لم يمنع مهرجان البرلنالي السنمائي جمهور برلين من التفاعل مع حدث مهم شهدته العاصمة الألمانية طيلة يومين حول الثراث الثقافي اليهودي المغربي. هذا الحدث الذي أخذ ثلاثة أبعاد منها الجانب الفني والثقافي والعلمي. حيث نظم في ثلاث أمكنة متفرقة، وشكل متحف بيرغامون الخاص بالثراث الاسلامي أقواها. جاءت هذه الفعالية بتعاون بين سفارة المغرب في برلين ووزارة الخارجية الألمانية. كانت البداية بعرض أول لفيلم وثائقي حول اليهود المغاربة لمخرجه يونس لغراري. يحمل الفيلم إسما مهما «مسارات متقاطعة» وفيه يناول المخرج جوانب من تاريخ اليهود المغاربة ودوافع هجرتهم. وذلك بناء على شهادات استقاها مخرج الفيلم من عدد من اليهود المغاربة، سواء الذين هاجروا إلى فرنسا أو اسرائيل أو الذين ظلوا في المغرب ، ومن خلال معطيات تاريخية لعدد من المؤرخين، تم إبراز مدى ارتباط هؤلاء بأصولهم المغربية ، وحفاظهم على ثقافة البلد الأصل التي جسدتها كل الملامح التي تميز نمط عيش المغاربة من أثاث ولباس وموسيقى. وجاء في شهادات في هذا الفيلم والذي اعتمد أيضا على مقتطفات مصورة لأحداث تاريخية مرتبطة بهجرة اليهود، أن التعايش الذي ميز المغاربة المسلمين واليهود كان نموذجيا تقاسم فيه الطرفان كل جوانب الحياة اليومية، وكذا الافراح والاقراح وتبادل الزيارات، وممارسة التجارة بثقة طبعت علاقة الطرفين. وفي بوح حول الحنين إلى أرض الوطن ، أقرت بعض الشهادات، أن عددا كبيرا من اليهود المغاربة في اسرائيل لا يترددون في التقرب من الفلسطينيين كملاذ لاستحضار ثقافة وطنهم الأصلي مع استماعهم باستمرار إلى الأغاني المغربية. وفي هذا الصدد كانت شهادة أحد اليهود المغاربة أبلغ رسالة على هذا الارتباط وذلك عبر أداء أغنية «ياك أجرحي» للفنانة نعيمة سميح بآلة العود في إشارة منه على أن المغرب ظل يسكن اليهود أينما حلوا وارتحلوا ويعتبرون أنفسهم مهاجرين كباقي المواطنين المغاربة الآخرين. هذا بالاضافة إلى أن بعض الشهادات اعتبرت أن اليهود عاشوا «عصرا ذهبيا» في المغرب اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ، وانخرطوا بفضل ما خولته لهم القوانين ، في كل الإدارات والمؤسسات ووصلوا إلى مناصب عليا. غير أن لحظة الفصل التي قلبت حياتهم وبعثرت أوراقهم، وتسببت في هجرة الكثيرين منهم إما إلى اسرائيل أو فرنسا أو كندا تاركين وراءهم أملاكهم وحياتهم، كانت تأجيج الصراع العربي الإسرائيلي ، حسب الشهادات، والذي كان له تأثير قوي على حياة الطائفة اليهودية في المغرب خاصة حرب «الستة أيام «. وأوضحت الشهادات أن الهجرة تمت بشكل جماعي خوفا من التمزق بين العائلات رغم أن الأقلية هي التي كانت لديها الرغبة في الهجرة. غير أن اليهود المغاربة لم ينسوا موقف المغفور له محمد الخامس عندما رفض تسليم رعاياه اليهود بعد سقوط فرنسا بيد ألمانيا النازية سنة 1939، وذلك بعدما سنت حكومة فيشي قوانين تقضي بتجميع اليهود وإرسالهم إلى معسكرات الإبادة في كل من ألمانيا وبولونيا. كان الفيلم بحق بحث عميق في اضاءة عدد من الجوانب التي ظلت غائبة في هذه القضية الحساسة. وهكذا ذكرت الشهادات التي ساهم بها بالخصوص ، عامير بيرتز وزير البيئة الإسرائيلي، والراحل شمعون ليفي الأمين العام السابق لمؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي ، وادريس خروز مدير المكتبة الوطنية، وعدد من اليهود المغاربة نساء رجالا، أنه أثناء عمليات التهجير، طالب جلالة المغفور له الحسن الثاني بأن تتم العملية من خلال منظمة إنسانية. وحول دوافع إنجاز هذا الفيلم، أوضح مخرجه الغراري، أنه خلال زيارته لمنطقة تازناخت ، لفت انتباهه وجود مقبرة يهودية في حالة جيدة واكتشف أن اليهود المغاربة عاشوا في المنطقة في وئام تام مع المسلمين إلى غاية سنة 1961، فكان ذلك حافزا له لتعميق البحث في صفحة من تاريخ المغرب. وأضاف الغراري أن بعض التفاصيل التي ظلت غير مفهومة لديه جعلته يفكر في إنجاز فيلم وثائقي استغرق ثلاث سنوات، تنقل خلالها بين المغرب وفرنسا واسرائيل لجمع شهادات اليهود المغاربة والوقوف على حقائق تاريخية. معرض للصور حول الأوجه المتعددة ليهود المغرب في ستينيات القرن الماضي، كان حاضرا ومتميزا، وذلك بفضل مجهودات الفنانين كلود سيتبون الذي اشتغل كطبيب للأطفال في الدارالبيضاء في عقد الستينيات وغابريال أكسيل سوسان من مواليد الدارالبيضاء. وجاء هذا المعرض الذي يعرض يوميات اليهود المغاربة ويقدم صورا عن نمط حياة المغاربة اليهود ويعكس الثقافة المغربية لهؤلاء المواطنين. وقد تمكن هذا المعرض من حفظ جزء من الذاكرة اليهودية المغربية. على امتداد التاريخ شكل اليهود المغاربة الاستثناء في العالم العربي كانت الندوة التي احتظنها الجناح الاسلامي داخل متحف بيرغامون اللحظة القوية في هذه التظاهرة. وهي الندوة التي شارك فيها إلى جانب المستشار الملكي أندري أزولاي كل من نوبيرت لامارات رئيس البرلمان الألماني ومحمد أمين الصبيحي وزير الثافة المغربي وسيرج بيرديغو سفير المغرب المتجول وجاك توليدانو رئيس المتحف اليهودي بالمغرب. وفي هذا السياق قال أزولاي أن الحديث عن اليهود في العالم العربي ليس دائما بالأمر السهل لكن بالنسبة لوضع المغرب فهو ثمرة التعددية التي ترسخت في مجتمعه لقرون خلت، وقال «ما نعيشه في بلدنا هو حقيقة وليس خطابا نسعى من ورائه إثارة إعجاب الآخرين أو من أجل التباهي، نعيشه في زمن وفضاء يشهد ضغوطات وانكسارات في الثقافات والديانات وحتى في التاريخ». مضيفا «نحن المغاربة مدركون جيدا لهذا التميز ، وبأن اليهود المغاربة يشكلون نموذجا متفردا في العالم». إلا أن اندماج الثقافات والديانات التي يعتقد البعض أن زمنها ولى، يقول السيد أزولاي، تعد اختيارا للمغرب الذي يزخر بتاريخ مشترك وبتمازج ثقافة شعبه الأمازيغية والعربية والإسلامية واليهودية مشددا على أن « هذا الطريق الذي كان قدر المغاربة ليس خطابا سياسيا ولكنه توجه نرغب أن نتقاسمه معكم ، توجه محفور في عمق مجتمعنا وتاريخنا». تنظيم هذا التظاهرة لخير دليل على هذا التوجه الذي اختارته المملكة منذ عقود خلت وشكل ذلك مصدر اعتزاز كل المغاربة بدون استثناء، تعزز أكثر مع دستور 2011 الذي نص ذلك بكل وضوح وترجم ما يمز المغرب عن العالم العربي من خلال تأكيده ولأول مرة في مقتضياته على المكون اليهودي والثقافة اليهودية. بحسب أندري أزولاي. من جانبه عبر رئيس البرلمان الألماني (البوندستاغ) السيد لامارت في مداخلته أن هذه الندوة مناسبة ليس فقط للحديث عن اليهود المغاربة ولكن أيضا للاحتفاء بالعلاقات الجيدة القائمة بين المغرب وألمانيا مشيرا إلى أن هذه العلاقات ليست جديدة بل قديمة وأخذت مع مرور الزمن بعدا إضافيا. وأوضح أن الندوة تأتي بعد سنة على زيارته للمغرب حيث حضر حفل إعادة افتتاح كنيس «صلاة الفاسيين» بفاس، معربا عن إعجابه الكبير بالاعتزاز والفخر الذي يشعر به المغاربة اتجاه تاريخ بلدهم العربي المسلم المنفتح على الديانات الأخرى خاصة اليهودية والتعايش معها منذ قرون. وأضاف لامارت أن المغرب يحتضن أكبر طائفة يهودية مقارنة بالعالم العربي مشيرا إلى أن الملك محمد السادس ما فتئ يردد ويؤكد في كل مناسبة على قيمة ثقافة التسامح والتعايش في بلد إسلامي مؤكدا أن تاريخ البشرية وما قدمه الإنسان جميعه قام على أساس ثقافي، ليس في جانبه المتعلق بالإبداع والانتاج الفكري والمعارض بل المرتبط بالسلوك. «إن من يصنع الهوية ليس الاقتصاد أو السلاح بل الثقافة واندماج ما هو ثقافي وديني يولد القوة لذلك، يضيف لامارت. وزير الثقافة محمد أمين الصبيحي، صرح أن المغرب الذي انخرط بشكل قاطع في بناء دولة ديموقراطية وشهدت اختياراته تطورا كبيرا. ولقد تمت ترجمة ذلك من خلال توسيع الحريات وتعزيز حقوق النساء والمؤسسات الديموقراطية مبرزا أن هذا التوجه هو الذي اعتمده الدستور الجديد للمملكة والذي أكد ،في نفس الوقت، على تنوع مكونات الهوية المغربية . أما السفير المتجول، سيرج برديغو، فقد استحضر في عرضه مختلف المراحل التاريخية التي طبعت تواجد اليهود في جميع مناطق المغرب حيث يتقاسمون الثقافة والتقاليد والعادات مع المسلمين مشيرا إلى أن اليهودية دخلت إلى المنطقة في القرن الثالث قبل الميلاد، فاستطاع اليهود العيش في اختلاط دائم مع سكان البلاد في حياتهم اليومية في ظل نظام حسن الجوار والحماية مع القبائل العربية والأمازيغية. وأضاف أن وضع اليهود بالمغرب شهد استقرارا منذ الفتح الإسلامي وتزامن ذلك مع الاضطهاد الذي تعرضوا له بأوروبا حيث تم طردهم حتى أنهم انخرطوا مع الجيوش البربرية المتوجهة إلى الأندلس واكتسبوا وضعية أهل الذمة التي تحترم شؤونهم الدينية والقانونية والقضائية والاجتماعية. وذكر، أن جلالة المغفور له محمد الخامس برفضه تسليم اليهود المغاربة إلى النازيين قدم درسا تاريخيا رائعا سيظل محفورا في الذاكرة الجماعية للمغاربة فيما سار بعد ذلك جلالة المغفور له الحسن الثاني على نفس النهج ثم أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس الذي ظل وفيا لقيم التسامح والتعايش. وأضاف أن دور جلالة الملك رئيس للجنة القدس في البحث باستمرار عن حل سلمي عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي تمنح كل أسباب اعتزاز اليهود المغاربة بمغربيتهم دون أن يؤثر عليهم هذا الصراع بل زادهم إصرارا على العمل من أجل عالم أكثر إيجابية وكرما وإنسانية. الفن والملابس والأكل جزء من الهوية المشتركة في ختام هذه التظاهرة، كان الغناء المغربي الذي يصدح بحناجر متعددة متميزا، هذا بالاضافة إلى عرض للقفطان المغربي من تصميم الفنان ألبير أوكنين. وعن هذه التظاهرة يقول جون ليفي? نجل الراحل شمعون. جون الطبيب المغربي المستقر ببرلين منذ ثماننات القرن الماضي اعتبر أن تنم عن الاهتمام الكبير الذي أصبح يحظى به جزء من الثقافة والتاريخ المغربيين أكثر من أي وقت مضى. وأ هذا له دور تحسيسي هام وإيجابي خاصة وأن لدى العديد من المغاربة رغبة في معرفة تاريخ اليهود المغاربة وإسهاماتهم مشيرا إلى أن الجيل الذي عاش مع اليهود في الفترات السابقة شاخ وبدأ يختفي فيما الجيل الجديد تنقصه المعلومات التاريخية ، لذلك ، يقول ليفي، لابد من بذل مزيد من الجهود حتى يستفيد الجيل الحالي والأجيال اللاحقة.