صدر عن دار إفريقيا الشرق بالبيضاء (2013) كتابٌ جديدٌ للدكتور محمد العمري تحت عنوان: أسئلة البلاغة، في النظرية والتاريخ والقراءة، دراسات وحوارات. وهو تركيب لحصيلة رحلة علمية فاقت أربعين سنة من البحث في البلاغة وأسئلتها وأجوبتها، في مشاريعها ومنجزاتها، وفي مدها وجزرها، وفي أسباب انكماشها واتساعها وآفاقها الواعدة. بمناسبة صدورها هذا الكتاب، الذي يحمل هَمّ البلاغة والحياة والإنسان والجمال، ويُنافِحُ على قيم الحق والحوار والاختلاف واللعب والإقناع، نجري هذا الحوار مع الأستاذ العمري لإلقاء مزيد من الضوء على قضايا الكتاب ومحاوره، ونترك للدكتور محمد العمري أريحية الإجابة عنها والتفاعل معها من موقع الباحث البلاغي ومحلل الخطاب، والمثقف الملتزم بقضايا مجتمعه ومستقبل أمته. * الأستاذ العمري، هنيئا لكم ولنا وللبلاغة والبحث العلمي بالإصدار الجديد. دعنا نستهل حوارنا معكم في هذه المناسبة الطيبة، وباعتباركم بلاغياً ومحللاً للخطاب بهذا السؤال: كيف تتابعون الأحداث الساخنة في المغرب وفي امتداده العربي؟ وهل للبلاغة دور ما في فهم مجريات هذه الأحداث والمساهمة في مآلها؟ ** شكرا على الاهتمام بهذا الموضوع والدعوة للحوار فيه. فهو يتيح لي أن أوضح بإيجاز بعض المسائل التي لا يستوعبها كثير من المتخاطبين، فيعتبرون نقد كلامهم عدوانا ناتجا عن كراهية أو موقف مسبق. المفهوم الجديد للبلاغة بعد استرجعها لبُعدها التداولي الحواري يجعل البلاغي الواعي بهذا البعد ملزما أخلاقيا بالمساهمة في نقد الخطاب السياسي تقنيا وأخلاقيا. ليس محظورا على أي مثقف أن يكون منتميا إلى خيار سياسي، أو متحيزا إلى فئة معينة، ولكنه ملزم باتباع قواعد الحوار وأخلاق المناظرة وإلزام غيره بذلك من خلال التقعيد والتقنين من جهة، وكشف المغالطات والتشوهات الخطابية، ومعاقبتها بكشف اعوجاجاته، من جهة ثانية. ومن حسن الحظ أن الناس جميعا يرفضون أن يُكشف اعوجاجهم حتى ولو تعمدوه. فمن هذه الجهة أجدني ملزما ومقحما في هذا الحراك، ورغم أنه شغلني عن مشاريعي العلمية الأكاديمية فإني لست نادما ولا حزينا لذلك، فقد راكمت مادة غنية من النقد التطبيقي كنا في أشد الحاجة إليها. إن ما يعرفه الواقع العربي منذ ثلاث سنوات من توسع خطابي حجاجي وتحريضي حماسي في المظاهرات والفضائيات، وعلى النيت والصحافة المكتوبة، يشكل لحظة ثانية في تاريخ المنطقة العربية، من المحيط إلى الخليج. اللحظة الأولى هي التي سميت "العصر الذهبي" للخطابة العربية، وسميت أيضا عصر "الفتنة الكبرى". هي المرحلة التي تشكلت فيها أحزابٌ سياسيةٌ وفِرقٌ كلامية وتلتها مذاهب فقهية، هي القرن الأول الهجري. اليوم نعيش "فتنة" خطابية أخرى، مجالها الإعلام. وعلى البلاغي اليوم، كما على أي مثقف، أن يتسلح بثقافة القرن الأول الهجري لكي يفهم الزحف الخوارجي الجديد الذي يزحف كالجفاف والتصحر على المنطقة العربية: ترييف المدن وبدونة الفكر...الخ، وعليه في نفس الوقت أن يعي أساليب الأصولييات السياسية والعرقية والاجتماعية التي تخير الناس بين السيء والأسوأ: إما الخوارج بكل تخلفهم العقلي والحضاري وتعطشهم للدم، وإما المخزن والأنظمة العسكرية بكل توابعهما وذيولهما. * هل معنى ذلك أن البلاغة وجه من أوجه الحياة، وآلية من آليات الدفاع عنها وعن كرامة الإنسان فيها؟ **هذا صحيح، لأن هناك، مع الأسف، مفارقة أبدية، وهي أن جنود المستغِلِّين (بالكسر) (من الأصولية الدينية والاجتماعية والسياسية) هم المستغَلَّون (بالفتح)، الضحايا هم الجنود! والمثقف يقف مَذهولا أمامَ هذه المفارقة، وقد يُصابُ بالإحباط فينعزل، وقد يتحول إلى منتقم ممن خذلوه فينضم لصفوف المستغِلِّين الظالمين. * في هذا السياق، صدر لكم خلال الأخيرة 2013، عن إفريقيا الشرق، كتاب اخترتم له عنوان: أسئلة البلاغة، في النظرية والتاريخ والقراءة، فما هي القيمة المضافة لهذا الكتاب، ضمن مشروعكم العلمي؟ ** كما تعلمون، وكما عايشتم منذ مدة غير قصيرة، توزعت أعمالي العلمية (تحقيقا وترجمة وتأليفا) بين تحليل الخطاب الشعري وتحليل الخطاب الحجاجي التداولي كل على حده، وبعد أن اتضحت لي معالم الخطابين والبلاغة الخاصة بكل منهما بدأت، منذ أكثر من عشر سنوات، في بلورة الجواب عن سؤال بقِيتُ طوال المدة السابقة منطويا عليه وساكتا عنه إلا إشارة، وهو سؤال البلاغة العامة: هل توجد بلاغة عامة كفيلة بوصف اشتغال الخطابين التخييلي والحجاجي، وهل يمكن أن أُسْهم بنصيب في بنائها؟ السؤال مطروح في البلاغة الغربية الحديثة، وكالمُسلَّم به في البلاغة القديمة قبل عصر الجمود والانحطاط، ولكنها غير موصوفة بما يسمح ببناء صرحها. هذا هو السؤال الذي طرحته في كتاب: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، بطريقة إشكالية، ومن خلال عرض تاريخي، وتحليل نصوص سردية، تقيم شيئا من التوازن في هذا المجال. وهذا السؤال هو الذي توسع واغتنى بتعميق النقاش في علاقة البلاغة بالحجاج والخطاب السياسي والنقد، وبعرض في تاريخ البلاغة العربية، ثم بمجموعة من النقاشات والحوارات في جوهر الإشكالية. كتاب أسئلة البلاغة محاورة إشكالية للإعمال السابقة وتطوير للنقاش في اتجاه بلاغة عربية عامة قابلة للتداول. * لقد قضيتم في تشييد مشروعكم العلمي هذا، أزيد من أربعة عقود، وأنتم تبحثون في البلاغة، وفي الوقت نفسه تبحثون عنها وعن موقعها وحدودها، فأين وصلتم في هذه الرحلة العلمية الطويلة، هل وجدتم البلاغة أم ما يزال البحث عنها جارياً؟ **كما قلتُ في الجواب عن السؤال السابق عملي عبارة عن مساهمة فرد، ومساهمات الأفراد هي بناء بتصميم يتفاعل فيه الذاتي والموضوعي. والذاتي هنا ليس الوجداني، بل هو الطابع المعماري. المهم أنني أنجزتُ، مع آخرين، عملية إعادة الاعتبار للبعد التداولي للبلاغة، وأيدتُه بما يكفي من الحجج التي تخرجه من هامش المنطق واللسانيات إلى صميم البلاغة ومركزها، كما هو مصاغ في تعريفها. وقد بدأتُ هذه العملية مبكرا من خلال الخروج بدرس الخطابة من حيز تاريخ الأدب ونقد الشعر، الذي كان يضعها في هامشه، إلى المجال البلاغي الذي لا يلغي التاريخ ولكنه يجعله تابعا ومادةً موظفة، أي جزءا من ذخيرة الخطيب وحججه. ومن هذه العملية خرج أولُ كتيب في العالم العربي يدرس الخطابة خارج نقد الشعر. وما زال يتيما في موضوعه، يعاد طبعه، هو: في بلاغة الخطاب الإقناعي. ونفس عملية إعادة الاعتبار مارستُها مع البنية الصوتية في الشعر من خلال كتابين: تحليل الخطاب الشعري، والموازنات الصوتية. إن لم أجرأ على القول بأني وَجدتُ البلاغةَ من خلال التعريف النسقي الذي قدمتُه لها، باعتبارها("العلم الذي يتناول الخطاب الاحتمالي المؤثر")، فسأقول لك إني وجدتُ صِفتَها ونعتَها والطريقَ الموصلةَ إليها. فَلْنسِرْ جميعا في هذا الطريق الطويل الشاق، إنها إمبراطورية. وفي الطريق قد تجد من يسرقُ أمتعتَك وجهاً لوجه بدون حياء، إن ذلك لا يُحبطني، السارق سيظل فقيرا، لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. اِقْبَلْ مني هذه الجملة الأخيرة أو احْذفْها إن شئت لأني وجدتُ الكثير من أنساقي وأنفاسي، ومصطلحاتي وألفاظي، مقطعة الأوصال في مقال طويل منشور في مجلة شرقية رائجة في المغرب، يوهم صاحبه أن ذلك كله من بنات فكره، وما له فكر لتكون لفكره بنات. عفا الله عنه. * مع كل ذلك انتهيتم إلى التعريف السابق الذي يبدو جامعاً للبلاغة مفاده أن "البلاغة هي علم الخطاب الاحتمالي المؤثر"، هل تعتبرون هذا التعريف نهائياً أم مجرد بداية المجتهد؟ ** هذا التعريف يحدد مركز البلاغة وعاصمتها ومنطلق إشعاعها، أما الحدود الفاصل بينها وبين الخطابين الحافَّيْن بها من أعلاها وأسفلها فتتطلب اجتهادات وتدقيقات ستكون محل طعن وتشكيك ليس من الجيران فحسب، ولكن أيضا من أهل الدار. * هل يمكن التوضيح أكثر؟ ** تكمن الصعوبة في إشكالين: يتصل أولهما بمدى دقة تعريف "الاحتمال" حين نقول: يمتد الخطاب الاحتمالي بين الهذر في أسفله والبرهان في أعلاه. ومن الهذر كلام السكارى والمجانين، ولكن أليس في كلام المجانين مجالٌ للتخييل الفني؟ ما الحدود بين الفن والجنون؟ طرح علي هذا السؤال في محاضرة بورزازات على هامش مهرجان تاماوايت الشعري الغنائي 2011. وهو سؤال نَغُض عنه الطرف مؤقتا لصالح النسق. ويتصل الإشكال الثاني بمفهموم "الأثر"، فالأثر يمتد في سلم تنازلي من "الاضطرار بالحجة"، في أعلاه، إلى الانقياد بلا روية في وسطه، إلى مجرد الاستشعار الخفي من خلال مؤشرات غاية في الخفاء في أدناه. فالأثر يقتضي وجود المعنى والمعنى ينزل في بعض الشعر، كما في التشكيل والموسيقى، إلى درجة التلاشي حيث لا يبقى أكثرُ من مؤشرات جنس الخطاب في مواجهة ذخيرة المتلقي. فنحن في حاجة إلى اجتهاد لفهم هاذين الإشكالين وتفهمهما. وعند هذه التخوم المفتوحة المتحولة لا تصير البلاغة علم من هب ودب، أوشأنَ أطروحاتٍ وألقابٍ جامعية، بل شأن هواة السؤال والرحلة بين العلوم والفلسفات وتقلبات الحياة والإنسان، وهذا جهد لن يكون إلا مشتركا ومحل أخذ ورد. وهذا لا عيب فيه، ولا ضرر منه، فالحدود بين العلوم والأنشطة الانسانية حدود اعتبارية ومنهاجية، لأنها متحركة، كما سبق. وهنا تطرح معضلة الأدوات، واللغة الواصفة... والمصطلحات... *هذا هو السؤال الذي كنت أتأهَّبُ لطرحه، أقرؤُه عليك كما صُغتُه: في أفق بلاغة عربية عامة تنتظمُ الشعريَّ التخييليَّ والخطابيَّ الحجاجي أَوليْتُم لسؤال المصطلح أهميةً قصوى، وفي إطار النسق المعرفي، ماذا يمكن للمصطلح بهذه الشروط أن يقدم للبلاغة العامة التي تَسْعَوْنَ لإنشائها؟ ** لا يمكن بناء نسق معرفي دون منظومة مصطلية لها ساق وأغصان وأوراق وظلال. وقد قوي إحساسي بهذا الأمر من زاويتين في وقت واحد منذ أكثرَ من ثلاثة عقود: زاوية الترجمة، حيث وجدت في الثقافة الغربية أنساقا معرفية لا يمكن التفاعل معها إيجابيا إلا ببناء أنساق مقابلة في اللغة العربية. وزاوية قراءة التراث البلاغي العربي و"تنسيقه"، أي تقديمه في بنية دالة قابلة للتفاعل مع العصر الحديث. عانيتُ هذا الإشكال حين تصديت لتنسيق مصطلحات الموازنات الصوتية التي كانت تعد بالعشرات، كما عانيته حين بحثت في البعد التداولي الخطابي الذي كان مهملا. وقد كنتُ أجدُ العملَ الذي يقوم به بعض الدارسين في رسائلهم الجامعية (باستخراج مصطلحات من مؤلفات بلاغية خارج النسق المعرفي للعلم) عملا عبثيا؛ لا نفع منهُ غير تسجيل شهادة في الملف الإداري. فكتبتُ في ذلك بحثا تحت عنوان: مصطلح الدرس الأدبي والنسق المعرفي الفاعل. ولأهميته وجدَ مكانه في هذا الكتاب. *خصَّصتُم فصلاً كاملاً في كتابكم هذا للمناقشات والحوارات التي رافقتْ مشروعَكم، ويحتلُّ هذا الفصلُ مساحةً كبيرة من الكتاب، بماذا تفسرون هذا. وهل أنتم متفائلون لنوع المناقشات الحاصلة، ومرتاحون لحصيلة هذه الحوارات المسايرة لمشروعكم العلمي؟ ** أذكر أني لم أكن أفهم النظريات الفلسفية (في دروس الباكلوريا) فهما جيدا مريحا إلا بعد قراءة النقد الذي وُجِّه إليها من النظريات المخالفة والمجاورة والمسائلة. كما أذكر أني بذلت جهدا طيبا في قراءة الشعرية الشكلانية، ولكني لم أرتح إلى فهمي لها إلا بعدَ قراءة الحوار الطويل الذي أجرته بروموسكا مع ياكوبسون وطبع في كتاب ثمين، وبعد النقد الذي وُجِّه إلى الشكلانية من نظرية التلقي وغيرها. هذا النقد زاد الشكلانية قيمة عندي، لأنه بين مجالَ إبداعها وحدود فعلها. فالحوار والنقاش يتيح لنا معرفة حدود النظرية ويرفعُ بعضَ تحفظاتِنا أو يدعمها: يخرجنا من رهبة النظرية ويطلق تفكيرنا في جوانب الموضوع. القبيح هو اعتراض من لا يفهم، وهذا لا أعيره اهتماما. فهذا المدخل الحواري، الذي يشكله القسم الثالث من الكتاب، يلعبُ دوراً بيداغوجيا يوسعُ الإدراك ويعطي القارئ إمكانية تملك الأفكار والاستقلال بها، فالمواجهة لم تعد بيني وبين القارئ، بل بين ثلاثة أطراف: المؤلف، والمحاور/المناقش، والقارئ. * انتهيتم في كتابكم إلى خلاصة متفائلة في حق البلاغة عندما اعتبرتموها "فلسفة للعصر للحديث، وعلما لكشف المرونة الإنسانية في الحوار والفن، وقبول الاختلاف واللعب والمجاز، لذلك يخشاها المستبدون والأصوليون. كيف يمكن إقناع القراء بهذا النوع من الخلاصات؟ ** عندما زرت الأستاذ الطبيب الذي كان يعالجني من التهاب الكبد الفيروسي منذ عشر سنوات، قال لي: سمعتُك، في برنامج حواري بالتلفزة المغربية، تقول بأن البلاغة يمكن أن تدرس في جميع المستويات، والحال أن البلاغة التي قرأناها في الثانوي لا تصلح أن تدرس في أي مستوى. قلتُ له: كلامك صحيح، تلك بلاغةٌ مأسورة، وليستْ هي البلاغةَ التي أتحدث عنها...الخ، وشرحتُ له الغرض فاقتنع. نحن ننطلق من أن البلاغة ذات جناحين: تخييل وتداول، ويمكن أن نقدم للإنسان أدوات تفتح خياله وتنمي قدرته على المحاكمة والاحتجاج منذ نعومة أظفاره، ونطورها تدريجيا مع نموه حتى نتحول من الممارسة إلى الوعي بها، فنكسبُ إنسانا رفيع الذوق يعرف حدوده وحقوقه. مرجع التخييل أساساً إلى المجاز والمجاز هو نوع من اللعب، أي الانتقال من معنى عملي نفعي إلى بديل فيه فسحة واختيار، من "الأصل" إلى كل الصور المحتملة لتجليه. بدل المغالبة بالأسلحة نتقاذف كرة مملوءة بالهواء حسب قاعدة نتواضع عليها. مفهوم المحاكاة والانزياح منطلق من هذا الاعتبار. بالتخييل الفني الموسيقي والحركي (الرقص) والتشكيلي والتمثيلي والاستعاري، ...يخلق الإنسان عالما فسيحا داخل نفسه أولا ومع الآخرين ثانيا. وما لم تنفتح الذات على خيالات وبدائل وخيارات لن تكون قادرة على استيعاب الآخرين، وهذا هو عطب الأصولية التي ترفض المخيلات المحاكيات والانزياحيات التي هي الفنون والآداب على الإجمال. ومرجع التداول إلى الحوار، والحوار، كما عرفناه في مكان آخر، هو قبول خلق فسحة بين الذات والآخر، فسحة تضيق وتتسع دون صدام بين الطرفين. ونقيضُ الحوار وعدوه وخصمه الدعوةُ إلى التطابق وفرضه على الآخر بكل السلط. التداول فسحةٌ بين الناس، قبولُهم كما هم، والتفاعل معهم من أجل تقاسم المنطقة الفاصلة دون عنف. ومن العنف فرضُ ما لا يطاق على القلوب والعقوب، فسبحان مُقلِّب القلوب. والأصوليات تكره الحوار كما تكره المجاز والاحتمال: لا يقبل الأصولي أن تقول له: "يبدو أنك كذا..."، لأنه يعتقد أنه "هو ما هو"، ولا يقبل أن تتقاسم معه المسافة التي تفصل بينكما، لأنه يعتقد أنه بدون حدود. "يبدو كما لو" هي أساس التخييل، كما قال إيزر، وتقاسُم المساحة الفاصلة بين طرفين هو أساس الحوار، كما بينا في "دائرة الحوار ومزالق العنف". * ألهذا أفردتم في كتابكم هذا مجالاً واسعاً لما سميتموه بلاغة الحوار مقرونة بالخطاب السياسي باعتباره خطاباً تداولياً حِجاجياً دون غيره من أنواع الخطاب الأخرى؟ ** تعرفون، بحكم الاختصاص، أن الخطاب السياسي هو مركز الخطابية، فهو يوجد في التصنيف الأرسطي بين الخطاب القضائي (المشاجري) الذي يتطلب صلابة الحجج ويستدعي الوثائق، وبين الخطاب الاحتفالي التقييمي القريب من الشعر، أو الأدب بصفة عامة، إذ قوامه التحسين والتقبيح. ولذلك يكون من المفيد دائما في تنظير العلوم الإنسانية الابتداء من النواة والامتداد منها إلى الأطراف. هذا من الناحية المنهاجية، أما من الناحية الواقعية فإن الظرفية الحالية التي يجتازها المغرب والمنطقة العربية المتشابكة تقتضي التركيز على تقنيات الحوار وأخلاقه مساهمة من البلاغي في توجيه لحياة السياسية وجهة سليمة. ومن السياسة ستجد نفسك تخوض في القضايا الدينية والاجتماعية والقضائية لأن الأصوليات تسعى إلى إفساد عقول الناس بمنعهم من الوعي والتفكير النقدي الذي يجعلهم يرفضون الوِصَايَات. لو وَعَتِ الشعوبُ لُعبةَ الأصولياتِ (الدينية والسياسية والاجتماعية والعرقية) المستغلة لجهلها لقالت فيها ما قال المتنبي في كافور: جَوْعانُ يأكلُ مِن زادي ويُمِسكُني لِكَي يُقالَ: عَظِيمُ القَدرِ مَقصُودُ من واجبِ كل من وهبه اللهُ نعمةَ القدرة على كشف أساليب الزيف والمغالطة، وبيان خطورة الفُحش والجهل والبذاءة على الحياة، أن يماس هذا الواجب، وإلا كان جاحدا للنعمة. لا ينبغي التساهل مع خطباء الدينسية الذين يستسيغون الفحش والكذب والتضليل والمغالطة اعتمادا على ما يدعون من "نبل الهدف"، فالله غني عنهم، ومنزه عن سفاهاتهم. هذا تسبيق على أسئلتك ونعود للتعميق متى شئت. تحياتي وشكرا. * مدير مجلة البلاغة وتحليل الخطاب