« للكلمات تاريخ .. بل إن لها حتى ماضيا ثقيلا يحبل بالإنجازات والإخفاقات لأنها تورطت في قضايا قذرة.. إلاّ أن الذنب ليس ذنبها: فلقد استخدِمت وتم تورطها بفعل فاعل.. لكن، ومع ذلك، ليس من أجل غايات مخجلة وحسب إذ أنها كانت لنا أيضا بمثابة مساعد لا غنى عنه في تحقيق مهمات نبيلة ومتواضعة.. فتارة تكون إلى جانب السلطة؛ وتارة أخرى تجدها تلهب الكفاح الثوري.. ثم تجدها بعد ذلك ترن وتصدح بأقلام شعراء كبار وتتميز وتشتهر في أعمال بارزة مرموقة متبوئة مكانها في أجمل الجمل.. وانطلاقا من هذه الاستعمالات، سلبية كانت أم إيجابية، تجدها تحتفظ بأثار وعلامات الزمن وبعض الخدوش والندوب للتباهي على طريقة منحرٍف سوقي.. «.. بهذا التمهيد، استهل الصحافي «إيريك شوفيار» إحدى حلقات حولياته التي ينشرها في ملحق الكتب ليومية «لوموند».. ولقد خصص، بالمناسبة، مقاله هذا لتقديم ونقد الكتاب الجديد للكاتب الفرنسي «جان- ماري غوستاف لوكليزيو» ، «عاصفة « (قصتان عن دار»غاليمار»، مارس 2014) .. ويتابع «إيريك شوفيار» مقاله قائلا بأن « اللغة لم تولد مع آخر الأمطار ? وإلاّ كنا قد لا نستطيع النطق بغير أصوات قطرات المطر ولَما استطعنا التواصل فيما بيننا.. «؛ ثم يضيف بأن « الكاتب (أي كاتب) يمتلك تلك الذاكرة وذاك الوعي باللغة ومفروض عليه أن يُحبِط الجزم والتوكيد في تعابيره وصياغاته.. فهو يجني من ذلك، بكل تأكيد، منفعة ويربح الوقت.. وينخرط التلميح والسخرية في كنف هذا المغزى؛ كما يفعل «جان جوني» حينما يموّه ويمرر فكره التجاوزي خادعا بذلك كل يقظ ومتنبه.. فاللغة ليست بريئة.. و يبدو أن «ج. م. غ. لوكليزيو»، الحاصل على جائزة «نوبل» للأدب لسنة 2008، يؤمن بذلك.. فهو يكتب كما لو أنه كان أول الكُتّاب أو كما لو أن لا كاتب يوجد غيره.. وشخوصه أطفال في أغلب الأحيان وإليهم تعود تسمية الأشياء.. وهُو يفضل المناظر الريفية القاحلة والصخور والبيداء والقفار: فلا شيء حتى الآن نبت في ذاك المكان.. إن في كتب «لوكليزيو» وجود متجدد على الدوام للبحر كمصدر للحياة وقد يكون، أيضا، مصدرا لإعادة ولادة اللغة من جديد وحمّاما ،لا مثيل له، يُطهِّر، بكل ما لديه من قوة، ليُعيد كل شيء إلى حديث عهده ويُخلِّص كل غسيل وشراشف العالم من الدنس ومعها اللغة العجوز البالية التي تذمّرت وأنَّت أكثر من اللازم وحان موعد التخفيف من وساوسها ليجف كل ذلك تحت الشمس.. وهذا لأن كتب «لوكليزو» لا تنقصها الشمس أيضا.. فهي ثابتة، مضطرمة، حارقة، تنظف بلا ماء.. هكذا في القصة الأولى من كتاب «عاصفة»، يُوظف الشخوصُ مُعظم يومهم في النظر إلى البحر؛ وحينما يغيِّرون الاتجاه، فمن أجل الاستماع إليه بشكل أفضل: «البحر هو أفضل ما أحب في العالم..» ، تقول «جونة» ، الطفلة ذات 13 ربيعا والتي تميل بشغف إلى «السيد كيو»، الزائر القليل الكلام والذي يتجول سائحا في جزيرتها: جزيرة «أودو» في بحر اليابان.. ولقد أُوكِلت مهمة السرد، بالتعاقب، لكل من هاتين الشخصيتين.. ف «لوكليزيو» يبحث عن صوت الحكايات القديمة التي تبتعِد بسلامةُ نيتها المُتمرِّدة عن التصنّع والبُهوت.. كذلك البحر يًُدحرج مويْجاته فوق اللُّجة المظلمة: « لقد أتيت إلى هنا من أجل البحر.. لكي أراه ساعة ينفتح قليلا ويُظهِر دواماته وانصداعاته وسرير طحالبه السوداء المتحركة.. لكي أرى، في عمق الحُفر، عيون الغرقى المتآكلة والأعماق السحيقة حيث يرسب غبار عظام الموتى..».. هذا ما قاله «فيليب كيو» الذي يريد تصفية حسابات مع ماضيه ليُعاني الندم وتأنيب الضمير.. «.. .. إنه أدب بلا فكاهة وبلا انعكاسية.. أدبٌ يؤمن بأعاجيبه وفلتاته.. أدب أطفال يستهدف الأطفال ويجب قبوله كما هو من أجل الاستمتاع به.. وحتى حينما يصف «لوكليزيو» أشياء فظيعة - كالحضور السلبي أمام حادثة اغتصاب - فإننا نجد أنفسنا وسط خلفية ضبابية لاستحضارٍ أدبي .. هناك انبهار متبادل يربط بين كل من «جونة» و»فيليب» الذي يقول:» لقد وضعَت الصدفةُ على طريقي ملاكا، طفلة بريئة وطريفة .. إنها المرة الأولى التي التقيت فيها بإنسان..» .. هو ذا الانسان حسب «لوكليزيو»: كان عليه أن يكون ملاكا.. يوجد في كتب «لوكليزيو» حنين للفردوس المفقود؛ ومن هنا، يصبح الأدب أنشودة تتغنى بالأيام الهاربة ... و كما لو أن المؤلف يُعيد الكَرّة من جديد بتناوله سيرة «البحر»، يُفتتَحُ النص الثاني، «امرأة بلا هوية»، بجملة على لسان بطلة القصة تقول فيها:» لقد ارتعشتُ أمام البحر».. لكنها سريعا ما ستغادر ذلك الشط على ساحل «غانا» ثم تهيم، في تيه لا نهاية له، بمدينة «باريس».. وسيتعلق الأمر هنا، مرة أخرى، بالماضي الذي لا يفنى والبراءة المُسترجَعة؛ لكن بشكل أكثر الحاحا، مقارنة مع القصة الأولى التي تستوقفنا لتنتابنا ردة فعل غريبة نرجع فيها القهقرى لقراءة ما سبق من أجل لقاء البحر من جديد.. ? (*) تمت للمؤلف إعادة نشر نص «ميدرياز»، متبوعا ب «في اتجاه جبال الجليد» (شعر) عن منشورات «ميركور دو فرانس»، أبريل 2014.. بتصرف عن جريدة «لوموند»