تميزت السنة الأولى لمرحلة الاستقلال بالتلاحم بين الملك والشعب، وقد أفضى هذا التلاحم إلى تقييم مشترك للمرحلة بين الملك ومختلف القوى السياسية، باعتبارها مرحلة انتقالية تقتضي تحولا تدريجيا، وهو ما عبر عنه السلطان محمد الخامس رحمه الله في أول خطاب للعرش بتاريخ 18 نونبر 1955 حين قال: «إن أول خطوة يجب أن يخطوها مغرب الاستقلال هي تأسيس حكومة عصرية مسؤولة، تعبر تعبيرا حقيقيا عن إرادة الشعب، وتجعل من بين المهام التي تباشرها، مهمة وضع أنظمة ديمقراطية على أساس الانتخاب وفصل السلط، في إطار ملكية دستورية قوامها الاعتراف لجميع المغاربة على اختلاف عقائدهم، بحقوق المواطن، وبالحريات العامة والنقابية». ففي ظل هذا التوافق من أجل بناء وتشييد دعائم المغرب المنشود، تم تأسيس المجلس الوطني الاستشاري، كأول مؤسسة تمثيلية وكإطار للتشاور وتبادل الآراء، وما يصعب عملية التعريف والتأريخ لهذا المجلس هو ضعف الكتابات حوله، بل وغياب أرشيف مدقق يتكلم عنه، حيث يشير الفقيه التطواني في أحد كتاباته في الموضوع:»...بدأت مع دنو نهايتي الإدارية التي قضيت منها ما يقرب من ثلاثة عقود في البرلمان، أقلب في صفحات الماضي لعلي أستخلص منه ما أجعله حيا في ذاكرة الحاضر والمستقبل، وأراجع ما طوته السنون من تراث المجالس السابقة، لتكون في متناول الباحثين من قصاد هذه المؤسسة وغيرهم ممن له ولع بتتبع أثارها وشغف بالاطلاع على مختلف أوجه نشاطه....كان علينا أن نبدأ من حيث انطلق المسلسل الديمقراطي بالمغرب أي مع بداية أول مجلس وطني استشاري ....شرعنا ننقب في دفائن خزانة المجلس لعلنا نجد لهذا الموضوع أثرا نقتفيه فلم نعثر في رفوفها على ما يشفي من علة أو يطفي ظمأ غلة». وهكذا يقدم المجلس الوطني الاستشاري في الكتابات التاريخية عن الحياة البرلمانية ببلادنا رغم قلتها ومحدوديتها، بكونه أول برلمان مغربي تعرفه الحياة السياسية، ومحاولة لملء الفراغ في انتظار أن يهيأ الدستور، وهي مؤسسة برلمانية وجزء من الذاكرة الوطنية، مؤسسة أنتجت تشريعيا وراقبت حكوميا وساءلت وزاريا، وساهمت في بناء مؤسسات عديدة في هذه المرحلة التي سعى فيها المغرب إلى تأسيس أعمدة الدولة وأجهزتها بعد الحصول على الاستقلال، وجاء في خطاب محمد الخامس بمناسبة تأسيسه: «...إن تأسيس هذا المجلس حدث عظيم بالنسبة لبلادنا، بل إنه من أهم الأحداث التي تمت في عهد الاستقلال، ونحن لا ندعي أنه أكثر من كونه خطوة أولى نحو الهدف المنشود، أما الهدف الذي لن ندخر جهدا في العمل على إبلاغ شعبنا إليه، فهو حياة نيابية بالمعنى الصحيح، تمكن الشعب من تدبير الشؤون العامة في دائرة ملكية دستورية، تضمن المساواة والحرية والعدل للأمة أفرادا وجماعات، حتى يتم بذلك خلق ديمقراطية مغربية بناءة....». ففي 17 غشت 1956 صدر بالجريدة الرسمية الظهير الذي يؤسس بمقتضاه المجلس الوطني الاستشاري، ويتكون من أربعة أبواب وتسعة عشر فصلا. يشير الفصل الأول إلى أن مجلس «يمثل الرأي العام الوطني في الظروف الراهنة تمثيلا واسعا بقدر الإمكان»، أما الباب الأول فيتضمن اختصاصات المجلس، حيث «يؤخذ نظره في ميزانية الدولة العامة وفي الميزانيات الإضافية من جهة، كما يستشار في جميع القضايا التي تقتضي نظر جلالتنا عرضها عليه، وبالأخص منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويبدي رأيه بواسطة الاقتراع...»، وهكذا تأسس المجلس الوطني الاستشاري في 12 نونبر 1956، بعد تسعة أشهر على استقلال المغرب، وبعد ثلاثة أسابيع من تكوين الحكومة الثانية برئاسة امبارك البكاي. لقد اعتبر المجلس استشاريا لدى الملك من دون صلاحيات تقريرية أو تشريعية، بموجب الاتفاق على حساسية المرحلة التي يجب أن تنطلق بهذا النهج التمهيدي في أفق التحول نحو صورة أكثر ديمقراطية؛ وهو ما عبر عنه محمد الخامس خلال افتتاح هذا المجلس، في خطاب جاء فيه: «....إننا نرجو مراعاة المرحلة التي تجتازها بلادنا ومعرفة ما يمكن تنفيذه وما يتعذر تحقيقه من الرغبات، فإن ذلك ضروري لعدم إضاعة الوقت في دراسة مسائل لم يحن إبانها، أو لا يمكن في الوقت الحاضر إنجازها... «، وأضاف «...وليس معنى ذلك أننا مطمئنون لهذه الطريقة، بل إننا متيقنون أن الانتخابات الحرة، هي أقوم وأنجع سبيل لضمان إقامة ديمقراطية سليمة، ونحن عازمون بحول الله على تغيير أوضاع هذا المجلس بمجرد ما تتيسر السبل لذلك، من تمهيد للطريق، ووضع إطار للحياة النيابية، وهكذا ستتبدل طريقة اختيار الأعضاء من التعيين المباشر أو من قوائم الهيئات إلى أسلوب الانتخاب الحر، ويزاد إلى جانب الاستشارة حق الاقتراح للمشروعات ومراقبة أعمال الحكومة وإبداء الملاحظات في السياسة العامة للدولة... «. لم يكن أعضاء المجلس الوطني الاستشاري منتخبين، ولهذا لا يمكن القول بان ذلك المجلس كان يعكس صورة مطابقة كل المطابقة للواقع السياسي المغربي. ومع ذلك فان البنية السياسية التي كان يقوم عليها المجلس الوطني الاستشاري قد تأثرت إلى أبعد حد من جراء التحولات السياسية التي عرفتها الحركة الوطنية في يناير 1959. كان لحزب الاستقلال حضور مكثف في المجلس الوطني الاستشاري لا فقط من خلال الأعضاء الذين يمثلون الحزب بصورة مباشرة، بل على الخصوص من خلال المنتمين إلى الحزب واكتسبوا عضوية المجلس بوصفهم يمثلون النقابات والهيئات المهنية والثقافية وغيرها، أما الباقي فلم يكونوا ينتمون إلى أحزاب أخرى وهذا ما فسح مجالا واسعا لتحالفات سياسية ستؤدي بعد خمسة أشهر إلى قيام الاتحاد الوطني للقوات الشعبية1. وفيما يتعلق بتركيب المجلس، فقد ساهم المهدي بنبركة في هندسة تركيبته بالتنسيق مع مختلف المكونات ومحمد الخامس حيث تم تشكيله عن طريق الاختيار، فكان يتكون من 76 عضوا؛16 شخصية تمثل النزعات السياسية 10 منها تنتمي لحزب الاستقلال (المهدي بنبركة، محمد غازي، أبوبكر القادري، عبد العزيز بن إدريس، محمد طنانة، أحمد مكوار، الحاج محمد البعمراني، الدكتور بناني، علي بوعيدة، مولاي عبد الله بن محمد العلوي) .6 لحزب الشورى والاستقلال (محمد فاضل موقيت، علي الكتاني، حمزة العراقي، الحاج أحمد معنينو، الداودي محمد، إبراهيم الهلالي). 6 شخصيات سياسية لا تنتمي إلى أي حزب من الحزبين السابقين (عبد اللطيف الصبيحي، المكي الناصري، الحاج عابد السوسي، لوسيان إبن سيمون، أحمد الجندي، عبدالله الصبيحي)، 37 ممثلا للمنظمات الاقتصادية والاجتماعية، 10 منها ينوبون عن الاتحاد المغربي للشغل (المحجوب بن الصديق، الطيب بن بوعزة، عبد الرزاق محمد، التباري محمد، الحسين حجبي، محمد الشوفاني، المهدي الورزازي، الهاشمي بناني، إدريس المذكوري، المختار ابارودي)، و18 عن الفلاحين (الحسين ولد يحيى بن يماني، الحاج احمد المذكوري، الحاج بوشعيب الجبلي، الحاج إبراهيم بن المامون، مولاي مصطفى بن شريف العلوي، عبد القادر بوعنان، إبراهيم السنوسي، حاج محمد برشيد، التهامي بن قدور بن زوينة، موسى بن بوشعيب الدكالي، الحاد إدريس بن شقرون، الحاج حمو اسكور، صلاح موحى اوطالب، موحا أوحدو، الشاهد الوزاني، محمد ولد العيساوي، الحاج عمر بن القايد العيادي)، و9 عن التجار ورجال الصناعة (محمد العراقي، احمد أولحاج، عمر الدويري، محمد الدباغ، مبارك الجديدي الفرجي، جو أوحنا، داوود بن أزراف، عبد الحي العراقي، عبد الكريم الهلالي). و15 ممثلا عن هيآت مختلفة، المهندسون في الصناعة والفلاحة ( عبد الهادي صبيحي، احمد تازي)، الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان (محمد الحلو، بنسالم جسوس، عبد السلام حراقي)، معهد ثقافية (التهامي عمار، أحمد ميدينة)، المحامون (جاك الكايم)، العلماء (االشيخ ماء العينين محمد، محمد بن الطاهر اليفراني، شلومو بن السباط «حبر عن رجال الدين اليهودي»، الحاج محمد تطواني، محمد داوود) محام لدى المحاكم الشريفية (عبد السلام الورديغي). كما تم تعيين مجموعة من الاعضاء في اماكن فارغة بحكم تعيين اصحابها في مهام اخرى حيث تم في 5 نونبر 1957 تعويض مقعدين باسم حزب الاستقلال (احمد بن منصور النجاعي في مكان محمد غزاي الذي عين سفيرا للمغرب بالسعودية، ومحمد بن محمد بن شقرون مكان الحاج محمد العمراني الذي عين عاملا بأكادير)، وبالهيئات الثقافية (تعيين عبد الرحمان القادري عن الاتحاد الوطني لطلبة المغرب مكان احمد مدينة الذي عين كاتبا عاما بعمالة تطوان)، وفي صنف الفلاحين (الحسين جاع مكان الحاج محمد بن ابراهيم الذي لم يحضر قط لأي اجتماع، والجيلاني خربيش مكان موحا وحدو الذي عين قائدا)، ومن بين العلماء (محمد بن محمد عرماس مكان الحاج محمد بن الطاهر اليفراني الذي توفي). وقد حدد الظهير مدة انتداب أعضاء المجلس الوطني الاستشاري في سنتين مع إمكانية تجديد تعيينهم. وبالنسبة لتسيير المجلس فيعقد دورتين عاديتين في كل سنة (دورة في الربيع ودورة في الخريف) أو دورات غير اعتيادية إن اقتضى الحال ذلك. ولا يمكن أن يعقد جلسة إلا بحضور ثلثي أعضائه.2 في جلسته الأولى، انتخب المجلس الوطني الاستشاري المهدي بنبركة رئيسا له بواسطة الاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة وهو الذي ستكبر مع الاستقلال شخصيته الكاريزمية، حيث سنحت له الفرصة بهذا الانتخاب آنذاك للدفاع عن أطروحاته في مجال السياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية، كما انتخب المحجوب بن الصديق والتهامي عمار نائبين له، والدكتور بناني والهاشمي بناني أمينين، والحاج أحمد المذكوري، والفقيه الحاج محمد داود، وأحمد أولحاج مستشارين، وأحمد مكوار رئيس اللجنة السياسية، والطيب بن بوعزة رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية ومحمد العراقي رئيس لجنة الميزانية وبنسالم جسوس رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية3. لما تحمل المهدي بنبركة مسؤولية رئيس المجلس أعطى المؤسسة قيمة كبيرة كرئيس ونظمها بشكل كبير، وجعل منه مجلسا حقيقيا ومقررا رغم كونه استشاري لكن تحلي أعضاءه بالجد وروح المسؤولية جعله»برلمانا»، وساعده في ذلك عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يقدم قانون المالية بشكل رسمي ويناقش الأعضاء، وهو ما يساعد على إضفاء الشرعية والمسؤولية على المجلس. لقد أراد هذا التوجه الذي كان يعرف بالتوجه التقدمي واليساري والذي كان يمثله رئيس المجلس الوطني الاستشاري، رغم الصفة الاستشارية لهذا المجلس، أن يصبغ على عمله صفة المسؤولية والمصداقية، واعتباره شاهدا على البداية الأولى لمسار التحول التدريجي نحو الخيار الديمقراطي في المغرب، والاتجاه نحو مشاركة الشعب في تدبير الشؤون العامة من خلال ممثلين للأمة، إذ كانت تتم الدعوة للوزراء إلى المجلس من أجل الإجابة على أسئلة الأعضاء في جو ديمقراطي، وخصصت أولى الجلسات للاستماع إلى عرض قدمه وزير الاقتصاد والمالية عبد الرحيم بوعبيد (الأسبوع الأول من دجنبر 1956)، وتمحور النقاش حول شروط التحرر الاقتصادي والمالي والفني ...4 . ونص الفصل 15 من الظهير المؤسس لهذا المجلس، أنه يمكن لكل عضو من أعضاء المجلس أثناء انعقاد الدورة أن يوجه أسئلة إلى أي وزير حول المسائل التي هي من اختصاص وزارته وتكون هذه الأسئلة موجهة مباشرة وشفويا في أثناء المناقشات. وفي غير هذه الحالة تكون مكتوبة وموجهة إلى الوزير الذي يهمه الأمر بواسطة رئيس المجلس ... وعلى الوزير المعني أن يجيب كتابة عن الأسئلة المكتوبة الموجهة إليه في ظرف أسبوع. كانت الاحتفالات بالذكرى الأولى لعودة المغفور له محمد الخامس من المنفى. وكان المغرب رسميا طيلة نهاية الخمسينات وإلى حدود وفاة محمد الخامس في نهاية فبراير 1961، يحتفل بما يسمى بالأيام المجيدة الثلاثة: 16 نونبر؛ اليوم الذي عاد فيه محمد الخامس من المنفى، و17 نونبر؛ اليوم الذي سمي بعيد الانبعاث، و18 نونبر؛ يوم عيد العرش الذي كان يخلد ذكرى جلوس محمد الخامس على العرش. كما ظل المغرب طيلة نفس الفترة يحتفل بعيد الاستقلال في 2 مارس من كل سنة. فبعد أربعة أيام من تدشين المجلس الوطني الاستشاري، والذي صادف يوم 16 نونبر 1956 اليوم الذي رجع فيه محمد الخامس من المنفى، ألقى المهدي بنبركة رئيس المجلس الوطني الاستشاري خطابه بقصر المامونية أمام محمد الخامس وقد كان مشهدا مؤثرا جدا لحظة مثوله بين يدي الملك، جاء فيه: «إننا نحن الذين تشرفنا بثقة جلالتكم فاخترتمونا لنكون الناطقين الأمناء باسم شعبكم المجيد، لنشعر بعظمة الفخر وكبير الغبطة بحلول هذه الذكريات التي عملت بداية نهضة الوطن واستقلاله وانطلاقه في سبيل البناء والعمل لربط ماضيه النبيل بمستقبله الذي سيكون بإذن الله كذلك عظيم. ولقد رأينا في هذه السنة من آثار النصر والتحرر ما قرت به أعيننا، حيث أن بلادنا حصلت على استقلالها ووحدة أراضيها وأصبح لديها بفضل جلالتكم حكومة عصرية وجيش منظم وأمن وطني وتمثيل خارجي، وغير ذلك من المنشئات العظيمة التي تحققت في مدة قصيرة، والتي تستحق أن ينظر إليها بعين التقدير والإعجاب، وقد توجتم ذلك كله بإنشائكم لهذا المجلس، الذي قصدتم به توجيه شعبكم إلى المشاركة في الحكم تدرجا إلى ما تريدون تحقيقه من ديمقراطية قائمة على أسس النضج السياسي والتهذيب الوطني والوعي الاجتماعي.... «. بعد مرور سنة من عمل المجلس، قدم المهدي بنبركة في خطاب له بحضور الملك محمد الخامس الحصيلة :»...لقد تمت السنة الأولى من حياة هذا المجلس الذي أسسته جلالتكم وجعلتم منه خطوة نحو حياة نيابية تمكن الشعب من تدبير شؤونه العامة في دائرة ملكية دستورية صحيحة البنيان وديمقراطية سليمة حقيقية.... ورأت جلالتكم من الجلسات التي خصصت خلال السنة المنصرمة لاستعراض الحالة الاقتصادية والمالية ومناقشة ميزانية التسيير ودراسة برنامج التجهيز، مدى تقدير المجلس للمسؤوليات واهتمامه بالقضايا الوطنية والمشاكل المتنوعة التي تواجهها بلادنا اليوم، معبرا عن رأيه في ملتمسات كانت تبشر بحلول دقيقة واقعية وباقتراحات توجيهية نتمنى أن تكون موفقة ومطابقة لرغبات شعبكم». وأبرز المهدي في خطابه مساهمة المجلس في مسؤولية النهوض بالبلاد «...والعمل على استكمال تحريرها سواء من القيود الاقتصادية والفنية والعسكرية التي خلفها الاستعمار أو من قيود الجهل والرجعية والإقطاعية التي كانت السبب في تمكنه من التسرب والاحتلال»، وتطرق رئيس المجلس الوطني الاستشاري إلى مشروع طريق الوحدة الذي أنجز سنة 1957 «..الذي كان بمثابة مدرسة تخرج منها أحد عشر ألف من الشباب النشط « كما تطرق لعملية «استصلاح الأراضي الزراعية وحرثها بوسائل ميكانيكية جماعية التي تحقق ثورة عظيمة في البوادي المغربية». في سنة 1958 استقبل المهدي بنبركة من طرف محمد الخامس بالقصر الملكي كرئيس للمجلس، وذلك في إطار الاستشارات لمعالجة أزمة وزارية، وبعد ذلك أدلى المهدي بتصريح للإذاعة الوطنية جاء فيه: «سألني صاحب الجلالة حول رأيي بصفتي رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري في الأزمة الحاضرة وفي كيفية حلها، وقبل التوجه إلى القصر الملكي العامر، كان المجلس قد عقد اجتماعا عاما من أجل مناقشة الميزانية واقترح علي أحد أعضاء المجلس أن يتصل بي رؤساء الهيئات الممثلة في المجلس قبل أن أتوجه إلى القصر حتى يمكنني أن أحمل معي صورة كاملة عن التيارات الفكرية الموجودة في المجلس. وفعلا عندما حظيت بالمثول بين يدي الملك، أمكنني أن أعطي لجلالته نظرة كاملة عن اتجاهات الرأي العام في الأزمة الحاضرة. وقد قلت لصاحب الجلالة؛...إن الحالة في المغرب دقيقة وأن الظروف التي تجتازها البلاد ظروف حيوية ويجب أن نواجهها بكل حزم بعد الاستفادة من التجربة السابقة، وسألني جلالة الملك في موضوع الانتخابات فكان رأيي هو أن الانتخابات البلدية المقبلة هي أهم البنود التي يتكون منها برنامج المغرب الجديد وإننا نرى جميعا أن بناء الديمقراطية في المغرب ينبغي أن يكون من الأساس على مستوى البلديات والجماعات القروية التي يجب أن تمكن الشعب من مباشرة شؤونه بصفة علمية. وطبيعي أن الديمقراطية تقتضي الحرية الصادقة، الحرية السليمة، يعني الحرية البنائية». وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد هيمنت على المجلس قضيتان صدرت في شأنهما توصيتان: 1- نونبر 1957 عن السياسة الخارجية، تبني مبدأ عدم التبعية الذي يشمل استعادة السيادة الوطنية، مع توحيد التراب الوطني والجلاء القريب للجيوش الأجنبية. كما إن التوصية ركزت على ضرورة استقلال الجزائر في إطار مجموعة افريقية شمالية اعتبرها المهدي بنبركة الضامن الوحيد لتحقيق المغرب العربي الموحد. 2- يناير 1959، مواجهة انهيار الفرنك المغربي. وقد دعت إلى صون العملة الوطنية والى استقلال البلد اقتصاديا. لقد كان المجلس الوطني الاستشاري يشبه إلى حد كبير المجالس البرلمانية على الرغم من طابعه الاستشاري وتعيين أعضاءه، وذلك بالنظر إلى الاختصاصات الموكولة إليه، والأعمال التي أنجزها على مستوى مناقشة الميزانية والسياسة الحكومية العامة والقطاعية، ومساءلة أعضاء الحكومة، وبالإضافة إلى نشاطه الدبلوماسي؛ وبالنظر أيضا إلى تركيبته التي تمثل جميع الحساسيات السياسية الحزبية والمستقلة، والمنظمات الاقتصادية والاجتماعية، وهيئات مختلفة (المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين والعلماء والمؤسسات الثقافية وحبر عن رجال الدين اليهودي)، ثم بالنظر أيضا إلى طريقة اشتغاله وتسييره. ومن إشراقات المجلس الوطني الاستشاري المتقدمة في نواحي معينة على ما عليه الحال في المجالس البرلمانية اللاحقة، الإخبار المبكر بجدول الأعمال، حيث يستدعى كل عضو من أعضاءه بشكل مؤسساتي، مما يعني إلزام كل عضو بتحمل مسؤولياته خاصة على مستوى الحضور، وهذا الإجراء، وإن كان يتم اليوم في البرلمان على مستوى اللجان، إلا أنه لا يكون على مستوى الجلسات العامة، كما يرسل جدول أعمال المجلس لدورة كاملة، إلى الأعضاء شهرا على الأقل قبل موعد الانعقاد في الدورات العادية وستة أيام في الاستثنائية؛ وهذا فيه دلالة على التنظيم المحكم لأعمال المجلس، وعلى مدى توفر مكتبه على الرؤية الواضحة واستشرافه القبلي للأعمال المزمع تنفيذها في دورة كاملة؛ كما أن الآجال المنصوص عليها تعتبر كافية للإعداد والتحضير الجيدين. غير أنه بالنسبة للبرلمان اليوم يكون جدول الأعمال محدودا لأنه يتعلق فقط باجتماع واحد، أما بالنسبة لأجل الإعلام فإنه يعتبر غير كاف، لأنه لا يتجاوز أربعة أيام في اللجان، و24 ساعة في الجلسات العامة. أما على مستوى الأسئلة التي تميزت بنوعيتها وجودتها، فقد أعطى المشرع حق مساءلة الحكومة، وفي الآن نفسه قرر أن الأسئلة التي لا تتوفر على الشروط المنصوص عليها ترد إلى أصحابها، من أجل مراجعتها وإدخال ما يمكن من التعديلات، ولم يمنح للعضو حق الطعن في قرار المكتب. وفي الجانب الإعلامي من حيث إذاعة المداولات، فقد كان لمكتب المجلس بالإضافة إلى مسؤوليته على نشر المداولات في الجريدة الرسمية، السهر أيضا على إذاعة أعمال جميع الجلسات. إن استمرار تباعد وجهات النظر بين قيادة حزب الاستقلال فيما بينهم سواء على مستوى تدبير الحزب داخليا من الناحية التنظيمية وسؤال المؤسسة، او من ناحية التصور الموحد الذي ينبغي اعتماده لمغرب ما بعد الاستقلال، أدى إلى تعميق الخلافات ووجهات النظر، وهو بالضبط ما أضر بمستقبل المجلس وأدى إلى عدم استمرار التجربة، وبالضبط حينما اختار المهدي بنبركة ومن معه أن ينشقوا من حزب الاستقلال لخلافاتهم العميقة مع علال الفاسي وآخرون، وعلى إثر ذلك انقسم الاستقلاليون داخل المجلس رغم عدم الإعلان عنه رسميا، لكن قوة تمثيل حزب الاستقلال كانت كبيرة بالمجلس وبالتالي هذا النزاع لم يعد معه ممكنا اسمرار المجلس فتوقف وتعطلت أشغاله. لقد كانت الدورة التي عقدها المجلس في مارس/ابريل 1959 كآخر دورة من عمره، مخصصة لمناقشة ميزانية 1959 واختار التيار المؤيد للقيادة التي كانت تنعث بالتوجه «المحافظ» في مواجهة القيادة ذات التوجه «اليساري» لحزب الاستقلال أن يحولها إلى فرصة لمهاجمة حكومة عبد الله إبراهيم، وبالذات السياسة المالية والاقتصادية التي يقودها عبد الرحيم بوعبيد داخل الحكومة، وقد تجند لهذه الحملة داخل المجلس، أعضاء الاتحاد المغربي للتجارة والصناعة الحديثة والتقليدية، والاتحاد المغربي للفلاحة، وجل هؤلاء يمثلون إما كبار ملاكي الأراضي الفلاحية أو من كانوا يتطلعون إلى تولي سلطة اقتصادية في إدارة الأعمال والمقاولات التجارية والاستيلاء على مواقع رجال أعمال أجانب. واستمرت آخر جلسة إلى منتصف ليلة السبت 4 ابريل موافق ل 25 رمضان. كان العدد الإجمالي لأعضاء المجلس 76 عضوا منهم من فضل عدم الحضور حتى لا يضطر إلى اتخاذ موقف في هذا الاتجاه أو ذاك، وهكذا لم يحضر بداية الجلسة إلا 55 من أعضاء المجلس، فضمنوا هكذا النصاب القانوني للجلسة. ولإحداث أزمة سياسية اعتقد الأعضاء الموالون للتيار المضاد للحكومة أن انسحابهم من الجلسة الليلية من شأنه أن يترك فراغا في المجلس ولكن بعد خروج 23 عضوا من القاعة، بقي 32 ممن اختاروا المصادقة على الميزانية والملتمس المتعلق بها5. وفي ظل هذه الظروف انعقد يوم الثلاثاء 07 ابريل مجلس وزاري برئاسة المغفور له محمد الخامس من الساعة الرابعة بعد الظهر إلى السادسة والنصف، ثم استؤنف في الساعة العاشرة واستمر إلى منتصف الليل حيث استمع إلى عرض قدمه عبد الرحيم بوعبيد عن الميزانية، وكذا ملتمس وتوصيات المجلس الوطني الاستشاري، ومما قاله الملك رحمه الله في ذلك المجلس «إنا امة في مراحل نهضتها الأولى، فيجب تقديم الفرض على النافلة، والآكد على الأوكد، وينبغي أن نتحاشى الكماليات ما أمكن، ونوجه العناية إلى الضروريات. إن مآل الدولة أمانة بين أيدي الوزراء، وأن من شيم الأفاضل المحافظة على الأمانة وأداؤها حق الأداء، مخبرا أن الله سيسأل عنها يوم القيامة، وأن التاريخ لن ينسى أن يقول كلمته فيمن حافظوا عليها أو فرطوا فيها». وجاء في بلاغ الديوان الملكي أن محمد الخامس رحمه الله عبر عن أسفه لبوادر التفرقة والمهاترات التي ظهرت أخيرا، فحث على الأخوة والاتحاد والتعاون والتسامح ذاكرا أن هذه الخصال التي حقق بها المغاربة شطرا من آمالهم هي وحدها التي ستحقق الأجزاء الأخرى من آمالهم ومطامحهم القومية. ورغم هذه الخلافات السياسية والحزبية، فان تجربة المجلس الوطني الاستشاري تعتبر رائدة ومحترمة تشكل تراكم لرصيد أساسي في العمل النيابي والتأسيس لمنظوره الجديد، وأي تجاهل لمرحلة بهذا الحجم يعتبر بترا للتاريخ، وإجحافا في حق من اشتغل فيه، وظلما للأجيال المتلاحقة من أجل الاستفادة من تراكمات تجاربه. * باحث في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية [email protected] مراجع معتمدة: - حوارات الأستاذ عبد الواحد الراضي مع الإذاعة الوطنية في برنامج «زمن الحكي» مع الصحفي الصافي الناصري فبراير/مارس 2014. - المهدي بنبركة أول رئيس للبرلمان المغربي، المجلس الاستشاري الوطني بوابة المغرب للحياة النيابية- مصطفى العراقي مقال منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 11/7/2013 - المهدي بنبركة... أول رئيس للمجلس الاستشاري- عبد الرزاق السنوسي معنى مقال منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 04/12/2013 - كتاب ذاكرة المستقبل:مونوغرافيا القيادات والأطر والتنظيمات؛ الاتحاد الاشتراكي 1959-2009؛ محمد الشاوي، دار النشر المغربية 2011 - عبد اللطيف جبرو -المهدي بنبركة في مواجهة العاصفة- الطبعة 3 مطبعة دار النشر المغربية 1991 - عبد اللطيف جبرو - المهدي بن بركة، ثلاثون سنة من العطاء الفكري والنضال الثوري من أجل بناء مجتمع جديد- دار النشر المغربية، 1976 1 - عبد اللطيف جبرو -المهدي بنبركة في مواجهة العاصفة- الطبعة 3 مطبعة دار النشر المغربية، 1991. ص 50 2 - من معطيات كتاب ذاكرة المستقبل:مونوغرافيا القيادات والأطر والتنظيمات؛ الاتحاد الاشتراكي 1959-2009؛ محمد الشاوي، دار النشر المغربية 2011، ص 241-246. 3 - عبد الرزاق السنوسي معنى - المهدي بنبركة... أول رئيس للمجلس الاستشاري- مقال منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 04/12/2013 4- حوارات الأستاذ عبد الواحد الراضي مع الإذاعة الوطنية في برنامج «زمن الحكي» مع الصحفي الصافي الناصري فبراير/مارس 2014. 5 - عبد اللطيف جبرو ? المهدي بنبركة في مواجهة العاصفة- مرجع سابق ص 51