بحضور وازن لشخصيات وطنية يتقدمهم الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي ومولاي عبد السلام الجبلي ومحمد بن سعيد آيت إيدر وفتح الله ولعلو وعدد كبير من المثقفين والأكاديميين والفاعلين المدنيين والمناضلين الديمقراطيين و المهتمين بالشأن التربوي و التنموي، انعقد مساء السبت 26 أبريل 2014 بمراكش الملتقى السنوي الإخباري الأول للمؤسسة الاجتماعية التربوية «أبناؤنا» تحت شعار « أبناؤنا مستقبلنا». وكان من اللحظات المؤثرة في هذا اللقاء الذي سيره الأستاذ الغوالي ، الكلمة الافتتاحية التي ألقاها رئيس المؤسسة المناضل الوطني مولاي عبد السلام الجبلي التي استهلها بالدعوة للوقوف ترحما على كل الشهداء الذين ضحوا في سبيل استقلال البلاد ، و شهداء الإنسانية الذين ضحوا من أجل كرامة الإنسان و حقوقه و حريته . واعتبر مولاي عبد السلام الجبلي الحضور الذي جاء دعما لهذه المبادرة، تمثيلا لفترة النضال الوطني بكل أنواعه وأشكاله، معبرا عن اعتزازه و سعادته بهذا الحدث الذي جعله يحس كما لو وُلد من جديد . وفي عرضه لخلفيات المشروع التربوي والاجتماعي «أبناؤنا« عاد رمز المقاومة إلى سنة 1937 ، حين كان عمره لم يتجاوز بعد الخامسة، وانتفضت مظاهرات وطنية بمراكش هُيئ لها بسرية تامة، احتجاجا على طغيان الباشا الكلاوي إزاء الطبقة المسحوقة التي كانت تعاني وضعا مزريا حينها . ونال علماء المدينة الذين ساهموا في التحضير لهذه المظاهرة درجة مريرة من انتقام الإدارة. وأوضح مولاي عبد السلام الجبلي أن هذا الحدث مكنه من الوعي المبكر بأهمية التعليم و التربية ، لكونه كان رغم حداثة سنه على قرب من تطور الأحداث المرتبطة بها ، لأن والده فتح بيته لكل الاجتماعات المهيأة لها وكان يستمع للأحاديث التي تدور فيما بينهم . وقال مولاي عبد السلام الجبلي أن في عهد إريك لامون بدأ التفكير جديا في تأسيس المدارس الحرة المواجهة لمشروع الفرنسة، وفي هذا السياق افتتح عددا من المدارس الحرة تحت إشراف الحركة الوطنية ومنها مدرسة الإيدغوغ و مدرسة محمد الخامس رياض العروس، ثم مدرسة الفضيلة التي كانت خاصة بالبنات، والتي عُين مديرا لها الفقيه أحمد بلحسن لما كان معروفا عنه من ورع وسمعة جيدة لطمأنة الأسرة المراكشية على بناتها وتشجيعهم على إلحاقهن بالمدرسة . وهو ماحدث فعلا خاصة من قبل بعض الأسر التي كانت على قدر من الوعي ومن اليسر الاجتماعي . وشكل عدد من خريجاتها الرعيل الأول من النخبة النسائية التي ساهمت في البناء الثقافي والتربوي بعد الحصول على الاستقلال . وأضاف قائلا « درّست في عدد من هذه المدارس و منها مدرسة الحياة بدرب سنان، و كنا نقوم بذلك متطوعين ، مقبلين على هذا الفعل بفرح كبير ..» واستمرارا في عرض الخلفية التاريخية لمشروع «أبناؤنا» و جذوره الوطنية ، توقف مولاي عبد السلام الجبلي عند سنة 1949 بعد عودة الأستاذ عبد الله إبراهيم الذي فتح أعينهم على التطورات الفكرية التي يعرفها العالم و المستوى الذي وصل إليه التعليم مما دفعهم إلى المطالبة بإصلاح التعليم الأصيل الذي كان يعتمد مناهج عتيقة ، لا تساير العصر حيث أن التدريس فيه كان يقتصر على شعبتين هي الآداب والشريعة. وكان ذلك محطة إضافية عززت وعيه بأهمية الورش التربوي و التعليمي في بناء المستقبل الحضاري لبلادنا. وتقوى هذا الوعي إثر توجهه إلى جنيف السويسرية بعد الحصول على الاستقلال ، حيث تعرف هناك على الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي و على مجموعة من الوطنيين ، و سافر بعدها إلى القاهرة بدعوة من الرئيس جمال عبد الناصر لحضور الاحتفالات الخاصة بالجلاء ، كما زار لبنان و سوريا ، حيث وقف على درجة تطور التعليم هناك . فكان ذلك باعثا قويا بالنسبة له على إنشاء مؤسسة أبناء الشهداء التي كانت حسب قوله تجربة غنية و خصبة و نموذجية ، وحظيت بدعم سكان مراكش . و قال مولاي عبد السلام الجبلي أن هاجس التربية و التعليم ظل يلازمه بعدما اضطر إلى مغادرة المغرب إثر الظروف العصيبة التي عاشتها البلاد بعد الاستقلال . وقبل المسيرة الخضراء بعث الراحل الحسن الثاني مصطفى بن عثمان لإقناعه بالرجوع إلى بلاده، فكان رده «عندما أقتنع بأن الظروف قد أصبحت مواتية سأعود». وفي هذه الفترة قام بزيارات لعدة منشآت تربوية و تعليمية بفرنسا للاطلاع على درجة تقدمها . وأوضح أن بعد عوته، رفض كل المساومات، وانصرف تفكيره إلى المشروع الذي ظل يلح عليه منذ فترة النضال الوطني من أجل الاستقلال، و هو التعليم و التربية . فشرع في التهيئ لمؤسسة « أبناؤنا «، واستغرق إعداده التهيئ له سنوات . لكن وزير الداخلية حينها إدريس البصري اتصل به مقترحا عليه أن يحول المشروع من مؤسسة إلى شركة، على أن يكون ( أي البصري) شريكا معه فيها، و طلب منه في هذا الصدد الاتصال بالأستاذ الزين للقيام بالترتيبات اللازمة لذلك. وأبرز مولاي عبد السلام الجبلي أنه أبلغ الموثق الزين برفضه تحويل المشروع إلى شركة، لأن نيته ليست إقامة مشروع تجاري وإنما مشروع اجتماعي تربوي، و طلب منه إبلاغ إدريس البصري بهذا الرفض. فكان ذلك بمثابة بداية عرقلة المشروع، الذي كان يضم إضافة إلى مدرسة من الروض إلى الباكلوريا مع تعليم متنوع، حديقة للطفل بجنان سيدي بلعباس وملعبا للشبيبة المدرسية بباب دكالة . وختم كلمته بأن مشروع «أبناؤنا« الذي يجر من ورائه تاريخا طويلا يعود إلى فترة النضال الوطني، يقوم على قناعة اساسية هو أنه بدون الاهتمام بأبنائنا لا نملك أي مستقبل. المناضل محمد بن سعيد آيت إيدر، الذي ألقى كلمة باسم مركز بنسعيد آيت إيدر للدراسات والأبحاث، أكد بدوره أن قيمة هذا الحضور الوازن في هذا الملتقى الإخباري، تعكس الاعتبار الكبير الذي يحظى به شخص مولاي عبد السلام الجبلي كرمز في حركة المقاومة الوطنية و معركة الديمقراطية ، مبرزا أن الرجل أبدى طيلة مساره النضالي اهتماما بقضية التربية والتعليم . وأوضح بنسعيد آيت إيدر أن مولاي عبد السلام الجبلي عند عودته إلى الوطن لم يفكر في حل مشاكله الشخصية ، وإنما فكر في مشكل هام يخص بناء الإنسان و هو التعليم و التربية، الذي يشكل ببلادنا موضوع صراع سياسي لأن سؤاله العميق هو أي إنسان نريد ؟ مؤكدا على أن المقاربة التقنوقراطية المتحررة من الرؤية السياسية قد أكملت دورتها وأظهرت أعطابها ، وحان الوقت إلى العودة المنطق الصائب المبني على الرؤية السياسية . وفي كلمة بعنوان «من معركة التحرير إلى معارك البناء المستدام لنهضة الإنسان والمجتمع « بثت في شريط مسجل معه أكد أندريه دوبيريتي ، على أهمية مبادرة مولاي عبد السلام الجبلي في إنشاء المؤسسة الاجتماعية التربوية «أبناؤنا«، مشددا على وضع التربية في محور تفتح الطفل على ذاته وعلى الآخرين من حوله وعلى الطبيعة هذه الهبة التي ينبغي أن نتملك الوعي الأخلاقي اللازم بضرورة حمايتها و تسليمها للأجيال المقبلة سليمة . وقدم الدكتور جمال الدين الأحمدي ، مشروع « أبناؤنا « ، الذي سيقام بمنطقة دراع العوينة بتمصلوحت بإقليم الحوز على بعد 17 كلم عن مدينة مراكش . مشيرا إلى أنها تهدف إلى أن تكون مقاربة مُجددة للتنمية الاجتماعية من خلال التربية عبر دمقرطة المدرسة المغربية. وأوضح الأحمدي أن هذا المشروع الاجتماعي التربوي الهام، الذي استشير في التهيئة له مع كفاءات أكاديمية مختصة وطنية ودولية، في سياق تحكمه مجموعة من المتغيرات التي جعلت النظام التربوي يهتم بالشهادة عوض بناء الذات، إضافة إلى اضطراب القيم وضياع المعالم السوسيو ثقافية والانطواء الذاتي والتفكك الاجتماعي وسيادة العنف والتوتر في العلاقات، وهيمنة ثقافة العولمة بما رافقها من تنميط للسلوكات وهيمنة الافتراضي . ويقوم مشروع « أبناؤنا « على مجموعة من الأسس ، حسب توضيحات الدكتور الأحمدي، منها إعادة إدماج الطبيعة في التربية ودمج المدرسة في محيطها، من خلال التصالح مع الذات ومع الطبيعة ومع الآخرين والعصر. ويحقق المشروع أهدافه من خلال ثلاثة أقطاب مندمجة تهيئ فضاءات متكاملة لفتح الناشئة وأسرهم على الكفايات المحققة للقيم الإنسانية التي تجعل تجعل من الطفل عنصرا إيجابيا في محيطه الطبيعي والاجتماعي ، وحاملا لإشعاع حضاري و ثقافي يصون الطبيعة ويحافظ على توازنات البيئة ويقبل على الآخر واختلافه بعيدا عن منطق العنف والتوتر . ليخلص إلى أن مؤسسة « أبناؤنا« هي مؤسسة اجتماعية وتربوية منفتحة ، ستكون مصدر إشعاع ثقافي في الجهة و قطبا للتنمية المستدامة والتضامن . وعرف برنامج هذا الملتقى تقديم مداخلات علمية للأساتذة صلاح بنيمنة الذي عنون مداخلته ب» بعض التحولات السوسيو اقتصادية الكبرى وتأثيرها على التربية « وفؤاد شفيقي الذي ركز مداخلته على «المدرسة ومهام بناء مجتمع يتملك أسس ثقافة علمية « ومحمد الطوكي الذي عنون مداخلته ب» أصول التربية في الذاكرة المغربية .» وأكد إعلان ملتقى مؤسسة أبناؤنا، الذي ألقاه الأستاذ الغوالي، على أن حقل الأنشطة التربوية الموازية يجب اعتباره مدرسة مفتوحة قائمة الذات تعمل على إزالة التوترات الذاتية والعائلية والمجتمعية بهدف تحقيق مصالحة أبنائنا مع ذواتهم و مجتمعهم وبيئتهم الطبيعية في افق توفير مستقبل مشرف لوطننا وانخراطه في سياق التاريخ و تطورات المجتمعات عبر العالم . وحث الملتقى السنوي الأول لمؤسسة «أبناؤنا« على العناية الشاملة بالأنشطة التربوية الموازية و إشاعتها لفائدة الفئات العريضة من التلاميذ عبر دعم المؤسسات الرائدة التي تراهن بقناعة على تربية الناشئة على قاعدة سليمة، وربط الأجيال الصاعدة بموصولهم التاريخي و الحضاري في خدمة وطنهم و اعترافا للأجيال التي عملت من أجل سعادة و نمو البلاد . وأجمع الحاضرون، وهم من الفعاليات النشيطة في حقول مختلفة، على أهمية وقوة مشروع المناضل والرمز الوطني مولاي عبد السلام الجبلي، وهو المشروع الذي وجدوا فيه كل مقومات إشباع متطلبات وتحديات سياقنا التربوي والثقافي والاجتماعي الذي تحركه الحاجة إلى توفير فضاءات متكاملة توفر اسباب بناء شخصية مغربية متوازنة متملكة لكفايات التعايش مع الآخر والفعل الإيجابي في المحيط و تقدير الطبيعة والتراث والذاكرة والانفتاح على مختلف فنون العصر وعلومه . هذا وقد تم توقيع عدة اتفاقيات شراكة بين مؤسسة أبناؤنا وعدد من المؤسسات من ضمنها غرفة الصناعة التقليدية ومجلس جهة مراكش تانسيفت الحوز وقعهما الى جانب مولاي عبد السلام الجبلي الرئيس المؤسس لمؤسسة أبناؤنا، نجيب ايت عبد المالك، الاولى بصفته رئيسا لغرفة الصناعة التقليدية، والثانية بصفته نائبا لرئيس الجهة، كما تم توقيع اتفاقية اخرى مع الفيدرالية الوطنية لجمعيات أباء وأمهات وأولياء التلاميذ ، وأخرى مع اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان ، وجمعية مؤسسات التعليم الخاص بمراكش. جميل حقا ان يكون هؤلاء المناضلون الكبار والذين قادوا نضالات هذا الشعب نحو تحقيق الاستقلال وواصلوا نضالهم من اجل الديمقراطية، جميل ان يواصلوا تفكيرهم في حفدتهم ومستقبل ابناء المغرب وأغلبهم تجاوز عقده الثامن لكن عزيمتهم مازالت فيها الحيوية، لقد هبت حقا على مراكش السبت الماضي نسمات الحب الابدي للوطن، العشق الازلي لأن يكون للمغرب موقع متقدم بين الامم، تأملنا وجوههم فكانت عيونهم قبل كلامهم تفشي عن سر خاص بهؤلاء العمالقة الذين ينبض قلبهم بالمفهوم الحقيقي للوطن، ذلك عهد قطعوه على انفسهم منذ رعايين شبابهم. القاعة وهوامشها ومحيط نادي القضاة بمراكش تحول السبت الماضي الى محج لأن فيه التاريخ، وفيه المستقبل، والتقت وجوه مناضلة من الوطنيين والتقدميين اليساريين يتقدمهم الاتحاديون, فكانت صلة الرحم بين أجيال من المناضلين الأوفياء، ممن رسموا خريطة النضال الوطني وممن تركوا بصمات واضحة في تاريخ المغرب المعاصر وما وهنوا وما عجزوا وهم اليوم ومن مراكش يعلنون إن مستقبل المغرب يتجلى في أبنائه.