برز أهمية هذه الدراسة المزدوجة في أنها أتاحت الفرصة لتوضيح سيرة شخصين وعالَمَين أدبيَّيْن، كما تضيء جانباً مبهماً عن بروست الذي يبدو أنه أكثر كرهاً لمخالطة الناس، وأكثر عزلة، لكنه مع ذلك يحاول أن يتعايش مع الآخرين عامّة ومع الأدباء خاصّة، ويبدو أحياناً أكثر حضوراً من كوكتو نفسه. ينتمي كلّ من بروست وكوكتو لأسرتين بورجوازيتين مثقَّفتين، كما يرتبطان بعلاقة مميّزة مع والدتيهما : جين بروست، وأوجيني كوكتو. وسيبيّن المؤلِّف أنهما تشتركان معاً بمواصفات محدَّدة، لكنهما تختلفان -مع ذلك- في نمط التفكير ومقاربتهما للعالم. فالأولى أكثر واقعية من الثانية. فقد كان بروست يستخدم حساسيته المفرطة، أما كوكتو فكان يستخدم الخيال. بروست يختار استكشاف أعماق الروح الانسانية، بينما يفضّل كوكتو العوالم الخيالية المجنَّحة والغريبة. يكتب بروست ببطء، فيهرب إلى الذاكرة والأعماق الإنسانية مشيِّداً بصبرٍ أسس معماره الرفيع، أمّا كوكتو فيستعجل -تحت ضغط الحضور المستمرّ بين الأوساط الإبداعية- إنجاز متاهاته الخيالية. يمكن القول إن كوكتو كان انعكاساً أدبياً لبروست قبل عشرين سنة. فقد كان حينذاك قد أصبح معترَفاً به كاتباً، في حين كان بروست كاتباً معروفاً بكتابته السردية والنقدية، لكنه لم يحقّق بعد الشهرة التي ستلي نشره للجزء الأول من »البحث عن الزمن الضائع«. كانت الأمور تسير في اتجاه بروز كوكتو ككاتبٍ لامعٍ ومعاصرٍ، بينما ظهر بروست، ككاتبٍ متخلّفٍ عن هذا السباق المحموم. يمثل النقاش والجدل بين الفيلسوفين المغربيين محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن تجسيداً للاصطدام بين نموذجين فلسفيين عرفهما تاريخ الفلسفة العربية؛ نموذج مستند إلى النظر ومقدم له، ونموذج قائم على العمل ومنطلق منه. كما يجسد الجدل تنوع الفلسفة العربية، وتداخل مستوياتها الدينية والفلسفية أو الطبيعية والشرعية في إطار ما يسميه الفيلسوف المغاربي أبو يعرب المرزوقي ب «الكلي»، بوجهيه التاريخي واللاهوتي بشكل متداخل، وتأسيساً للفعالية النظرية والعملية في إطار متمازج حيناً ومتصادم حيناً آخر. كما يعبر الجدل بين الفيلسوفين المغربيين عن النقاش الفلسفي المثمر الذي أنتجه العقل العربي من خلال تفاعله مع الفكر اليوناني لفهم مدونة الإسلام، بما هو مرجع نظر وعمل للفيلسوف العربي، وبما أبدعه من خلال إمكاناته التفكيرية الذاتية المستندة إلى أطره المرجعية والحضارية. وقد ركزنا في هذا الكتاب على الجدل الفلسفي بين الجابري وطه عبد الرحمن من خلال البحث اللغوي؛ إيماناً منا بأن البحث اللغوي، بمفهومه المعرفي، يختزل الترابط بين اللغوي والديني والفلسفي والنفسي، إضافةً إلى أن اللغة تختزل الرؤية الإدراكية للفيلسوف للكون، وهي التي يعبر من خلالها الفيلسوف عن بنائه الفلسفي وقدرته التفسيرية ونموذجه المعرفي.