بعد توالي الكشف عن الأسرار، واعتمادا على الوثائق التي كشفها مُطلق صفارة الإنذار، إيدوار سنوودن، أثارت الصحافة الدولية مدى اتساع عملية التجسس على الاتصالات الإليكترونية من طرف أجهزة « لانازا». ما جعل المعلوميات العالمية، وبوجه خاص كبار المزودين الأمريكيين بها، يتحدثون عن عهد الشك المعمم. ويفضح الواقع هنا مختلف القدرات التيكنولوجية التي تعتمدها الوكالة الامريكية. مع توالي كشف إيدوار سنوودن على الأسرار، أخذ الرأي العام، وبوجه خاص مهنيو الأمن الذين فاجأهم، أحيانا، مدى اتساع لائحة الوسائل التقنية المعتمدة في التجسس، يكتشفون العدد الكبير للذين تُخضعهم الوكالة لعمليات التصنت. فهذه الوكالة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، مكلفة بالاستخبارات المعلوماتية، أمن أنظمة الإعلاميات ومعالجة المعطيات. وقد تم تأسيس الوكالة بعد الحرب العالمية الثانية، في سياق استمرارية المجهودات التي كان الحلفاء يبذلونها لتفكيك رموز الرسائل التي كانت تبثها الإذاعات اليابانية والألمانية. وتبلغ ميزانية « لانازا « اليوم ما يقارب 11 مليار دولار وهي تشغل 35 ألف مستخدم. رغم ولادتها ضمن عبادة السر، فقد سبق للوكالة أن عرفت بعض الفضائح ( بوجه خاص برنامج التصنت الذي كشف عنه الصحافي البريطاني دينكان كامبيل أواخر الثمانينيات)، إلا أن مدى اتساعها لم يصل أبدا ما أصبحت الوكالة تواجهه منذ 2013 . فما هو مصدر هذا الكم الكبير من التعاليق القاتلة؟ إنه مستخدم سابق لدى مُناول ثانوي ل « لانازا «، عمل كإداري في نظام قواعد الوكالة باليابان ثم في هاواي. في إطار قيامه بالمهام الموكولة إليه، تمكن سنوودن، البطل بالنسبة للبعض والخائن بالنسبة للبعض الآخر، من الكشف عن عدد مدهش من وثائق الوكالة الأمريكية: قرابة المليوني وثيقة، حسب ما أقرته الوكالة نفسها. إنها أكبر عملية تسريب للمعطيات السرية في تاريخ مصلحة الاستخبارات الأمريكية. بعد اتصاله بصحافيَين في هون كونغ، لجأ مُطلق صفارة الإنذار إلى روسيا. فانطلقت موجة الكشف عن الأسرار في مختلف يوميات الصحافة العالمية التي كان الصحافيان يتعاونان معها. يوم 5 يناير 2013، تناول مقال نظامَ التجسس المكثف على الهواتف. إلا أن موجة الفضح لم تنطلق في الحقيقة إلا في اليوم التالي: تحدثت « الواشنطن بوست « و» الغرديان « عن وجود « برنامج للتصنت على اتصالات الأنترنيت من خلال الولوج المباشر إلى المعطيات التي يتضمنها غوغل، ميكروسوفت، ياهو، أبل، سكايب، وغيرها... إنها أداة لمحاربة الإرهاب «، حسب تصريح السلطات الأمريكية. بعيدا عن أمريكا، يسود القلق كذلك أوساط المقاولات التي تعهد بمعطياتها لبعض الشركات الأمريكية. ورغم كون رجال الصناعة يُنكرون الكشف عن الأنظمة أو ولوجها، فقد علم الجميع فيما بعد أن « لانازا» تتصنت، من خلال برنامج « ماسكيلار» على الاتصالات غير المرقمة التي تمر عبر غوغل و ياهو. لذلك أعلنت الشركتان ، منذ مدة، أنهما ستعملان على تشفير كل المعطيات التي يتم تبادلها بين مركزي معطياتهما. لقد أثار ذلك فضيحة حقيقية لدى الرأي العام ولدى المقاولات كذلك. رغم كون الأمر لم يكن يتعلق سوى بالبرنامج الأول ضمن سلسلة طويلة سيتم الكشف عنها من خلال وثائق إيدوار سنوودن. فبعدها، ظهرت تفاصيل حول القدرات على تحليل المعطيات التي تجمعها « لانازا «، عبر ما يُسمى « بوندلس أنفورمان « ( عبارة عن لوح للقيادة يدل الوكالة على أحجام المعطيات المجمعة في الزمن الحقيقي ) أو « كسكيسكور « ( أداة للبحث في مجموع الأنشطة التي يجريها مرتبط بشبكة الأنترنيت ). ذلك، لأن تجميع عدد مهم من أحجام المعطيات يتطلب، قبليا، إقامة ترسانة حقيقية لتخزين، تنظيم وتحليل كتلة المعلومات المجمعة. إنه تحد كبير، بما أن العديد من التنظيمات كانت غارقة، يومها، تحت إعصار المعطيات التي تُنتجها شركة الإعلام. تلت ذلك عمليات كشف أخرى، بعضها كان بالغ الإثارة، مثلا ما يرتبط بالقدرات التقنية ل « لانازا « ( بإمكان الوكالة مثلا تنفيذ الخطوات التي تصفها وثائق سنوودن). أواخر يونيو 2013، كشفت « الغارديان « برنامج « تومبيرا «، ثمرة التعاون بين الوكالة الأمريكية ونظيرتها البريطانية ( ج س ه ك ). فهذا البرنامج الذي تم التوصل إليه أواخر 2011، يساعد المتجسسين على تحصيل المعطيات بطريقة مباشرة من الخيوط التي تربط الولاياتالمتحدة بأوروبا وتمر عبر المملكة المتحدة. وحسب الوثائق التي جمعها إيدوار سنوودن، يتعلق الأمر بما يفوق 200 خيط. أسابيع قليلة بعد ذلك، كشفت الصحافة، محاولة « لانازا « اختراق قنوات معلوماتية لتجميع كم ضخم من الخيوط، يربط فرنسا ( توجد نقطة انطلاقه بمرسيليا) وإفريقيا الشمالية، الشرق الأوسط ، آسيا وأوقيانيا. يشمل حصاد المعطيات الذي تمارسه « لانازا « كذلك الهواتف النقالة، معطيات جغرافية مركزة مئات الملايين من تلك الهواتف وكذلك كميات هامة جدا من الرسائل القصيرة ( 200 مليون رسالة يوميا سنة 2011، حسب دي غارديان)، تتمكن الوكالة من تخزينها. المقلق أكثر بالنسبة للمقاولات: مطلع شتنبر 2013، كشف إيدوار سنوودن برنامج « بولرون « و موازيه البريطاني « إغهيل « ( يرتبطان مرة أخرى بتقارب الوكالتين البريطانية والأمريكية ). تهدف هذه البرامج، على المدى البعيد، إلى جعل التشفير مستحيلا. فبالإضافة إلى استخدام « القوة الخام « ( قدرة الحساب لدى الحاسبات الفائقة )، تستغل وكالات التجسس ثغرات في بعض العمليات التي تُنجزها أدوات الترقيم، ما جعلها تحصل على تعاون ناشري أنظمة معلومياتية متخصصة أو بعض المزودين بخدمات الولوج ( لاسترداد ترخيص الترقيم )، وكانت تلجأ إلى منهجيات تهدف إلى تحويل معايير التشفير. لذلك وجد أحد الناشرين الرئيسيين لأدوات التشفير نفسه مجبرا على إخبار زبنائه بتفاصيل ما يحدث. وقد شاركت « لانازا » في وضع تصور ذلك النظام الذي أشر عليه، بعد ذلك، أحد المعاهد المتخصصة ( National Institute of Standards and Technology ? NIST). بعد مضي بضعة شهور، أصبح الازعاج غير مطاق لدى البعض، حين كشفت « رويتر « بأن إحدى الشركات كانت تستفيد من عقد قيمته 10 ملايين من الدولارات يربطها بالوكالة الأمريكية. حسب الوكالة الإعلامية، فإن الهدف من ذلك العقد كان هو إضعاف فعالية أدوات الترقيم التيتقترحها الشركة. وهو الهدف الذي كذبه المعنيون. وقد كلف ذلك القرب خسرات عدة للشركة. إذا كانت « لانازا « تمتلك الوسائل « الصناعية « للتصنت، التي تؤهلها لالتقاط كم هائل من المعلومات بكل الطرق، فإنها تمتلك كذلك قدرات كبيرة على عمليات الاختراق المحددة الأهداف. بعد حلول العام الجديد بساعات قليلة، ظهرت وثائق جديدة من التي جمعها إيدوار سنوون، نشرتها « دير سبيغل «، تثبت أن « لانازا « تمتلك مجموعة خاصة للعمليات الاليكترونية الخاصة، اعتمادا على تقسيم متخصص في اكتشاف ( أو اقتناء ؟) الثغرات؛ وتضع الأخيرة (أُ ن ت ) رهن إشارة « زبنائها « تقنيات، مفهرسة في سجل حقيقي للخدمات، تسمح لها بإعداد عمليات التجسس التي تخدم الوكالة، والتي لا تستثني أي شيء. وحسب خريطة نشرتها جريدة هولندية، اعتمادا على إحدى وثائق إيدوار سنوودن، فقد كانت « لانازا « تخترق، سنة 2008، 50 ألف شبكة عبر العالم... مطلع شهر يناير، كشفت « نيويورك تايمز « كذلك أن الوكالة زرعت نظاما للتجسس على ما يقارب 100 ألف حاسوب موزعة عبر العالم. ما كان يساعد « لانازا « على التصنت على تلك الآلات ويمنحها كذلك مُوجها للهجوم كلما فكرت في اختراق شبكات التنظيمات، حيث وُضعت تلك الآلات التي تم اختراقها. وتستخدم الوكالة تقنية تعتمد البث على الموجات الإذاعية، يضمنها رابط مُوجه مزروع في أحد مفاتيح الربط والتخزين أو في الحاسوب نفسه. كما أن واحدة من مثل هذه العمليات المتخصصة هي التي أثارت ردود الفعل الأكثر قوة في أوروبا. فإذا كان التجسس على كبار قادة العالم - ضمنهم إنجيلا ميركل-، أحداثا دولية كبيرة - كمجموعة العشرين في لندن -، مؤسسات كهيئة الأممالمتحدة أو الوكالة الدولية للطاقة النووية، أو الديبلوماسية، لم يُثر سوى احتجاجات محتشمة - من المرجح أن ذلك راجع لاتفاقيات التعاون الموقعة بين البلدان الغربية والولاياتالمتحدةالأمريكية حول التبادل المخابراتي (ذلك هو وضع المصالح الفرنسية مثلا )-، فإن ما كشف عنه جاسوس « بلجكوم « كانت له انعاكاسات على المؤسسات الأوروبية. إن العديد مما تم الكشف عنه، لا سيما ما نشرته « دير سبيغل «، يُثبت أن الاتحاد الأوروبي يمثل أولوية بالنسبة ل « لانازا «، لا سيما حول مواضيع السياسة الخارجية، التجارة الدولية والاستقرار الاقتصادي. إن قرصنة نظام « بلجكوم «، الذي يقدم أيضا خدمات للجنة الأوروبية، لمجلس أوروبا والبرلمان الأوروبي، قد أثار غضب مؤسسات القارة العجوز. فقد تمكنت « لا نازا « ، بتواطؤ مع نظيرتها الانجليزية، من اختراق شبكة العملية البلجيكية بخداعها لبعض المستخدمين بصفحات مزيفة. وتثبت الروايات الأولى لتقرير التحقيق الذي أنجزته لجنة الحريات المدنية، العدالة والشؤون الداخلية التابعة للبرلمان الأوروبي، نوعا من التهدئة تجاه الحليف الأمريكي. فهذا التقرير يدعو، بالفعل، إلى عملية محدودة للاتحاد الأوروبي، بوجه خاص مراجعة المواثيق عبر الأطلسية المتعلقة بتبادل المعطيات، دعم تطوير صناعة أوروبية للتواصل الأوروبي تكون مستقلة عن الولاياتالمتحدة (من خلال حوض الطلب العمومي) أو تقوية متطلبات أمن المعطيات المفروضة على الفاعلين في قطاع الاتصالات أو بعض الخدمات. ويستثني هذا التقوي، بوجه الخصوص، المحفز الوحيد لمحاربة الإرهاب لتفسير مدى اتساع عمليات التصنت التي تحركها الوكالة الأمريكية. علاوة على ذلك، فإن العديد من المؤسسات، أسماء أكبر المقاولات الخاصة، قد ظهرت من بين أهداف « لانازا «، منها مثلا « طوطال وثالس» الفرنسيتين. إخضاع قادة العالم للاستماع تبعا ل « الغارديان «، التي تتبعت بدقة عواقب ما تم الكشف عنه بخصوص ممارسات « لانازا «، فإن الوكالة الأمريكية أخضعت للتجسس المحادثات الهاتفية لحوالي 35 من قادة العالم، بارتكازها على الأرقام التي قدمتها مصلحة أخرى تابعة للحكومة الأمريكية. ولا تُوضح اليومية البريطانية هوية المصلحة التي وضعت سجل عناوينها رهن إشارة « لانازا «، إلا أنها ارتكزت على دليل للوكالة، يرجع تاريخه إلى 2006، يدعو البيت الأبيض، كتابة الدولة أو البانتاغون إلى تقاسم سجلات عناوينهم للقيام بعمليات تصنت. إذا لم يتم توضيح أسماء القادة ال 35، فينبغي أن نسجل بأن أنجيلا ميركل ارتابت من تجسس « لانازا « على هاتفها المحمول. وبعدما صرحت بذلك، اتصلت المستشارة الألمانية بباراك أوباما تطلب منه توضيحات. ولم تكن تبريرات البيت الابيض كافية لطمأنتها. ينبغي التذكير كذلك، بأن القناة التلفزية « أوغلوب « كشفت بأن الوكالة الأمريكية كانت تتبع مكالمات ومراسلات ديلما روسف، رئيسة البرازيل. ما ترتب عنه رد فعل قوي لهذه الأخيرة. تصنت البريطانيين على الإيطاليين لقد تمحورت أشغال القمة الأوروبية المخصصة للرقمي، والتي احتضنتها بريكسيل، حول عمليات التصنت التي كانت تمارسها « لانازا «. ونتيجة لما سبق وأثارته « لوموند « حول تصنت « لانازا « على الاتصالات الفرنسية، بدا أن فرانسوا هولاند يسير على نهج ميركل: الصرامة والإرادة المؤكدة للتخلص من هذا النظام. وهو الموقف الذي لخصه الرئيس الفرنسي في الكلمات التالية: « الحقيقة حول الماضي، قواعد سير بالنسبة للمستقبل «. كانت الحكومة الإيطالية هي الأخرى تحت الضغط، بما أن يومية « ليسبريسو « كانت أشارت إلى نشر تقرير حول التجسس الذي تمارسه « لانازا « داخل البلاد. وبما أن اليومية نشرت النص الكامل للتقرير المشار إليه ، فإنها أثارت أيضا دور الوكالة البريطانية « ج س ه ك»، بتعاون مع « لانازا « في التجسس على الحكومة الإيطالية. لقد كان موضوعا يستحق النقاش بالنسبة لإينريكو ليطا، رئيس المجلس الإيطالي. مهما يكن، وإذا كان الأعضاء ال 28 قد أجمعوا على إدانة الممارسات الأمريكية، فإن المجلس لم يتخذ أي إجراء زجري. كانت برلين وباريس تفضلان حل مدونة حسن السلوك على المخابرات... إنه مخرج سريع لعدم إزعاج الحليف الأمريكي أكثر من اللازم. حماية المعطيات تجدر الإشارة إلى أنه كان سبق للبرلمان الأوروبي أن صوت على ما يبدو، بشكل واضح، أنه الإجراءات الزجرية الأولى الممكنة ضد الولاياتالمتحدةالامريكية: تأطير أكثر صرامة لتحويل المعطيات باتجاه البلدان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وتعليق اتفاقية « سويت «، التي كانت تسمح للولايات المتحدة بولوج المعطيات المتعلقة بالتحويلات البنكية لغرفة المقاصة الأوروبية. إنه اقتراح ثان لم يتبنه المجلس، بينما كانت المناقشات متواصلة حول إصلاح حماية المعطيات... وكانت المملكة المتحدة تعبر عن تحفظها بخصوص نص اعتبرته مكرها جدا للمقاولات. إذا كان الأعضاء ال 28 قد أرجؤوا تبنيه إلى 2015، بينما كانت فيفيان ريدنغ، نائبة رئيس المجلس، ترغب في إغلاق الملف خلال ماي 2014 . « علينا أن نسرع، إلا أن المهمة جد معقدة. فذلك لا يمس الحياة الخاصة فقط، بل إن له تبعات على عالم المعاملات المالية والتجارية «، كما أوضح هيرمان فان رومبوي، رئيس المجلس الأوروبي. ما جعل بعض وسائل الإعلام الأوروبية تستنتج: إن إوروبا لا ترفض التجسس عليها... لكن، ليس من طرف « لانازا « وحدها. عن موقع Silcon.fr