو لا يحس إلا بخشونة الريب إذا مد يده لامساً، ولا يسمع إلا زمجرة الشكوك إذا مد عنقه مصغياً». والسبب في ذلك أن محمدا لم يكن، عموما، قبل النبوة وقبل أن يشتهر أمره «إلا واحداً من قومه وعشيرته، فلا يهم الناس أمره ولا يعنيهم نقل أخباره ولا التحدث بها في بيوتهم ونواديهم، 2 - خروج ورقة بن نوفل في موضوع رحلات ورقة بن نوفل بحثا عن الإله أو طلبا للدين كما يسمّيها المؤرّخون فإنّه عادة ما يذكر بصحبة زيد بن عمرو بن نفيل، ولم يرد خبر يشير إلى ذهابه تاجرا بل طالبا للدين أو هاربا من انتقام بعد مقتل رفيقه وابن عمه الحنيفي عثمان بن الحويرث: ورد عن سعيد بن زيد أنّ ورقة بن نوفل خرج مع أبيه زيد بن عمرو بن نفيل يطلبان الدين حتى مرا بالشام (الرياض النضرة : 4/337، 338). ورد عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "كان زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل يذكران أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع أبرهة من مكة" (أول سيرة في الإسلام: 72). يذكر ابن حبيب البغدادي أنّ ورقة بن نوفل لحق بأرض طيء فمكث زمانا ثم لحق بالبحرين بعد مقتل عثمان بن الحويرث (المنمق: 158). اختلف المؤرخون في أمر ورقة بن نوفل فبعضهم قال بتنصّره، بينما ورد عن النبي انه قال: "رأيت ورقة على نهر من أنهار الجنة لأنّه كان يقول: ديني دين زيد وإلهي إله زيد" (السيرة النبوية لابن كثير: 1/ 422)، بل إنّ ورقة بن نوفل رثى زيدا بقصيدة قال في بعضها: رشدت وأنعمت بن عمرو وإنما تجنّبت تنورا من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله وتركك أوثان الطواغي كما هيا وإدراكك الدين الذي قد طلبته ولم تك عن توحيد ربك ساهيا (ابن هشام:1/247) هذا ما يجعلني أميل إلى أن ورقة بقي حنيفيا أسوة بزيد بن عمرو بن نفيل، أما قضية تنصّره فكانت قراءة أُريد منها إزاحة تأثيره على النبي، تبنّاها النصارى فيما بعد باعتباره صاحب كنيسة في مكة، وهذا لغط من الكلام ليس إلا، لقد كان حنيفيا ومات وهو على دين زيد. 3 - خروج عثمان بن الحويرث: لا يتحدّث المؤرخون وأصحاب السير عن رحلات عثمان بن الحويرث كطالب للدين أو كباحث عن إله بل كطالب ملك، ويجعلون له أكثر من رحلة باتجاه الشام حيث يلتقي بقيصر وبملك الغساسنة، فيتوّج ملكا من قبل قيصر ويقتل مسموما من قبل الملك الغساني عمرو بن أبي شمّر بتحريض من قريش (المنمق: 154-160)، وهو مَفْصَلٌ مهمّ جدّا في تأريخ الحنيفية في مكة، سأتناوله بالبحث عند التحدّث عن (مملكة الأحناف). 4 - خروج أبي أُحيحة سعيد بن العاصي وأبي ذئب بن ربيعة: لم يذكر أبو أُحيحة في أي كتاب من كتب السيرة أو التاريخ على أنّه كان حنيفيا، وذلك للعداء الشديد الذي كان قد اتّخذه موقفا ضدّ محمد في مكة قبل الهجرة، لكنني أحبّ هنا أن أشير إلى رحلته إلى الشام في اللحظة التي كان فيها عثمان بن الحويرث ضيفا على عمرو بن أبي شمّر أحد ملوك آل جفنة، وقد ورد في الخبر أنّ أبا أُحيحة قصد الشام للتجارة مع أبي ذئب بن ربيعة ليس إلا، أي أنّهما لا علاقة لهما بأمر تتويج عثمان بن الحويرث (المنمق: 156)، لا أريد هنا أن أثير قضية تتويج عثمان، ولكنني أقف عند رثاء أبي قيس بن الأسلت لأبي أُحيحة: وكان أبو أُحيحة قد علتم بمكّة غير مهتضم ذميم إذا شدّ العصابة ذات يوم وقام إلى المجالس والخصوم فقد حرمت على من كان يمشي بمكّة غير مدّخل سقيم وكان البختريّ غداة جمع يدافعهم بلقمان الحكيم بأزهر من سراة بني لؤيّ كبدر اللّيل راق على النّجوم بنو البيت الذي بنيت عليه قريش السّرّ في الزمن القديم وسطت ذوائب الفرعين منهم فأنت لباب سرّهم الصمّيم (البيان والتبيين: 3/ 463). أما أبو قيس بن الأسلت فهو حنيفي من يثرب، قام برحلات طلبا للدين سأتحدّث عنه بعد قليل، فهذه إذن شهادة حنيفي بحقّ رجل يرد في كتب الأخبار بأنّه كافر. وقضية دفاعه بلقمان أي بمجلة لقمان الحكيم فإنّها إشارة إلى معرفته بها، وحكمة لقمان كانت إحدى أهم الأفكار التي حاول الأحناف نشرها وإحياءها بين العرب قبل الإسلام. وإذا ما تمّ ذكر أبي أُحيحة باعتباره كافرا، فقد سقط ذكر أبي ذئب بن ربيعة من الذاكرة، فلم أعثر عليه في (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم، أو (الاشتقاق) لابن دريد، ويذكره الزبيري عرضا أثناء الحديث عن أبي العاصي بن أمية الأكبر (نسب قريش: 33).