تواطؤ البداية ليس العنوان ماكراً بقدر مكر التاريخ، الذي لا نتصفّحُ أوراقه باليقظة الكاملة. و ليس في الأمر أيّ رغبة في العودة نحو الخلف، أو في اجترار مكرُماتِ الماضي. لكن الحياة تعيدنا دوماً لتأمل إنجازات ذلك الماضي. قد نجدها حيناً رياض فردوس على الأرض.. و قد نراها في أحايين كثيرة مجرّد أطلالٍ، لا تستوقفنا إلا لاستدعاء أحد دورين نجيدهما بإتقان يستحق جوائز ترضيّة. الدور الأول يتمثّل في الاستئناس إلى دور الضحية، و التنعُّم ببراءتها و رَمْي كل الإدانة على أولائك ال «هُمْ» الذين قد أجرموا في حقّ الضحية، تلك الضحية «النحن» بالمؤنث و المذكر. فالمؤامرة دوماً من فِعْلِ «هم». هُمْ الآخرون الفاعلون، و الضحية مفعول به منصوبٌ لاحتمال المؤامرة، و لا طاقة للمفعول به على الرّفع أو الكسر أو التشييد. و الدور الثاني الذي يراوغ الدور الأول غياباً و حضوراً، هو جلْدُ الذات. فالذات هي التي تستحق من منظور مازوشي كل ما أوقَعَه بها الفاعلون المتآمرون، لأنها كانت ضحيةً ضعيفةً و غبيَّةً و رعناء، لم تعرف كيف تتصرّف، و لم تقاوم بما يكفي من القوة و الصبر و بُعْد النظر.. كي لا نَنْسى قد يكون تذكّر أوراق التاريخ مُريباً أحياناً، حين يختار للرَّكبِ المُتأخِّر المتعثِّر أن يسير وفق ما خطَّتْهُ للمَسيرِ من مسالكَ و دروبٍ و تسمياتٍ عَجَلاتُ المتوَّجين دوماً. لكن الجغرافية بدورها ليست منصفةً و لا يمكنُ أنْ نَسِمها بالحياد حين تضعُنا في المنتصَف بين انتماءٍ ندَّعيه إلى وطن أكبر يمتد من الماء إلى الماء، و حُلمٍ نرتضيه لنا من أراضٍ و طاقات و إنجازاتٍ ليستْ لنا، لكننا نجاوِرها يوماً بيوم و نجاريها سنةً تلو الأخرى. حين رفعت الآلافُ من العاملات الأمريكيات المتظاهرات في شوارع نيويورك قطعَ الخبز و باقات الورود في الثامن من مارس 1908، ليُطالبن بتقليص ساعات العمل و منع تشغيل الأطفال و رفض التمييز بين الرجل و المرأة في العمل و في الحياة المدنية عموماً، لم يكن حرصهن على تخليد ذكرى 129 عاملة اللواتي قضين سنة 1857 نضالاً في معركة جائرة ضد رأسمالية التمييز الجنسي، كما لم يكن حرصهن على سنِّ تاريخ للاحتفاء بإنجازات المرأة في المنتظم الدولي، بل كان النضالُ فعلَ حياةٍ و كفى، مارَسْنه بكامل إرادة الإنسان و بفائض يقين الحُلمِ بالتغيير. قَيْد الاحتفال اليوم مثل الأمس نقف بضمير المؤنث و ضمير المذكر أمام الاحتفاء و نتساءل بخبث متعدِّد لا يُخفي سوء نواياه، و إن اختلفت الأزياء التي نرتضيها أمام الموضوع ذاتِه؛ ماذا عن باقي أيام السنة؟؟ قد لا نكترث بأنْ يكون الاحتفاء بالمرأة مبدعة ً أو كاتبةً أو مفكِّرةً أو فاعِلة أو إنساناً... في يومها «المَجيد» موْضعَ رفض أو موضع قَبول. لكن في المقابل، لا بد أن ننشَغِل بنضجٍ و تبصُّر، للانسياق الرّائج نَحْو تَعدَاد ما تمَّ تحقيقه في مشهدنا من بطولةِ مكتسباتٍ يُعْتَدُّ بها ضمن زُمَر «الريادة»، و يُحتَكَمُ فيها دون وعي إلى فكر «الهِبات» و «العطايا» و ما تجود به فُتوحات «الكوطا». إن تلك الإنجازات في الغالب مكتسباتٌ أو تمثيليات تُحتَسبُ إنجازاً عالميّاً يوضَع في الواجهة، لتسويق صورة دولة القانون و الحداثة و حقوق الإنسان. لكنها في واقِع حالِ المجتمع المنشَغِل بهَمِّ «لُقمَةِ العيش» و لْتَكُنْ خبزاً، إنجازاتٌ تُراكِمُ في المدى البعيد، نفورَ المجتمع بمختلف شرائحه و مكوناته من كل وَسْمٍ رسميٍّ يتخذ صيغة تحرير ضمير المؤنَّث المقهور. لأنّ بِنْية القِيم المرتبطة بإعادة تشكيل الإنسان المنفتِح و المتقبِّل لتحولات الحياة و المجتمع في ظل الألفية الثالثة، لم يتِم تحديثُها و تحقيقها و تشييدها بما يكفي من الوعي و النضج و السمو. و مازالت تمثُّلات «الحَريم» و»الأنثى العَوْرة» و «الجسد المُشتهى/المُدنَّس»، و سلطة الأعراف و الطقوس و التقاليد المتوارثة منذ أجيال، تحظى بالتقديس و تتحكَّم في بناء التصورات حول الذات و الإنسان و الحياة و المجتمع. في المقابِل، لا بد أن نُخْضِع للمساءلة و التقييم هذا التنميط الاحتفالي الذي يتخذُّ لكثرة التكرار شكْلَ موسِمٍ تُعقَدُ مراسيمُه بكثير من التصنُّع و الابتسامات الصفراء، و تطوى الملفاتُ سريعاً في اليوم الموالي، و كأن منتهى الآمال قد حقَّقَته الخطَبُ «العصماء»، التي صاحبت المسيرات و الندوات و الاحتفاءات و التظاهرات، في انتظار حلول ثامن مارس المقبل، يوم عُرس السنة المقبلة قصد تكْرار مراسيم الاحتفال ذاتها. «للنّاس كافَّة» ثامن مارس يومٌ كسائر الأيام لا تدرك عطاياه الأيادي الخشنة وسط تعاريج الحقول العجفاء، و لا تعي هِباتِه الزهورُ البرِيَّة الكادِحة مُلتحِفةً بسمرة الشمس و حُمرة الصقيع هناك في أعالي الجبال المعزولة. إنّ صورة المرأة ضمن منظومة المجتمع و من ثم موقعها و مكانتها لا يمكن أن يصطنِعَ القانونُ بمفرده لها بديلاً. و لا يمكن للمدوَّنات و المواثيق و المراسيم أن تغيِّرَ تلك الصورة أو ذلك الموقع أو تلك المكانة نحو الأحسن أو الأفضل، أو نحو المسار الطبيعي الذي لن تستقيم بغيره الحياة داخل أي مجتمع سَوِي تتكامل عناصره و تتآزر. لأن مناط التغيير مرتبِط بالإضافة إلى كلِّ ذلك، بخَلْق تمثُّلات جديدة حول المرأة و الإنسان والحياة و الوجود، لا تستطيع أي سلطة عليا أن تفرضها باستعْلاء، و لا يمكن لأي قانون أن يشيِّدها مهما جدَّد بنودَه و مساطِرَه. إنّ التمثُّلات الجديدة و المطلوبة و المنشودة، تُنتِجها التربيةُ و التنشئة الاجتماعيتان. و لذلك فالسبيل لا يبتعد عن أصلين اثنين. أوَّلهما ما تشكِّلُه الأسرة من قيم و تصوُّرات و مفاهيم، تغرسها عميقاً بالفعل و القول و العادة، في شخصيات الأبناء و هي تعجنهم منذ الطفولة الأولى. و ثانيهما تجديدُ النظر في التعليم و القِيم التي يرسِّخُها و إصلاحُ منظومته بنزاهة و إبداع، و ليس الاكتفاء بمحو الأمية و ابتداع أشكال ذلك المحو المختلفة في جميع أسلاك الدراسة. إن التربية و التعليم وحدهما الكفيلان بإنتاج الإنسان السوي القادر على تغيير كلّ البرك الفاسدة و الآسنة، بما يكفي من التّصالُح مع الذات الفردية و الجماعية و الإنسانية، و بما يفيض من القيم الإنسانية الكونية التي ترسخ المبادئ المُتَعالية التي تبنيها مقاصِدُ «تتميم مكارم الأخلاق» و «الناس كافة» و «خير أمة أخرجت للناس». ماذا بعد؟ الانتماء إلى النُّخبة المفَكِّرة لم يكن يوماً، امتيازاً تُمَدُّ له البُسط الحُمر، أو ترفَعُ له التصفيقات و الاحتفاءات و الجوائز. إنّ الفِكرَ يقتضي منذ بدء السؤال، مخاتَلةَ النرجسية بكثير من الفردانية المنفتحة على العطاء الإنساني و الوجود البشري. و لا يمكن الفصلُ هنا بين «أنا» الكاتبة و «أنا» الذات المفكِّرة و «أنا» الوُجود ، ف»أنْ أكونَ» فِعْلُ وجودٍ لا يتجزَّأ، و لذلك قد تحاصرنا سطوة التفكير حتى حين نرغب بممارسة الحياة ببراءة البسطاء و فرَحِهم، و سذاجة الأطفال و اندهاشهم. إن الاحتفاء ب»الإنسان» الذي تحدَّدُ مدَّةُ صلاحيته في أربع و عشرين ساعة موسِمُ زُهورٍ «بلاستيكية» للأسف لا عطر لها. و يظلُّ الخُبزُ هاجسَ عيشهنَ هنَّ في «أنفكو» و مثيلاتها من الرموز في كل خارطتنا الممتدّة، لتَنزوي الورودُ الحقيقية عن منصَّات الاحتفاء، أو لِتستسلِم لزهو احتفاء يشبِه الحُلمَ بحياةٍ خالِدة خارجَ قُبور المزهريات المُبهِرة. * أستاذة بالمدرسة العليا للأساتذة / الدارالبيضاء