حينما ينبري خطيب مسجد متحدثاً أمام الناس بأبشع النعوت عن منشطة تلفزيونية، في ما يشبه النميمة ورمي الناس بالباطل... وحينما يجاهر رجل دين بتكفيره لمسؤول سياسي، لا لشيء سوى لكونه تحدث في أمر من أمور الفقه والتشريع... وحين يقوم وزير في الحكومة بتقريع صحافية جاءت لتؤدي مهمتها الإعلامية في البرلمان، لمجرد أن لباسها لم يعجبه... وحين تقوم قائمة البعض في وجه ناشط أمازيغي، محرّضين على قتله، بسبب طريقته في التفكير وفي الدفاع عن قضيته اللغوية... وحين تشن طائفة من الناس حملة شعواء على مدير مؤسسة فنية كبيرة، بسبب مزاعم «التطبيع» مع إسرائيل... عندما تتوالى هذه الوقائع تباعاً خلال أقل من سنة، وفي بلد معين كالمغرب، ألا يمكن القول إننا إزاء بوادر نزعات نفسية / سلوكية بصدد التشكل والنمو، قد تتحول إلى ظاهرة إذا تفاقمت ولم تجد العلاج المناسب؟ ألا يتعلق الأمر بنزوع نحو «التعصب» الذي يعني في أبسط تعريفاته رفض الآخر، وعدم الرغبة في تقبل آرائه ومعتقداته ونمطه في التفكير وأسلوبه في الحياة؟ الأمثلة التي سُقناها ليست سوى غيض من فيض، وقد تضرر منها مواطنون يتمتعون بكافة حقوق المواطنة، فضلا عن كونهم شخصيات تنتمي إلى عوالم الإعلام والسياسة والفكر والفن، وهم بالتتالي: نسيمة الحر (المنشطة التلفزيونية بالقناة الثانية)، إدريس لشكر (الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، خديجة الرحالي (الصحافية بجريدة «العاصمة بوست»)، أحمد عصيد (الباحث والناقد والناشط الأمازيغي)، نور الدين الصايل (الناقد السينمائي والمدير العام السابق للمركز السينمائي المغربي). بخصوص هذه الحالات وغيرها، نجد أنفسنا أمام أنواع من التعصب، بعضها راجع إلى تأويل خاطئ للدين، وإلى محاولة «احتكاره» وتنصيب البعض أنفسهم أوصياء على نمط تفكير الناس وطريقة لباسهم وعيشهم. ونوع آخر من التعصب ذو طبيعة سياسية، حيث تُستعمل ورقة «التطبيع» مع إسرائيل كفزاعة لترويع بعض أصحاب الفكر المخالف؛ والحال أن القضية تحتمل نقاشا طويلا، وليست فيها أحكام قطعية ومتفق عليها من طرف الجميع. فما يمكن أن أراه أنا تطبيعاً، قد يراه غيري حواراً مع الآخر، حتى وإن كان غير متفق معه. أما الصنف الثالث من التعصب، فهو ذو طبيعة عرقية، حيث يُجاهر أشخاص بالعداوة والبغضاء لمن يدافع عن الأمازيغية بحماسة ورباطة جأش ونضال مستميت. الخطير في المسألة أن هذا التعصب تُصاحبه ردود فعل غير محمودة العواقب، فعندما تُشهَر ورقة الردّة في حق شخص معين، وعندما تُنعَت إعلامية معينة بأوصاف تتعلق بالإساءة إلى الآداب العامة من طرف رجل دين أو رجل سياسة، ألا تكون الشخصية موضوع الاتهام ذي الطبيعة الدينية أو الأخلاقية عرضة للخطر؟ بمعنى أوضح، أليس في القضية تحريض على إراقة الدماء؟ «التعصب» يؤدي إلى الكراهية وإلى الإلغاء، لأنه مرادف لأحادية التفكير، وللتمركز على الذات، واعتبارها وحدها مصدرا للحقيقة والصواب، وأن ما عداها لا مكان له على وجه البسيطة. والشخص المتعصب يرى أن الدين وحده له فقط، وأن الوطن له فقط، وأن اللغة له فقط. هو وأمثاله من يمتلكون جدارة الحياة الدنيا ونعيم الآخرة. أما «الآخر فهو الجحيم»، حسب العبارة الفلسفية الشهيرة لسارتر. لا مكان في قاموس المتعصب للانفتاح على الغير وللإنصات إلى الرأي المخالف ولمجادلته وفق آداب الحوار التي لخّصتها مقولة الإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». اللافت للانتباه أن تلك النزعات التعصبية التي طفت على الساحة المغربية مؤخراً، تتعارض مع المسار الرسمي الحالي للدولة، والذي يكرّس قيم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا وينبذ دعاوى التحريض والعنف. ومن هنا، يحق لنا أن نتساءل: ما الذي أدى إلى تنامي تلك النزعات بهذه الكثافة خلال الفترة الأخيرة؟ بتقديرنا، هناك عوامل متعددة غذّت وتغذّي تربة التعصب بشكل مباشر أو غير مباشر، من ضمنها الموقف من السياسة الأمريكية في أفغانستان والعراق والتي ولّدت لدى الكثيرين في العالم العربي وضمنه المغرب شعورا بالاضطهاد النفسي، بالنظر لنتائجها الكارثية في الأرواح والعمران، وولدت أيضا شعورا بالكراهية والنفور من «مصدر الشرور»، وفق فهم سطحي ومختزل. وتزامن ذلك مع حالة الإحباط لدى الكثيرين الناتجة عن فشل المشروع القومي العربي على المستوى السياسي، مما أدى إلى ترسخ فكرة الدولة القطرية في إطار حدودها الضيقة، حتى وإن دخلت بعض البلدان في تكتلات جهوية (حالة الخليج العربي). كما أنه لا ينبغي استبعاد تأثير الفكر الوهابي المتشدد في تكريس النزعات الأصولية المتشددة، وهو فكر يجد مجاله الخصب عبر مجموعة من القنوات الفضائية والأسطوانات المدمجة والكتب التي تباع بأثمان بخسة في أماكن عديدة. يضاف إلى ذلك أنه مع قيام حركات ثورية في بعض الأقطار العربية خلال السنين الثلاثة الأخيرة، وجد المتشددون في المغرب نوعا من الشحن العاطفي عبر هذا السياق العربي الذي أطاح برموز سياسية، وأيضا عبر السياق المحلي الذي قاد حزبا ذا مرجعية دينية إلى قيادة الحكومة في إطار تجربة ديمقراطية سلمية سلسة. والغريب أن عدداً من قيادات الحزب نفسه الموجودة في الحكومة تمارس نوعا من «الدوغمائية» في خطابها ومواقفها، فتجاهر بالعداوة تجاه إعلاميين بعينهم وتجاه صحف بعينها. ما العمل إذن؟ صحيح أن ثمة قوانين تجرّم دعوات الكراهية والقدح والتشهير بالناس والتحريض على العنف كالقانون الجنائي وقانون مكافحة الإرهاب وقانون الصحافة... ولكن الترسانة القانونية وحدها لا تكفي، بل لا بد من إشاعة ثقافة حقوق الإنسان التي تكرّس حرية التفكير والتعبير والاعتقاد، وتضمن حق الاختلاف والاعتراف بالآخر وتشدّد على التسامح؛ وذلك عبر هيئات المجتمع المدني والأحزاب الديمقراطية ووسائط الاتصال الجماهيرية والمؤسسات التعليمية، فضلا عن دور المؤسسة الدينية الرسمية (المتمثلة في «المجلس العلمي الأعلى» الذي يرأسه الملك باعتباره أمير المؤمنين) في إبراز مبادئ الوسطية والاعتدال والسلم، بمواجهة نزعات التشدد والتعصب والكراهية. [email protected]