بعد صدور النظام الداخلي لمجلس النواب، بهدف تنظيم عمل هذا المجلس بناء على المقتضيات الجديدة التي جاء بها دستور 2011، برزت على الساحة السياسية نقاشات حادة حول مدى مطابقة مقتضياته للدستور، إلى أن صدر قرار المجلس الدستور رقم 829/12 الذي حسم في الأمر، حيث قضى بأن 20 مادة من مواد النظام الداخلي لمجلس النواب هي غير مطابقة للدستور، إضافة إلى أن 25 مادة أخرى تتطلب مراعاة ملاحظات المجلس الدستوري بشأنها، هذا القرار أكد مرة أخرى أن هناك جهات تصر على إيجاد صيغ للتحرر من القيود التي فرضها عليهم الدستور الجديد أثناء مزاولتهم لمهامهم. سأحاول من خلال هذا المقال التطرق إلى الحصانة البرلمانية الموضوعية كما أكدها الفصل 64 من الدستور، والتي عوضت الحصانة الإجرائية التي اعتاد عليها بعض عشاق المناورة والتلاعب على القانون من النواب بغية خدمة مصالحهم الخاصة والإفلات من العقاب، وقد اتضح ذلك جليا من خلال المقتضيات التي جاءت بها المادة 98 من النظام الداخلي (في نسخته الأولى) حيث حاولت الإلتفاف على مقتضيات الفصل 64 من أجل تمكين البرلمانيين من الحصانة بنفس الشاكلة القديمة ضمن الفصل 39 من دستور 96 ولو في صيغة بسيطة, حيث حاولت (المادة 98) فرض إجراءات شكلية لرفع الحصانة، ضاربة عرض الحائط جوهر الحصانة الموضوعية التي لا تحتاج لإجراءات لرفعها، حيث أن مجالها محدد بدقة، وكل عمل أو قول لا يندرج ضمنه يعرض العضو البرلماني مباشرة وبدون أي إجراء سابق للمساءلة. وللمزيد من تسليط الضوء على هذا الموضوع، سنحاول التفصيل في مفهوم الحصانة الموضوعية والمحدودة المفروضة عليها. سأبدأ بما قاله الأستاذ مصطفى قلوش في هذا الصدد «فمن أجل توفير الشروط المناسبة لممثلي الأمة لأداء مهامهم التي انتخبوا من أجلها والمتمثلة في التعبير عن رأيهم بحرية ومراقبة أعمال الحكومة وحماية الصالح العام، وجب بالضرورة توفير حماية خاصة لهم ضد أي تهديد أو إرهاب أو انتقام، سواء أكان صادرا عن الحكومة أو من طرف أغلبيتها أو من طرف فرد أو جماعة، لدوافع ذاتية أو سياسية، من شأنها التأثير على مهامهم أو أن تحول دون أدائها على أحسن وجه». أي بهدف ضمان حرية أعضاء البرلمان في المناقشة والتصويت وإبداء الرأي الصريح أثناء أدائهم لوظيفتهم البرلمانية، التي تتطلب منهم توجيه النقد للحكومة في شخص أعضائها، حول كل عمل من شأنه الإضرار بالمصلحة العامة للوطن والمواطنين، أكد نص الدستور الأخير في فصله 64 على عدم متابعة أو مساءلة العضو البرلماني بأي وجه من الأوجه خاصة قضائيا عما يبديه من رأي أو قول في إطار ضوابط محددة تستهدف تحقيق الصالح العام والتصدي للفساد والاستبداد، وهو ما سمي بالحصانة الموضوعية أو الحصانة ضد المسؤولية الجنائية. إذن فالفصل 64 من الدستور الجديد الذي عوض في هذه المسألة الفصل 39 من دستور 1996 جعل الحصانة البرلمانية تقتصر على الحصانة الموضوعية عوض الحصانة الإجرائية، ويمكننا أن نستنتج من هذا الفصل مجموعة من الأفكار، التي يفهم منها تمتيع أعضاء المجلسين بمجموعة من الإمتيازات دون سائر الأشخاص، حتى وإن كانت لهم وظائف سامية في الدولة أم لا، حيث أنها تشمل الأقوال والآراء المعبر عنها أثناء مزاولة العضو البرلماني لمهمته، سواء كان ذلك داخل المجلس الذي ينتمي إليه أو في إحدى اللجن التابعة له، أو حتى خارج المجلس بمناسبة قيامه بعمله، (مثلا إذا كان ضمن لجنة مكلفة في إدارة أو مؤسسة أو في أي مكان داخل التراب الوطني)، إذ لا يمكن مضايقته بسبب أقواله أو أرائه التي أبداها رغبة في تحقيق الصالح العام، مما يتيح لممثل الأمة فرصة أداء مهامه دون الخوف من الوقوع تحت طائلة المسؤولية الجنائية أو المدنية. وتعتبر هذه الحصانة مطلقة من حيث النطاق الزمني, إذ أنها توفر الحماية للعضو البرلماني طيلة مدة نيابته وكذا من المتابعة حتى بعد انتهاء وانقضاء عضويته، وذلك لكل ما أبداه العضو خلال عمله البرلماني، وعدم مراعاتها من قبل المحكمة يؤدي إلى بطلان جميع الإجراءات المتخذة في حق العضو البرلماني، بل حتى وإن فقد العضو عضويته لسبب من الأسباب، فمن حقه التمسك بالحصانة التي كان يتمتع بها. إلا أنه رغم المكانة الهامة التي تحتلها، تبقى الحصانة الموضوعية غير مطلقة، إذ لا يمكن أن تشمل العضو البرلماني خارج فترات تأديته لعمله، مما يجعله خاضعا لكافة القواعد القانونية التي تسري على جميع أفراد المجتمع، كما أن الدستور في فصله 64 كان صريحا حينما استثنى الآراء والأقوال والأفعال التي تجادل في الدين الإسلامي أو النظام الملكي أو تتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك، حيث لا يجوز للعضو البرلماني التنكر للدين الإسلامي كديانة سماوية أو معارضة أحكامها القطعية، لكن هذا لا يمنعه من النقاش في الأمور الإجتهادية كإبداء وجهة نظر مخالفة لما هو متعارف عليه في المذهب المالكي أو التعبير عن رفض لفتوى ما، أما فيما يخص النظام الملكي فهو لا يمكن أن يكون محل اعتراض أو نقاش لأن وضعه في إطار المقتضيات الدستورية مماثل للدين الإسلامي, إذ اعتبرهما الفصل 175 من الدستور غير قابلين للمراجعة، أما فيما يخص وجوب خلو الرأي المعبر عنه من كل ما من شأنه أن يخل بالاحترام الواجب للملك، فهو يتطابق مع مقتضيات الفصل 41 باعتبار الملك أميرا للمؤمنين وكذا الفصل 46 الذي اعتبر أن الملك لا تنتهك حرمته وله واجب الاحترام والتقدير، ويضيف الأستاذ مصطفى قلوش في هذا الجانب «إضافة إلى أنه مطابق لما جرت عليه العادات المغربية من تقديم فروض الطاعة والولاء لمتولى سدة الإمام العظمى، إلا أن هذا لا يمنع من الكشف عن عيوب القوانين الصادرة عن المجلس الوزاري بحجة رئاسته من طرف الملك، أو إبداء المعارضة عن تفعيل مقتضيات الفصل 74 و95 أو اتخاذ مبادرة لمراجعة الدستور، غير أنه لا يجوز نقد التعيينات المولوية لكبار الموظفين وكذا التي تتم في إطار المؤسسة الحكومية بواسطة ظهائر، حيث لا يحق للعضو البرلماني التعبير عن رفضه للتشكيلة الحكومية إلا بالإمتناع عن التصويت لصالح برنامجها الحكومي، حسب ما نص عليه الفصل 88 من الدستور المتعلق بتنصيب الحكومة». وتأسيسا على ما سبق، إذا وقع العضو البرلماني في إحدى الحالات الاستثنائية السابق ذكرها على سبيل الحصر, يحرم من الاستفادة من الحصانة الموضوعية وتفتح ضده متابعة جنائية. رغم ذلك لا يمكن اعتبار الحصانة البرلمانية الموضوعية مطلقة في مجالات تطبيقها، حيث لا يحق للعضو البرلماني وبدون وجه حق أن ينهال بالسب والقذف والإنتقاد اللاذع بغية تصفية الحسابات مع الذين يكن لهم العداء، وينتقد الحكومة والمؤسسات الإدارية من جراء عدم تلبية مطالبه الخاصة، أو محاولة لاستمالة الرأي العام لكراهية الحكومة بهدف الظهور بمظهر المدافع عن المصلحة العامة. ومن أجل التصدي لشطط البرلماني في استعمال الحصانة, كان من المفروض على النظامين الداخليين للمجلس التدقيق في كيفية ممارسة العضو البرلماني لمهامه وكيفية تمتعه بالحصانة الموضوعية حسب ما ورد ضمن الفصل 64 من الدستور، لا الإجتهاد من أجل تمتيع العضو البرلماني بما لم يضمنه له الدستور لإتاحة الإمكانية من الجديد للتلاعب بهدف تجاوز القانون وتحقيق أغراض شخصية بطرق غير مشروعة. وبعد أن قضى المجلس الدستوري بعدم دستورية المادة 98 من النظام الداخلي، إضافة إلى باقي المواد التي جاءت ضمن الباب المخصص للحصانة البرلمانية، كان من المنتظر أن يعمل البرلمان على إعادة صياغة هذه المواد بما يتوافق مع مقتضيات الدستور، لكن المفاجأة كانت كبيرة جدا، حيث بعد أن اتضح في الصيغة الأولى للنظام الداخلي للمجلس عجز واضعيه على فهم واستيعاب مضمون الفصل 64 من الدستور ، تجنبوا في الصيغة الثانية كل ما من شأنه أن يكشف عن عجزهم، واكتفوا باستخدام تقنية نسخ/لصق (copier/coller) حيث قاموا بالنقل الحرفي للفصل 64 من الدستور ووضعه في النظام الداخلي للبرلمان، الأمر الذي يجعلنا نتساءل حول التكوين القانوني للجهاز التشريعي وكفاءته. * باحث بسلك الماستر تخصص القانون الدستوري والعلوم السياسية بكلية العلوم القانونية أكدال الرباط.