لقد كان للمرأة المسلمة، على مر العصور، إسهام كبير في الحركة العلمية، الثقافية والأدبية. بذلك تألقت آلاف النساء في العديد من الشُعب العلمية والثقافية. فالحافظ بن جعفر يقدم في مؤلفه « الإصابة في تمييز الصحابة « سيرة ألف وخمسمائة وثلاثة وأربعين امرأة منهن فقيهات في الشريعة، راويات وأديبات؛ كذلك الإمام النواوي، في كتابه « تهذيب الأسماء واللغات «؛ الخطيب البغدادي في كتابه « تاريخ بغداد «؛ عمر رضا كحالا في « معجم أعلام النساء «، وغيرهم كثير من كُتاب السير الذين خصصوا أعمالهم للنساء اللواتي تألقن في ميدان الفقه، التفسير، الأدب والشعر. منذ عهد النبي، أبانت المرأة دائما عن رغبة قوية في التعلم، في البحث عن المعرفة والتميز في مختلف الشعب التي تتعاطاها. فعائشة، أم المؤمنين، كانت معروفة بتمكنها في مجال القرآن، علوم الدين، الشعر والتاريخ. ويروي هشام بن عروة، استنادا إلى أبيه: « لم يسبق لي أن رأيت عارفا بشؤون الفقه، الطب والشعر أكثر من عائشة «. وكانت هناك نساء أخريات من بينهن فاطمة بنت الحسين، ابن علي، التي كانت من النساء اللواتي تتمتعن بعلم واسع، بذكاء خارق وبورع شديد في زمانهن، ما جعل إسحاق بن هشام يتخذها مرجعا في تحرير سيرة النبي. هناك أيضا نفيسة بنت الحسن، ابن زايد ابن علي، التي كانت تحضر دروس الإمام مالك في المدينة، وكانت معروفة بمعارفها الواسعة. خلال إقامتها بمصر، خلقت ما يشبه حلقة أكاديمية استقطبت خيرة علماء المرحلة، من بينهم الإمام الشافعي الذي كان يتشاور معها في شؤون الفقه وعلوم الدين. وقد تواصلت تلك الاستشارات حتى وفاة الإمام. نذكر كذلك، من بين النساء العالمات، زينب بنت عباس، المنحدرة من بغداد، والتي تعتبر من أبرز علماء زمنها؛ لقد كانت متعودة على حلقات المعرفة التي كان ينظمها ابن تيمية. هناك شهدة بنت العباري وكانت متخصصة في علوم الحديث، تعلم على يدها علماء من قيمة ابن جوزية وابن قدامى؛ ثم حبيبة الاًصبهانية التي تتلمذ على يدها الشيخ المندري الذي تمكن من الحصول على مرتبة « عالم «؛ فاطمة بنت محمد السمرقندي التي تعلمت على كبار أساتذة الفقه وعملت بدورها على نقل ما تعلمته إلى عدد كبير من الطلبة. اشتغلت في التدريس وألفت الكثير من الكتب في الفقه والحديث. أما فاطمة بنت أحمد ابن يحيى، فكانت عالمة أعدت قواعد الفقه وغالبا ما كان زوجها، الإمام المطهر، يعود إليها في تحضير الدروس التي يقدمها لتلامذته. في بلاد المغرب الكبير، هناك فاطمة الفهرية أم البنين التي بنت جامع القرويين بفاس في القرن الثالث للهجرة. وقد اتخذ الجامع مقام الجامعة فور بنائه، وكانت الجامعة الأولى من نوعها في العالم الإسلامي، بل في العالم ككل. كانت فاطمة الفهرية سيدة علم وأفعال خير، كما كان شأن أختها مريم التي بنت مسجد الأندلس في فاس. كما عرفت الأندلس عددا كبيرا من النساء العالمات، نذكر من بينهن أم الحسن، بنت سليمان. وقد حصلت علمها عن راوية حديث ينحدر من الأندلس واسمه باقي ابن مخلد الذي نقل إليها علمه شفويا ومن خلال كتبه كذلك. حجت إلى مكة والتقت علماء الحجاز الذين نقلوا إليها الفقه والحديث قبل عودتها إلى الأندلس. حجت للمرة الثانية وماتت بمكة. ونذكر من بين عالمات المغرب العربي كذلك، أسماء بنت أسد ابن الفرات، التي تتلمذت على والدها، الذي كان صديقا للإمامين الكبيرين أبو حنيفة ومالك ابن أنس. وقد اشتهرت برواية الحديث والفقه تبعا للمدرسة الحنفية. نذكر كذلك خديجة بنت الإمام سحنون، التي يقول عنها الإمام الكبير القاضي عياض في كتابه « ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام المذهب المالكي «، « عُرفت خديجة بحكمتها، علمها و ورعها. كانت النساء تستشرنها في شؤون الدين وكانت قدوة لهن «. ويروي ابن حزم، في مؤلفه الشهير « طوق الحمامة ... «، الذي تُرجم إلى العديد من اللغات، بأن نساء الأندلس كن تمارسن مهنا مختلفة كالطب، التدريس الحياكة. ولم يفته أن يذكر أنه تتلمذ في صغره على نساء أستاذات. تعتبر تميمة، بنت السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين من النساء المتألقات في مجال العلوم، وكذلك أم عمر بن زهر، أخت الطبيب الشهير ابن بكر ابن زهر، التي اشتهرت بمعارفها في الطب النظري والعملي. ومن بين المغاربيات المتألقات نجد أيضا، بيرم، بنت أحمد الديروتية، وكانت متخصصة في قراءات القرآن: كانت لها حظوة قراءة قرآن بيت المقدس أمام كبار المشايخ وقد اشتهرت بتوثيقها للعديد من النصوص المرجعية. مطلع القرن التاسع عشر، عرفت مدينة فاس العالية، بنت العالم الطيب بن قرعان. و كانت تُدرس المنطق بمسجد الأندلس مخصصة بعض الحصص للنساء وبعضها الآخر للرجال. و كانت الظاهرة نفسها موجودة في مصر، في سوريا، في بلاد الرافدين، في فارس، في تركيا وفي الهند. هكذا، يروي العالم أبو الحسن علي الحسني الناداوي بأن نساء عائلته المتألقات درسنه علوم القضاء الإسلامي والأدب. وكان لأخواته إسهام كبير في أدب زمانهن. في الزمن الحديث، تميزت عدة نساء بعطائهن الملحوظ في الميادين العلمية، في الأدب، في القانون، في الطب، في الإدارة وفي غيرها من الحقول المعرفية. بل إن بعض هؤلاء النساء بلغن مستوى رفيعا في مجال تخصصهن. على هذا المستوى، تستقبل جامعات العالم الإسلامي أستاذات متألقات في مختلف الشعب، وقد عرفت بعض هذه الشعب إسهاما لافتا للمرأة في البحث العلمي. و يشهد التاريخ الإسلامي على الإسهامات البارزة للمرأة في مختلف حقول العلم والمعرفة، بينما ظلت مساهمة النساء في مجتمعات أخرى، وفي نفس الفترة الزمنية، محدودة في النشاط الفكري. هذه الحقائق التاريخية، تجعلنا نعتز بمساهمة المرأة المسلمة في الحضارة العربية - الإسلامية وتحثنا على أن نشجع أكثر ولوج المرأة ميادين العلم والمعرفة. و سيسمح لها ذلك بالمساهمة بمؤهلاتها وكفاءاتها لدعم التنمية الشمولية في مجتمعاتنا الإسلامية، اعتمادا على قيم الإسلام والتكيف مع متطلبات التنمية السوسيو ? ثقافية للعالم الحديث. بذلك، ستكون المرأة المسلمة في مستوى استرجاع الدور الكبير الذي لعبته بشكل لافت، عبر تاريخ الحضارة العربية - الإسلامية. إنه ، بالتأكيد، واحد من التحديات التي أصبح علينا أن نواجهها لأن العالم الإسلامي يطمح إلى تحقيق تنمية علمية شمولية يساهم فيها رجاله ونساؤه على حد سواء. لتحقيق ذلك، علينا أن نتمسك بثابتات الإسلام والانفتاح على المرحلة الراهنة من خلال التكيف مع متغيراتها. بذلك، ستجد المجتمعات الإسلامية أمامها مستقبلا مزدهرا أكثر. إنه مجرد موجز عام حول مكانة المرأة في الإسلام. وبإمكان الوضعيات أن تختلف من مجتمع إلى آخر. إلا أن هذا الاختلاف يجد تفسيره في الواقع كما تُمليه العادات والتقاليد، وظروف هذا المجتمع أو ذاك. والأكثر أهمية هو أن نفهم وجهة نظر الإسلام حول المرأة والمكانة التي تحتلها في المجتمع الإسلامي، عبر نصوص الشريعة، تأويل تلك النصوص والأمثلة التي نستمدها من تاريخ المسلمين. صحيح أن العديد من مناطق العالم الإسلامي تعرضت لاعتداءات خارجية، للاستعمار، للغزو الثقافي والاحتلال. في حين أن مناطق أخرى عانت ويلات التخلف والقمع. لكل هذا، فإن العديد من الممارسات الإسلامية اليوم، ومن بينها الممارسات المرتبطة بوضعية المرأة، مشبعة بهذا الإرث المختلف المظاهر والألوان. عن « المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية «