كرة القدم في أمريكا لا علاقة لها بالكرة المستديرة التي يتقاذفها اللاعبون بأرجلهم على الملاعب الخضراء. كرة القدم في أمريكا هي رياضة شعبية تُلعب بالأيدي والأرجل وكرتها مخروطية الشكل وليست مستديرة، ولها بطولة ضخمة يتابعها عشرات الملايين كل سنة وتدر الملايير من الدولارات. كرة القدم كما هو متعارف عليها عالميا تسمى هنا «صاكْر» وتلعبها الفتيات أكثر من الصبيان في المدارس الابتدائية والإعدادية وحتى الثانوية، وعادة لا تهتم بمبارياتها سوى بعض الشبكات الرياضية المتخصصة، لكن كل ذلك تغير يوم الإثنين الماضي عندما واجه المنتخب الأمريكي نظيره الغاني ضمن منافسات كأس العالم الجارية في البرازيل. فجأة اكتشف الجمهور الأمريكي أن رياضة ال»الصاكْر» يمكن أن تكون ممتعة ومُشوّقة، وارتدى كعادته في المناسبات الوطنية قمصانا وسراويل قصيرة بألوان العلم الأمريكي: الأبيض والأحمر والأزرق، فيما اكتفت الحسناوات الأمريكيات بارتداء لباس بحر مثير من قطعتين تزينه النجوم البيضاء، والتحفن بأعلام ضخمة ولامعة، وخرجن إلى الساحات العامة من أجل مشاهدة لعبة عجيبة هي عبارة عن كرة مستديرة يتقاذفها رجال أشداء ويلهثون وراءها إلى أن يسددونها في شباك «الخصم» الذي يصافحونه في نهاية المباراة! في واشنطن العاصمة، ارتدى الكثير من الشباب قبعات ضخمة بألوان علم بلادهم وجلسوا في بعض الساحات العامة يسألون عن كأس العالم: ما هي؟ أين تقام؟ لماذا تقام كل أربع سنوات فقط؟ ولماذا لا تستضيفها أمريكا بشكل دائم!! انتهى هؤلاء الشباب من أسئلتهم التي كانوا يوجهونها لمهاجرين عرب وأفارقة تجمعوا معهم أيضا في بعض الساحات العامة والبارات والمقاهي التي تنقل مباريات كأس العالم، وبدأوا يشربون نخب منتخبهم بنهم شديد، مطالبين بالإنتقام من غانا التي أخرجتهم من هذه البطولة مرتين في الماضي القريب. لم يتأخر الحماس كثيرا، إذ سرعان ما انطلق اللاعب الشاب كلينت ديمبسي جاريا في اتجاه مرمى المنتخب الغاني مباشرة بعد انطلاق المباراة، وسجل هدف السبق في الثانية 32، وهو الهدف الذي كاد يطيح بعقل الجمهور الأمريكي. حتى المعلقين على التلفزيون أصيبوا بالدهشة ولم يستوعبوا الأمر في البداية، لكنهم استأنفوا التعليق بطريقة هوليوودية خالصة: هذا هو المنتخب الأمريكي الذي يقاتل من أجل الوطن.. من أجل رفع العلم عاليا في سماء العالم رغم التحديات.. هذه هي الروح الأمريكية التي لا تهزم.. وفجأة سجّل اللاعب الغاني أندريه إيوو هدف التعادل، فصمتوا! لكن حماس مدرب المنتخب الأمريكي، الألماني يورغن كلينسمان، لم يفتر أبدا طوال المباراة، كان يصرخ بشدة ولا يكف عن رمي توجيهاته في وجه اللاعبين، ثم يغطي عينيه كلما اقترب لاعب غيني من المرمى الأمريكي، إلى أن سجل اللاعب جون بروكس هدف الفوز لأمريكا في الدقائق الأخيرة من المباراة. ومباشرة بعد انتهاء المباراة، استعرضت الشاشات العملاقة المعلقة في الساحات العامة والشواطئ بمعظم المدن الأمريكية كيف يحتفل الأمريكون في البرازيل وحول العالم بفوز منتخبهم، حتى الجنود الأمريكيون العاملون في أفغانستان كانوا يشاهدون المباراة وخلفهم علم ضخم يغطي حائط القاعدة العسكرية التي حشروا فيها ليشاهدوا المباراة وهم يشربون قناني البيرة الباردة. قال المعلقون إن المباراة كانت لحظة «وطنية أمريكية» بامتياز، وأعادوا بث تصريحات المدرب كلينسمان الذي قال إن «المنتخب الأمريكي لن يكون الحصان الأسود في هذه البطولة أبدا»، وأثنوا على قيادته وشخصيته ووسامته وكل شيء فيه! يوم الإثنين الماضي اكتشف الأمريكان رياضة ممتعة إسمها كرة القدم، لكنها لا تشبه كرة قدمهم التي تسمى «أميركان فوت بول»، وشعروا بفوز صغير تجمعوا حوله واحتفلوا به قبل أن يناموا ويستيقظوا في اليوم التالي على الخلافات السياسية التي تفرق بينهم وتجعلهم يكرهون بعضهم لدرجة التهديد بإعلان الإنفصال عن الاتحاد الفيدرالي كما فعلت ولايتا تكساس وألاسكا!