يكتسي الحديث عن الطبقات الوسطى ، في سياق مسار تطور المجتمعات المعاصرة ، طابعا سياسيا بامتياز، وذلك لسبب رئيسي يتجاوز في أهميته باقي الأسباب التي يقف عليها في العادة الباحثون الاقتصاديون أو الدارسون والمحللون المنشغلون حصريا بصياغة النماذج الاجتماعية السلوكية الجماعية. إن هذه الطبقة ، التي تتشكل من شرائح اجتماعية يجمع بينها رابط احتلال وسط الهرم الطبقي في المجتمع ، بالموقع والدخل والوضع المادي والاعتباري ، تلعب دورا محوريا في بلورة الوعي السياسي الجماهيري العام ، المتجاوز في مداه لحدود تمثيل المصالح والضيقة لأعضائها المباشرين ،وهي مهمة تكاد تنفرد بها لوحدها ، مهمة تستعصي ، كما أثبتت التجربة التاريخية في مختلف الأقطار والمجتمعات على باقي الطبقات الأخرى الموجودة على الطرفين النقيضين في الهرم الاجتماعي . وليس صدفة أن نجد أن التطورات السياسية العادية والطبيعية في كافة المجتمعات ، حينما لا تلجمها قوى أو كوابح غير طبيعية ، تفضي في المحصلة إلى نفس النتائج وإن اختلفت الظروف والسياقات ، نقصد كونها تسند لفعاليات الطبقة المتوسطة الدور المحوري ، الرائد والاستراتيجي في تحريك مجريات العمل السياسي و صناعة أدواته وتصريف الفعل في مختلف مجالاته ومؤسساته الوطنية والمحلية ، كما تسند تلك التطورات الطبيعية لعناصر الطبقات الوسطى الدور الرائد ، الموجه والمؤطر للعمل النقابي والمدني الجمعوي . وعلى عاتق عناصر تلك الطبقة تقع دائما مهمة تنشيط العمل في الواجهات الأخرى التي تريد المجتمعات أن تقدم نفسها من خلالها في صورة الكيانات والهويات الجماعية المتراصة ، وليس الأجزاء الاجتماعية المتناثرة المتشظية أو المتناحرة . وحينما نتأمل المشهد السياسي/الاجتماعي في بلادنا على امتداد عقود ما بعد الاستقلال ، وإلى مرحلة قريبة نسبيا ، فإننا نرى أننا لم نشد عن تلك القاعدة السياسية العامة بخصوص الدور الريادي الذي اضطلعت به الطبقة الوسطى في رسم معالم التطور المجتمعي العام وتحديد مساراته الكبرى . بالطبع يمكننا أن نقر بحصول مشاحنات ومقارعات أيديولوجية خلال فترة السبعينيات وجزء من الثمانينيات الماضية خاصة في أوساط اليسار بخصوص مفهوم الطبقات الوسطى ، ومدى مرونة واتساع أو ضيق المفهوم ، ووصلنا - أو وصل البعض منا على الأقل - في ظل تلك المشاحنات في بعض الأحيان إلى توصيفات غريبة من قبيل الاستمرار في نعت صغار الموظفين والحرفيين وصغار التجار بالبرجوازيين الصغار!!حتى حينما كان طوق الفقر والحاجة قد بدأ يطبق عليهم بكامل العنف والقوة يضطرهم إلى الاقتراض المفرط ويلغي من أجندا تهم كل ما له صلة بالعطل ومصاريف الترفيه !! وبالطبع أيضا والقطع فإن أحزابنا السياسية الوطنية والتقدمية -باختزالية مفرطة نستطيع اليوم، بصفة بعدية أن نعدها نوعا من الذنب الأصلي peche originel,كانت له أعطابه العرضية ، لم تفسح المجال لكل مكونات الطبقة الوسطي ، في الحقل المقاولاتي والتجاري والخدماتي لدخول معترك التأطير والتنشيط السياسي والمؤسساتي بحيث قصرت ( بفتح الصاد مع تشديدها) ممارسة هذه المهام لمدة طويلة على بعض الفئات في قطاعي التعليم والمحاماة . ومع ذلك ، وحتى مع وجود هذه الحدود الذاتية الصنع، فإن الطبقة الوسطى في المغرب ظلت إجمالا خلال أزيد من ثلاثة عقود من الزمن الخزان الأول للأطر والفعاليات السياسية المؤطرة للحقل السياسي والمستودع الأساسي للوعي الاجتماعي الجماهيري الذي لا تحده معطيات التمثيلية الطبقية الضيقة . خلال تلك الفترة كانت روابط التضامن بين مكونات الطبقة المتوسطة - وهي متباينة نسبيا في سعة اليد والإمكانات - روابط قوية تعطيها هوية موحدة وأرضية تحتية صالحة لبناء الرؤى والتصورات الجماعية . وكان ذلك بكل تأكيد مصدر قوة وحافزا على الحضور الميداني القوي لهذه الطبقة . وبسبب هذا الموقع السياسي / الاجتماعي تمكنت الطبقة الوسطى في المغرب من أن تفتح ، في جو من الثقة الكاملة جسور العمل المشترك مع مختلف الفئات الاجتماعية في الحلقات الدنيا والأضعف ضمن الهرم الاجتماعي ، بل تمكنت ، في هذا المسار من أن تختط لنفسها مواقع قيادية لنضالات الطبقة العاملة وعموم المأجورين دون ضيق أو عنت أو تشنجات . إن المطل على المشهد السياسي في راهنيته الأكثر بروزا من ثنايا التفاصيل اليومية يكتشف بكل وضوح كم أصبحت هذه الصورة بعيدة عن واقع الحال عندنا ، صورة الانسجام في مكونات الطبقة المتوسطة والصفاء في وظيفتها السياسية . إن هذه الصورة باتت تنتمي إلى الماضي . لن نقف عند السياسات الاقتصادية التي قادت ، بصفة تدريجية إلى تضييق الخناق على الطبقات الوسطى في بلادنا والتي أدت لا فقط إلى تعطيل الحركية الاجتماعية social mobility وما كان المرحوم محمد جسوس يسميه بالجاذبية السفلى وما يسميه السياسيون الأنجلوسكسونيون اليوم بتعصيرالطبقات الوسطىmiddle class squeeze .أي حينما تعجز المداخيل عن الوفاء بمستلزمات كانت من صميم مستوى معيشة معينة . لن نقف عند تأثير السياسات العمومية في المجال الجبائي والسكني والتعليمي على مستوى تعصير أو عصر الطبقات الوسطى عندنا ولا على تأثير سياسات الأبناك ومؤسسات الائتمان المختلفة مما تم التطرق له في أبحاث ودراسات متعددة ، . ما أود إبرازه والتأكيد عليه هو ثلاث حقائق أساسية تفرض نفسها على كل ملاحظ موضوعي للعلاقة بين حال الطبقات الوسطى والتطور الديمقراطي عندنا كما عند غيرنا : أولا : إن إضعاف الطبقة الوسطى في المغرب، كمسلسل اتخذ صيغا متعددة واعتمد سياسات وآليات متباينة لم يؤد فقط إلى الإضعاف الاقتصادي لطبقة وإفقاد روح الانسجام والتوازن الاجتماعي العام، وهو الأسمنت الأول للاستقرار، بل إنه، علاوة على ذلك، عمل ويعمل على إضعاف الحقل السياسي برمته ، بحرمانه من عطاء مكونات طبقة أضحت تهجر ،اضطرارا أو امتعاضا أو يأسا ذلك الحقل ، تاركة الباب مفتوحا إما لاستشراء الشعوبية وإما لتسلط مركب مصالحي ولوبيات لا تملك في قاموسها أصلا ما يحيل إلى شيء اسمه المشروع المجتمعي العام. أو إلى صيغة ما تلتقي فيها مصالح وحسابات الطرفين. ثانيا :لا تقدم تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة في أمريكا اللاتينية ولا تجارب الإقلاع الاقتصادي السريع الناجحة في أسيا من الصين إلى ماليزيا إلى سنغافورة أي نموذج أو حالة عن انتقال ناجح مع تفقير للطبقات الوسطى أو إقلاع رصين يترافق مع تفقير هذه الفئة ، بل على العكس من ذلك، فإن مسلسلات الانتقال الديمقراطي ( أمريكا اللاتينية) والتطور الاقتصادي الهائل ( الصين ، ماليزيا ، سنغافورة ) تترافق مع توسع مضطرب للطبقات الوسطى . إن هذا التوسع صار المؤشر الأول لقياس التطور على الواجهتين معا ، واجهة الانتقال الديمقراطي وواجهة التطور الاقتصادي.. ثالثا: إن نفس التجارب لا تبين وجود أية رابطة سببية أو تعالق ما correlation بين تطور حال الطبقات الفقيرة وتدهور وضعية الطبقات الوسطى ، وبمعنى آخر، فإن ما قد تخسره الطبقات الوسطى لا ينعكس إطلاقا على الطبقات الدنيا باتجاه التحسن ، فالعملية ليست كما يقال في نظرية اللعب game theory من نوع لعب الحصيلات المتوازنة ، بل إن التجربة على العكس من ذلك تماما تبين أن توسع الطبقات الوسطى يحمل دائماً في طياته ( تجربة أقطار أسيا الصاعدة ) جاذبية عليا تستفيد الطبقات الشعبية من مفاعيلها الإيجابية . وإذن فإن تفقير الطبقة المتوسطة وتعصيرها، كائنا ما كانت المراهنات، هو قفزة في المجهول وزرع لأشواك إضافية في الطريق نحو المستقبل . وهو في كل الأحوال مناقض لمتطلبات إنجاح تطورنا المنشود.