بينكاج ميشرا شغوف بزحزحة اليقينيات الرخوة. لقد أصبح الكاتب الهندي البالغ من العمر الآن ثلاثاً وأربعين سنة، أحد أكبر الرواد في نقد الامبريالية الغربية والعولمة وتجاوزات استخدام السلطة من قبل النخب السياسية والثقافية ضمن المربع الذهبي للغات المحظوظة. يتهم ميشرا هذه الفئات، باستعمال احتيالي للمسلسل الديمقراطي في الهند للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها. وهو لا يتردد في مهاجمة بعض من الوجوه التي كرسها الاعلام السائد، من قبيل سلمان رشدي، الذي يتهمه في إحدى مقالاته بكونه »يردد أورثوذوكسيات النخب العسكرية والسياسية« ونيال فركسون الذي يُدين فيه صفة المنافح ببلادة عن »الحروب الامبريالية الجديدة«. ولد بيكانج ميشرا في شمال الهند، وكان منتظراً منه أن يلتحق بإحدى الوظائف العامة بعد تخرجه من الجامعة، لكنه فضل الاستقرار في بلدة صغيرة في منطقة الهملايا لمدة 5 سنوات، وكتب في مجال النقد الأدبي لعدد من الملاحق الأوربية في الصحافة الهندية. وفي سنة 1995، أصدر كتابه الأول بعنوان: «سفر في قرية هندية صغيرة»، يحكي بسرد متميز، يستحضر كل الألوان، وكل الخصائص، مساحات التقاطع بين العولمة والتقاليد الهندية. ومذاك، كتب ميشرا عدداً من المؤلفات، ومن بينها رواية وثلاثة دراسات سياسية، من ضمنها كتابه الذي حاز شهرة كبيرة »من أنقاض الامبراطورية: «الثورة ضد الغرب وإعادة تشكيل آسيا«« وهو الكتاب الذي حاز به على جائزة أورويل الانجليزية الشهيرة المخصصة للكتابات السياسية. في كتاب »من أنقاض الامبراطورية يقوم بينكاج ميشرا بعملية سرد مكثفة تربط حياة ثلاثة أعلام ثورية فكرية/ سياسية من القرن 19: المفكر الاسلامي جمال الدين الأفغاني، والصيني ليانغ كيشاو والكاتب البنغالي الحائز على جائزة نوبل للسلام وابيندرانا طاغور، يبين بينكاج ميشرا كيف سعى هؤلاء المثقفون، بصورة متفرقة إلى بناء هوية آسيوية قوية تنهض من ثنايا وركام الإهانة التي خلفها المد الاستعماري الامبريالي الغربي، وكيف خلّف ميراثهم عناصر دفع هائلة لشعوب الشرق الأوسط وآسيا إجمالا لنضالها من أجل تحقيق الكرامة السياسية والاقتصادية والثقافية واستقلال الإرادة في زمن يتميز باضمحلال امبراطوريات، وانتقالات في مراكز القوة. في هذا الحوار، يستعرض بينكاج ميشرا هوية جنوب آسيا المعاصرة، وانعكاسات المد المطلبي الديمقراطي، ودور ومسؤوليات المثقفين، وإشكالية التطرف الديني في الهند، وسؤال ما إذا كانت القوة الشاملة هي بصدد الانتقال من الغرب إلى الشرق. وجاهت علي: ونحن نتأمل الأحداث الأخيرة، هل يمكن القول إن النتائج الكارثية للحرب في العراق من جهة، والأزمة المالية لسنة 2008 قد نقلت مراكز القوة ومستودعها من الولاياتالمتحدة إلى آسيا الصاعدة؟ بانكاج ميشرا: لا أعتقد أن للآسيويين إجمالا والآسيويين الجنوبيين ضمنهم ما يحملهم على الاحتفال أو الانتشاء. إذا كان انتقال القوة يتم باتجاه الهند بسبب الحماقات الكارثية للولايات المتحدة. علينا أولا أن نسأل »»عن أية قوة نتحدث، ولأية جهة يتم هذا الانتقال؟ ومن هم المستفيدون المحتملون؟ لقد أبرزنا -نحن الآسيويين- كذلك أننا لسنا في مأمن من ارتكاب نفس الحماقات والأخطاء الفظيعة. إنني أتحدث وأكتب الآن من اليابان، بلد له تاريخه الخاص في المد العسكري والامبريالي، وحيث مازال غول القومية في حاجة إلى ترويض. ونحن نعرف كم هو صعب على بلدان المنطقة تلطيف غلواء الروح القومية المتطرفة وتوفير درجة معقولة من المعدل الاقتصادي والاجتماعي لسكانها الذين يفوق عددهم المليار نسمة. وجاهت علي: يركز كِتابكم على المثقفين الكوسموبوليتيين في نهاية القرن التاسع عشر، مثل جمال الدين الأفغاني وليانغ كيشاو وطاغور، والذين كانوا ضمن المقاومين الأوائل للمد الامبريالي الاستعماري. هل يمكن القول بوجود رابط ما بين الأمس واليوم، بحيث نعتبر مثلا أن حياة وأفكار أولائك الرواد ألهمت الحركات المعارضة، من حركة ميدان التحرير في مصر إلى قوى وحركات المجتمع المدني في ماليزيا؟ بانكاج ميشرا: لقد كان الأفغاني وليانغ وطاغور، في زمانهم يصيغون أشكال المقاومة ضد نمط من التسلط الاقتصادي والسياسي فرضته القوى الكبرى الغربية على الشعوب الأخرى التي كانت تتطلع إلى إيجاد موقع قدم في العلاقات الدولية. كان ذلك خلال مرحلة مبكرة من مسلسل العولمة. لقد كانوا في بداية مسلسل اكتملت حلقاته وتبينت معالمه بعد ذلك في بلدان كمصر وسوريا وماليزيا من خلال الولادة الصعبة لدول قومية على قاعدة فسيفساء ثقافية وإثنية (حالة ماليزيا) أو عبر تكون ديكتاتوريات عسكرية تشرعن حكم النخب المحلية (مصر) وأعتقد أن الأفغاني سنة 1890 في ظروف إيران وقتها أو ليانغ في أوائل القرن التاسع عشر في ظروف الصين الامبراطورية، كانوا بشكل ما يمثلون إرهاصات للصراعات الراهنة من أجل الحرية والكرامة، وللكفاح ضد التمزق السياسي وتهافت مشروعيات الدول وتماسكها بفعل سيطرة نخب عبر وطنية Trans national لا تعترف إلا بمصالحها الضيقة. لقد كنت شديد الانتقال للعملية التي تم بها انخراط الهند، بلدك، في مسلسل العولمة والتحديث، لقد اعتبرت أنها قادت إلى تفريخ ما أسميته. ظواهر الشعبوية/ السلطوية والكربينوفوبيا (الخوف من الآخر)، كما عمقت من الفوارق الاجتماعية وفاقمت من مشاعر العداء ضد الأقليات، وأود أن أسألكم بهذا الخصوص »كيف وُظفت الاختيارات الاقتصادية والسياسية الهندية التي كان من المفروض أن تساهم في بناء مجتمع أكثر حرية وانفتاحاً كيف وظفت في النهاية لخدمة سياسات سلطوية/ تسلطية؟ بانكاج ميشرا: لقد سعيت، بالحجة أن أبرز كيف يتوجب علينا أن ننظر بروية إلى بعض الظواهر الخاصة التي يحملها معه مسلسل العولمة والتحديث في بلد كالهند، عوض الاكتفاء بترديد ببغائي لأطروحات إيديولوجية يبثها الدعائيون الغربيون ونظراؤهم في الشرق. وأرى أنه لا يمكننا الاستمرار، هكذا ببلادة، في تهنئة أنفسنا بديمقراطيتنا، إذا كانت تنتج وجوهاً مثل المتشدد الطائفي موريندرا موري، وكان البلد يعيش اليوم عنفاً يزيد بكثير عما عاشه تحت الحكم البريطاني. لا يمكننا الاطمئنان والاستمرار في ترديد أطروحة توماس فريدمان حول فصائل وعجائب الرأسمالية، لأن واقع الهنديين بوضوح أن تبني منظومة الرأسمالية المعولمة في الهند قاد إلى تولد فوارق مخيفة. ومن الواضح أن تحليل هذه التجربة يعني بداية تعلّم شيء جديد: أي نوع من السياسة، وأي نمط من الاقتصاد يمكنهما أن يشتغلا بصورة أفضل حينما يتعلق الأمر بمجتمعات معقدة كمجتمعاتنا. وسيمكننا هذا التحليل للتجربة كذلك أن نبتعد عن الرؤى الامبريالية الجديدة لواقع آسيا، رؤى تصبح فيها المهمة الأساسية لبلدان غير غربية كالهند، هي الكفاح المستمر وإجهاد النفس في سباق محموم من أجل تقعيد حداثة على النمط الغربي!! وجاهت علي: حينما تحدثت عن الديمقراطية الهندية، قلت بأن المنتخَبين يتصرفون بصورة تجعلهم يظهرون كنخب تدافع بضراوة وعنف عن مصالحها الخاصة، وأن أحد المسلكيات الأكثر مدعاة للنقد لهذه النخب أنها جعلت مما هو شكلاني أو أداتي أو مسطري في الديمقراطية (أي الانتخابات) القاعدة الأساس ملغية بذلك الجانب الجوهري في الديمقراطية أي ملغية الجانب الجوهري في الديمقراطية أي الهدف الأسمى المتمثل في إقامة مؤسسات قوية وعادلة وفسح المجال لظهور فاعلين سياسيين ديمقراطيين متفاعلين مع المحيط، وكنتيجة لذلك، مضيت في تحليلك للوضع، تقول إن محصلة ذلك هي بقاء الطبقات الوسطى الحضرية مجزأة، مشتتة وهامشية التأثير، وأود أن أسألكم على ضوء هذا، كيف يمكن للمواطنين الهنود التأثير في المسلسل الديمقراطي بصورة مرضية تجعله يرفع من قدرات الشعب وكل القوى الحية، عوض الرفع بصورة حصرية من قدرات النخبة؟ واذا كان هذا الهدف غير قابل للتحقيق، ألا يحق لنا أن نتساءل هل تكون الديموقراطية هي الوسيلة المثلى حقا لتحقيق المساواة السياسية في الهند؟ بانكاج ميشرا: إن الجواب عن عدد من المشاكل واللاتوازنات والمخاطر التي تكتنف الديموقراطية، والتي بالمناسبة تم الحديث عنها من طرف دوتوكفيل منذ سنة 1830 -ان هذا الجواب او هذه المعالجة لا يمكن أن تتم او تستقيم عبر التقليل من الديموقراطية، ان هذا النوع من الجواب- التقليل من منسوب الديمقراطية - هو ما مارسته في الميدان عدد من الاقطار الاوروبية بعد الحرب العالمية الاولى، ونحن نعرف بالطبع الى أية كوارث قاد ذلك الجواب. في عدد من مناطق العالم اليوم، يشعر المواطنون العاديون بنوع من الاحباط جراء التحالف القائم بين النخب المحلية ورجال الاعمال واوساط الاعمال المعولمة - والجواب عن مشاعر الاحباط هاته، لا يمكن أن يكون مزيدا من التشكيك في الديموقراطية والتنقيص من منسوبها ولا قبول أو الاقبال على الشعبوية السلطوية. إننا في حاجة إلى مزيد من الديموقراطية في الهند: فعلى العكس من أمريكا ارتبطت الديموقراطية وارتبط المطلب الديمقراطي في الهند منذ البدء بوعد المساواة والعدالة الاجتماعية والسياسية بالرفع من مستوى معيش الفقراء وغير المحظوظين والمجموعات المهمشة، السؤال الحقيقي اذن هو» أي نوع من الديمقراطية نريد؟ هل نريد ديمقراطية يستخدم فيها السياسيون كل الوسائل، من الارتشاء الى الديماغوجيا الى العنف من أجل الفوز في الانتخابات، ثم الاختفاء بعد ذلك عن حياة وأقطار الناخبين، ام نريد ديموقراطية تتسع للجميع ولا تكون فيها السلطة محتكرة في المواقع العليا، ديموقراطية تكون فيها مؤسسات الحكم المحلي قوية ويشعر في إطارها الناس حقا بأنهم مواطنون بالقدر نفسه الذي هم به ناخبون، قادرون فعلا على التأثير في القرارات الهامة والمصيرية التي تهم حياتهم؟ من المؤكد ان الخيار الثاني هو المطلوب، رغم انه يبدو واضحا كم هو حجم الصعوبات التي سنلاقيها لإقرار هذا النمط من الديموقراطية، ذلك ان النخب السياسية استعملت بشكل الانتخابات والبرلمانات من أجل شرعنة مواقعها، وهي لن تتنازل عن مواقعها بالسهولة التي نتصور بها الامر. وجاهت علي: إن الصدمة والجروح الغائرة اللتين خلفهما الاستعمار البريطاني في الذاكرة الجماعية مازالت تمارس بعض التأثير في اسيا الجنوبية المعاصرة. وهناك قومية جارفة ومشاعر عداء مستحكمة تجاه السياسة الخارجية الامريكية والبريطانية، لكن في المقابل، وكما ألمحت الى ذلك بنفسك، يوازي هذا الشعور شعور آخر يتمظهر من خلال التعطش الى الاستعراف (اي ان يتم الاعتراف من طرف القوى الغربية بالشخصية الاسيوية) هل لنا ان نطمح في بناء او انتعاش وعي اسيوي ايجابي بخصوص موضوع الهوية؟ بانكاج ميشرا: لا أجد نفسي مرتاحا في تصور سيناريوهات خيالية، ولا أجد في الواقع الراهن ما يحمل على الامل في تبلور انماط وعن تقطع حقا مع الفانطازمات والتخيلات الامبريالية الجديدة - والحقيقة ان عالم ما بعد الحقبة الاستعمارية ا لذي نعيش فيه هو عالم ينقصه استقلال حقيقي يمكننا حقا من امتلاك ناحية مصيرنا. لقد كان علينا التغلب على عدد كبير من الضغوطات الداخلية والخارجية وعلى العديد من التراتبيات، وحينما واجهت نخبنا قضايا الحكامة المستعصية، صارعت بضراوة من أجل تزكية قوتها مدفوعة ببناء نوع من الشرعية. وفي سياق هذا المسار، فإن جدلية عقد التحالفات مع الغرب، وازمة الثقة معه- ثم الانجرار الى ازمة ثقة مع نفس هذا الغرب- ان هذه الجدلية لعبت دورا حاسما في تحديد انماط الوعي السائدة لدى النخب. ولا يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة الا اذا نحن تخلينا- او تخلصنا من النظرة الى الغرب كما لو كان حكمناالذي نلجأ اليه في المقام الأخير. وربما كان الغرب نفسه غير مستعد اليوم ولا راغب في ان يضطلع بدو الحكم اعتبارا لانه يفقد بشكل مضطرد قوته و سلطته السابقة. وفي انتظار ان نتخلص من تلك النظرة، سنبقى محكومين بنظرة غربية التوجه. وجاهت علي: لقد غلب على العقيدة الدينية في جنوب اسيا طابع التطرف واللاتسامح: حركة طالبنا في باكستان، حركة راشتريا سوايا مسفاك سانغ الهندوسية المتطرفة، وحركة ناريندرامودي الصاعدة اليوم في الهند، وأود ان اسألكم بهذا الخصوص، ماهو الدور الذي يجب ان يكون للدين في مسلسل البناء الديموقراطي الحديث في اسيا الجنوبية، وهل بالامكان ازاحة التطرف الديني من الساحة السياسية؟ بانكاج ميشرا: لا أعتقد ذلك، ان سؤالكم يوحي او يفترض ان العقائد الدينية في الديموقراطية الحديثة هي امر متقادم ينتمي الى الماضي، وان جهاز الدنيوية s?cularisationيقلص من وقع او تأثير العقائد. ان هذا الافتراض يحمل في طياته منظورا مثاليا ومؤدلجا للديموقراطية ولمسلسل الدنيوية ذاته لا تؤكده الوقائع حتى في الولاياتالمتحدة التي يستمر فيها الدين في لعب دور أساسي في السياسة.. المشكلة التي يتعين إثارتها والوقوف عندها هي أن الدين والعقائد الدينية أصبحت قاعدة للهوية والاحساس بالانتماء الى مجموعة خلال الانتخابات والمعارك السياسية الانتخابية، حينما فقدت مجموعات الانتماء الاخرى من قوتها التعبوية، أقصد على سبيل المثال النقابات، وروابط الفلاحين، والمجموعات المحلية للتأطير الاجتماعي. ا نطلاقا من ذلك يجب ان نتوقع انه سيكون هناك دائما سياسيون يعبئون الناس على قاعدة التضامن الديني، كما سيكون هناك متطرفون دينيون يسعون بكل ما أوتوا من أجل استغلال التذمر العام، سواء في أوساط الفقراء، أو في أوساط الطبقات الوسطى كما هو الشأن بالنسبة لحركة ناريندرا مودي التي تنظر بازدراء شديد للفقراء وبعداء مطلق للاقليات العرقية. والسؤال الحقيقي الذي أطرحه هو »هل يمكن للقوى المناهضة للتطرف والمتطرفين أن تبدع وأن تكون أكثر خيالا بما يجعلها تحول المخزون العقائدي والروحي في جنوب آسيا بما يخدم قضية العدل الاجتماعي والاقتصادي. السؤال يفرض نفسه لأن اللغة الغربية القديمة، المهيمنة في المجال السياسي، المرتبطة حد التماهي بنفاق النخب وتعاليها، - إن هذه اللغة لم تعد لها القدرة التعبوية ولا الإجرائية حتى داخل الغرب نفسه، والحال أن الثنائيات القديمة (دين في مقابل دنيوية Socularism ، ديموقراطية في مقابل تيوقراطية) لا تساعد على توضيح الأمور. أعتقد أننا في حاجة إلى لغة جديدة قادرة على توصيف دقيق لمشكلاتنا وأزماتنا السياسية، وتقديم مشاريع الحلول لهذه المشكلات والأزمات. وجاهت علي: إن انتقاداتكم اللاذعة لسلمان رشدي ونيال فركسون - Nial Fergison المؤرخ البريطاني المختص في تاريخ الامبراطورية البريطانية) حازت شهرة عالمية كبيرة- وسؤالي هو »ما هو الدور الذي تتصورونه اليوم للمثقف المنخرط في النقاش العمومي؟ بانكاج ميشرا: إن مجرد طرح السؤال علن هذا النحو بخصوص مسؤولية المثقف يبرزكم أصبح مهما وجادا هذا الموضوع في زماننا، وكم هو مدعاة للتساؤل أمر المثقف غير الملتزم أو غير المرتبط بالقضايا العامة. ولعله من اللافت للنظر كيف أصبح المثقفون اليوم، بمن فيهم النزهاء ذوو المروءة والشجاعة والضمير - منخرطين في مسلسل الاحتراف، وفي المسلك المهني، منشغلين ومهمومين بمتطلب عدم إزعاج نظرائهم، دون الحديث عن حرصهم الشديد على عدم إزعاج نظرائهم الناجحين والمتفوقين (منطق السوق الرائج) إن عددا من الأشخاص الذين نعدهم ونحسبهم مثقفين هم في الأساس، وفي حقيقة الأمر مهنيون عولميون أو معولمون، متعلقون بشبكات مؤسسات من نوع أوكسبريدج وإيفي ليغ، و مدرسة لندن للاقتصاد، وعلب التفكير think tanks المختلفة، ودافوس Davos وآسيين وغيرها. وإنهم يرددون، مع بعض التحسينات والحذلقة تلك »»الحكمة«« التي تلقوها في تلك المؤسسات. والنتيجة هي ذلك التشابه الأجوف والقاحل الذي نلحظه في الساحة الثقافية العامة: يبدو المشهد كغرفة كبيرة نسمع بداخلها رجع الصدى لعدد كبير من الكتاب والصحفيين المرددين لنفس الأفكار مرة أولي وثانية وثالثة، أشخاص قد لا يكون في نيتهم أو ضمن حساباتهم التقرب من دوائر السلطة والنفوذ، ولكنهم حريصون بحذر شديد من التصرف بما يؤدي الى إبعادهم من تلك الأوساط الراقية التي يتوقف وجودهم عليها. إن احتراف الطاعة على هذا النحو وما يرتبط بها من تسييد قانون الصمت وآلياته omerta هو ما يمكن شخصا من مثل نيال فركسون من التألق السريع. وبالطبع فإن مؤسسات الدولة هي دائمة البحث عن نموذج المثقف المحترم في أوساط المؤرخين وعلماء الاجتماع والصحفيين، إلخ. وجاهت علي: لقد نعتتك مجلة الإيونوميست بالوريث الثقافي لإدوار سعيد، كيف ترون هذه المقارنة؟ بانكاج ميشرا: تبدو لي سطحية عملية إقامة هذا النوع من السلاليات الثقافية (اذا صح التعبير) إنها نوع من المعزوفات التي بتنا نسمعها هنا وهناك. أعتقد أن العمل الضخم والهائل الذي انجزه إدوارد سعيد والمتمثل في تحليل ونقد وتفكيك تصورات المستشرقين والباحثين الاجتماعيين الفرنسيين حول العالم غير الغربي (الشرق تحديدا) وهي تصورات حملت كما نعرف أفكارا مسبقة، حاطة ومذلة بالهويات غير الغربية. ولقد حمل العديد من المفكرين على عاتقهم الاستمرار في العمل التفكيكي الرائد الذي قام به الراحل ادوارد سعيد. من الواضح أن هذه الدراسات التفكيكية تعرضت في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر لحملات شرسة، وتعثرات، وذلك في ظل مرحلة عرفت تصاعد العنف والكراهية و للاتسامح بشكل جنوني. إننا في حاجة إلى مثقفين من عيار ادوارد سعيد، بنوع كفاءته وشجاعته الأخلاقية لمقارعة التيار السائد الآن الذي لا ينفك بعمق الكفر الواحد أو الأفكار النمطية المسبقة. لن أكون مرتاحا لو نعت أي أحد بأنه الوريث الثقافي لإدوارد سعيد من طرف التيار السائد في الصحافة. وجاهت علي: ما هو رأيكم وتقييمكم كناقد أدبي بخصوص الخيال القصصي الآخذ في الظهور والاتساع في جنوب آسيا؟ بانكاج ميشرا: لا أعد نفسي في الوقت الراهن ناقدا أدبيا وإن كنت أكتب كثيرا في مجال الأدب. الموضوع الذي يشغلني بشكل خاص، هو كيف يفهم كتاب الروايات العالم المحيط بهم، وفي هذا السياق يبدو لي أن ظواهر القمع والتسلط السياسيين والمشكلات الاجتماعية ا لكبرى جعلت العديد من الكتاب الباكستانيين مثلا شديدي الاهتمام والحساسية إزاء العنف والمعاناة السائدة في مجتمعهم، وبالمقارنة فإن عددا من الكتاب الهنود سقطوا في إغراء أوهام حول بلدهم وموقعه في العالم، و هذا ما جعل جالصحافة الهندية مطبوعة بغياب الحس النقدي والأدب الهندي المكتوب بالانجليزية.